صيانة الأمن العربي تتطلب في هذه المرحلة بناء تصورات جديدة وعملية تبعا لتنوع التهديدات والمخاطر وما يستلزم الأمر للدفاع عن هذا الممر المائي ضد الاستهداف الخارجي أو الإرهاب والقرصنة.
أتت معركة عدن في الصيف الماضي، وبعدها افتتاح قناة السويس الجديدة، واستمرار المعارك على سواحل اليمن، لتبرز الأهمية الإستراتيجية الفريدة لشريان البحر الأحمر بالنسبة للأمن القومي العربي بشكل عام، ولدول شبه الجزيرة العربية ووادي النيل بشكل خاص. ترافق ذلك مع صفقات وتعزيز كبير للقوات البحرية المصرية والسعودية، بالإضافة إلى ضخ استثمارات إماراتية والتزامات في مشروع قناة السويس وجنوب اليمن، مما يدفع بالإمارات العربية المتحدة لتصبح لاعبا إقليميا جديدا في المنظومة الإستراتيجية والاقتصادية للبحر الأحمر.
في سبعينات القرن الماضي، كان الرئيس الأميركي الأسبق ريتشارد نيكسون دقيقا عندما اعتبر أن “السيطرة على الخليج والشرق الأوسط هما المفتاح للسيطرة على العالم”. وعندما نراقب اليوم لعبة الأمم الجديدة من مضيق باب المندب وضفاف الخليج، إلى شرق البحر الأبيض المتوسط، والنزاعات من اليمن إلى سوريا، ندرك أننا أمام منعطف في العلاقات الدولية ليس بالنسبة لبلورة موازين القوى بين اللاعبين الإقليميين والدوليين فحسب، بل أيضا بالنسبة إلى رسم الأوجه الجديدة لـ”الشرق الأوسط” أو “إقليم غرب آسيا”، وسيكون ذلك حاسماً بالنسبة للأمن العربي والإقليمي.
ضمن هذا الاطار، تكمن أهمية البحر الأحمر لربطه بين المنظومات الجغرافية الكبرى، ولكونه “شبه بحيرة عربية” إذ يحيط بحوضه ست دول عربية (مصر والأردن والسودان والمملكة العربية السعودية واليمن وجيبوتي) وتبلغ نسبة الشواطئ العربية 90.2 بالمئة من إجمالي سواحل هذا الممر المائي الذي يبلغ طوله 2100 كيلومتر ومساحته 437.969 كيلومترا مربعا، ويضم 379 جزيرة، إضافة إلى مضيق باب المندب وقناة السويس.
شكلت معركة عدن في يوليو الماضي نقطة تحول في مجرى الصراع اليمني منذ سبتمبر 2014، إذ أبرز سقوط صنعاء بيد تحالف الحوثي – علي عبدالله صالح المدعوم من إيران، وتمدد الانقلابيين نحو الجنوب، إسقاطا للشرعية في اليمن، كما سلط الضوء على التدهور الإستراتيجي الذي يمس الأمن العربي لأن اليمن دولة مطلة على البحر الأحمر بمساحة 442 كيلومترا أي بنسبة 8.8 بالمئة من إجمالي سواحل هذا البحر، وكذلك لوجود مضيق باب المندب عند مدخله الجنوبي، ولأن إيران الممسكة بمضيق هرمز، تطمح أن تضيف إلى سجل مكاسبها الإقليمية إمكانية التحكم بالمنصة اليمنية (من جهة البحر الأحمر وباب المندب ومرتفعات صعدة) كي تكرس ما أسمتْهُ “النصر في العواصم الأربع″ ولكي تصبح اللاعب الإقليمي أو الشرطي الإقليمي الذي يستكمل مخطط تمدده من العراق إلى البحر الأبيض المتوسط، إضافة إلى التمركز في بعض الجزر الإرترية والصلات الأمنية مع إثيوبيا.
بيْدَ أن المسعى الإيراني نحو مزيد من النفوذ في البحر الأحمر، وتواجد السفن والبوارج الحربية للكبار من العالم في محيطه لضمان حرية الملاحة العالمية ومكافحة القرصنة في الصومال وجواره، يفسر أيضا ببساطة لأسباب اقتصادية محضة، لكون هذا الشريان قريبا من منطقة الخليج وشبه الجزيرة العربية الغنية بالطاقة والتي تضم 65 بالمئة من احتياطي النفط العالمي، وحوالي 40 بالمئة من احتياطيات الغاز، وتمد هذه المنطقة الاتحاد الأوروبي لوحده بنسبة 60 بالمئة من احتياجاته في الطاقة.
اتصل الصراع على البحر الأحمر تاريخيا بالصراع العربي – الإسرائيلي، وإذا كان المتداول والمعروف هو اندلاع حرب 1967 بعد قرار الرئيس المصري الأسبق جمال عبدالناصر بإغلاق مضيق تيران (خليج العقبة) على الملاحة المتجهة نحو إسرائيل، لكن التبرير المصري القانوني يومها استند إلى “إدانة تحريف التاريخ” وعدم التركيز على قيام الدولة الإسرائيلية الناشئة بالتفتيش على منفذ على البحر الأحمر من خلال احتلال قرية أم الرشراش المصرية في 10 مارس 1949، أي بعد توقيع اتفاقية الهدنة مع مصر في 24 فبراير 1949.
ويجدر التذكير أنه جرى وضع شرم الشيخ ومضيق تيران تحت إشراف قوات الطوارئ الدولية بعد حرب السويس في 1956، وبالتالي فتح خليج العقبة أمام السفن الإسرائيلية بجميع أنواعها، وكانت انطلاقة إسرائيل للإبحار فى البحر الأحمر من خلال ميناء إيلات، وما هو إلا تمدد أم الرشراش كما يقول الجانب المصري. ويقول بعض المؤرخين العسكريين المصريين إنه “جرى إخفاء الموافقة على التنازل في البحر الأحمر عن الشعب المصري الذى أوهموه، حينها، بخروج البلد منتصراً بعد حملة السويس الثلاثية دون أي تضحيات أو تنازلات”.
وهذا التذكير التاريخي، بالإضافة للتحديات الأمنية الجديدة، يفسر تعزيز مصر لترسانتها البحرية بفرقاطات متعددة المهام وبحاملتي ميسترال الفرنسية للطائرات المروحية. ويقول مصدر مصري إن القطع الجديدة ستكرّس لحماية قناة السويس ومضيق باب المندب، ويعني بالنسبة للمراقب الإلزامية البديهية لوجود تكامل إستراتيجي أمني مصري – عربي خليجي للردع أو التموضع إزاء القوى الإقليمية الأخرى المشاطئة للبحر أو التي لها طموحات أو أهداف توسعية في آن معا.
المخاطر المحدقة بالبحر الأحمر كثيرة ومتنوعة ومطردة، إضافة للتواجد العالمي الكثيف على شواطئه وفي جواره خاصة في القرن الأفريقي. وكذلك أصبح النفوذ في هذا الممر، وحوله، هدفاً لقوى إقليمية مترسخة أو صاعدة، وساعد على ذلك الخلل في ميزان القوى الإسرائيلي -العربي، وحرب اليمن وتداعياتها، ومرحلة ما بعد الاتفاق النووي مع إيران.
من الناحية المبدئية، يتطلب صيانة الأمن العربي في هذه المرحلة بناء تصورات جديدة وعملية تبعا لتنوع التهديدات والمخاطر وما يستلزم الأمر للدفاع عن هذا الممر المائي ضد الاستهداف الخارجي أو الإرهاب والقرصنة. لذلك بالرغم من الإشكاليات السياسية والتباينات أتت عمليات “عاصفة الحزم” و”إعادة الأمل” و”السهم الذهبي” في اليمن لتبين إمكانية قيام تعاون خليجي فعال، وتعاون خليجي – مصري – سوداني، وكل هذا يندرج في منظومة البحر الأحمر الإستراتيجية والبالغة الحيوية.
khattarwahid@yahoo.fr
أستاذ العلوم السياسية، المركز الدولي للجيوبوليتيك باريس