أجد نفسي مدفوعا للكتابة هذا الأسبوع عن بعض الشؤون والشجون التي قد يعتبرها أو يراها البعض ذاتية ونرجسية، أو ترفا زائدا عن الحاجة، مقارنة بما تعيشه مجتمعاتنا العربية من محن، وكوارث وطنية وقومية، ومن أزمة مركبة ومتداخلة نجد تمظهراتها في حروب أهلية، صراعات مسلحة، إرهاب وتوترات واحتقانات اجتماعية، سياسية، دينية، طائفية حادة، ضمن بيئة يسودها الاستبداد، الفقر، البطالة، والأمية الذي يمس ويخترق ويصادر على نحو مباشر أمنها ومعيشتها وحريتها وكرامتها وكينونتها وحاضرها ومستقبلها.
وسط هذا العج الكثيف من ركام الأسئلة، لا أمتلك سوى البوح بمسرة، قد تكون زخة مطر لسحابة صيفية ضلت طريقها؟ أو قد تضمر ربيعا واعدا للجميع؟ قد تبدو مسرة صغيرة لدى البعض! لكنها تعادل الوجود، المعنى، والكينونة لأنها تلامس فطرة الإنسان وشوقه الأبدي للانعتاق من ملكوت الضرورة، والسير على طريق الآلام والخلاص والتوحد والتفرد التي تمثلها كينونة الحرية!
أنها كذلك بالنسبة للمئات بل لعشرات الآلاف من البشر، ومعهم عوائلهم وأسرهم ومحبوهم على امتداد الأرض العربية، ومن الماء إلى الماء، ممن عانوا ولا زالوا يعانون الأمرين. إنها قضية عامة، جدية، ومؤرقة بامتياز، على خصوصيتها الظاهرة.
كل من جرب محنة الاعتقال، والمنع من السفر، يحتاج إلى مزيد من الوقت، ليس للنسيان فهذا صعب، ولكن لتجاوز آثار المعاناة والإحباط والألم النفسي الشديد، على غرار ما عشته وعاشته عائلتي معي، على مدى أكثر من خمس سنوات متصلة والتي تصل في مجموعها (إذا حسبت الفترة السابقة) إلى قرابة 17 عاماً ما بين الاعتقال والمنع من السفر. حال البرزخ حين يتداخل الحلم (فانتازيا) والحقيقة، الخيال والواقع، في مشهد سريالي، حيث ارتعاشة القلب الوجل الباحث عن اليقين، الشعور الرهيف الدفين بين الحنايا والضلوع، الوهم والأمل المرتجى، القوة السحرية التي تشدنا إلى إيمان العجائز، تصلب عزائمنا ببقايا أسطورة وتعاويذ، لتقبل احتمال الألم والانكسار، ليس مهما أن يكون ذلك إلى الأمام أو إلى الخلف، إلى الأعلى أو إلى الأسفل وفقاً ”لنبوءة” و”تعويذة” العراف سعد الله ونوس التي يطلق عليها ”الأمل”.
مساء يوم الاثنين الماضي، نحو الساعة الثانية عشرة ليلا كنت متلحفاً أثناءها وحدتي واكتئابي، التي يؤنسها جهازي المحمول (الكمبيوتر) الذي اتخذته بمثابة الخل الوفي، كنت منكبا على مراجعة وتصحيح مقالي الأسبوعي لجريدة الوقت البحرينية، على وقع حفيف ”أرجيلة المعسل” (التفاح البحريني) القوي. كنت أقطع رتابة هذا الإيقاع بين الفينة والأخرى، بتناول رشفات من الشاي الغامق الذي لا يجيده سوى الخبراء المحليين في المأتم والموالد الحسينية العريقة، كنت مشدوها بغواية هذا الثالوث ”المحرم” الذي يستثير في الغالب ”ربة” و”راعية” البيت لأنه يحد نشوتها في الامتلاك. في تلك الحالة واللحظة المفارقة، رن هاتفي الجوال، رفعته بتلقائية رتيبة، ما هي إلا ثوان معدودات، وإذ شعرت بأن الأرض أخذت تميد من تحتي أو أنا أميد فوقها. كان مدير مكتب مساعد وزير الداخلية على الجانب الأخر من الخط. تأكد من اسمي ثم حياني بسرعة وأخبرني بأن قرار منعي من السفر الذي استمر لمدة أكثر من خمس سنوات (ومن دون حكم قضائي) قد انتهى. كنت أحاول التقاط أنفاسي بصعوبة، من وقع صدمة الفرح الطفولي المباغت، الذي تلبسني على حين غرة. لم يعطني مدير المكتب أية فسحة من الوقت لاستعادة توازني، إذ أخبرني على الفور بأن مساعد وزير الداخلية للشؤون الأمنية الأمير محمد بن نايف بن عبدالعزيز يريد أن يبلغني شخصياً بذلك.
حين أعاد سموه على مسامعي تأكيد قرار إلغاء منعي من السفر، شكرته بحرارة، مقدرا له التفاتته الكريمة، ومجاملته المعبرة بإبلاغي مباشرة بالقرار، وتساءلت عن مدى إمكان الالتقاء به كمجموعة من المثقفين والكتاب، المعنيين بقضايا الإصلاح وحقوق الإنسان في بلادنا، وقد أبدى ترحيبه وموافقته على الفور
. المكالمة لم تستغرق سوى دقائق معدودة، من حيث ”الكم” لكنها نقلتني ”نوعيا” إلى وضعية ونفسية جديدة، استعدت فيها حقا مكفولا للغالبية الساحقة من الناس في بلادي والعالم، وهو حق مثبت في الدساتير وأنظمة الحكم في غالبية دول العالم، وتضمنه المعاهدات كافة والمواثيق الحقوقية المحلية والعربية والإسلامية والدولية.
ما نغص علي فرحتي وأشعرني بالألم هو استمرار قرار المنع من السفر (ومن دون حكم قضائي) لبعض من كانوا معنا في القضية نفسها وعلى ذات الخلفية (ولغيرهم) وأخص من بينهم الصديق الوفي، ورفيق العمر الشاعر والكاتب والحقوقي علي الدميني وآخرين. والذي أتمنى أن يكون موضوعهم قيد الانتهاء، لما له من انعكاس إيجابي على تمتين وترسيخ الوحدة الوطنية، وتماسك الجبهة الداخلية إزاء مختلف التحديات والأخطار الداخلية والخارجية، خصوصا وأن القضية التي اعتقلوا ومنعوا من السفر على خلفيتها هي قضية رأي ومطالب إصلاحية، رفعت بشكل سلمي ومتمدن للقيادة السياسية وكانت محل تقديرها آنذاك ، كما أنهم كانوا بعيدين بشكل مباشر أو غير مباشر في التورط بقضايا خطيرة، مثل أمن الدولة، الإرهاب، والخيانة الوطنية، حيث يقف جميع أبناء الوطن المخلصين على اختلاف منحدراتهم المناطقية والمذهبية ومواقعهم الاجتماعية، وتنوع مشاربهم الفكرية والثقافية، صفا واحدا وراء القيادة السياسة وبرنامجها الإصلاحي المعلن، وفي الدفاع عن المصالح العليا للدولة والوطن، وتأمين حقوق وحرية وكرامة ووحدة الشعب.
na_alkhonaizi@yahoo.com
* كاتب سعودي
صحيفة الوقت البحرينية في 16-4-2009