في مؤتمره الصحفي الأخير تطرق الرئيس الفرنسي فرنسوا هولاند إلى حواره مع وزير الخارجية العراقي، المعجب بالثقافة الفرنسية وأعلامها من أمثال فيكتور هيغو ولامارتين، وذلك كي يؤكد على أن “العلاقات بين العراق وفرنسا تأخذ بعدا جديدا”، مستندا إلى زيارته بغداد وأربيل الأسبوع الماضي (بعد سلفه نيكولا ساركوزي الذي زار العراق سريعا في عام 2009، هولاند هو ثاني رئيس فرنسي يزور هذا البلد) وإلى “مؤتمر السلام والأمن في العراق” الذي انعقد في باريس أوائل هذا الأسبوع لتتويج تحالف دولي ضد “داعش”.
هكذا بعد أحد عشر عاما على رفض فرنسا في عهد جاك شيراك اتباع واشنطن ولندن في حربهما ضد العراق في حقبة صدام حسين، يحاول فرنسوا هولاند إعادة فرنسا إلى بلاد ما بين النهرين عبر بوابة حرب أخرى، لكن هذه المرة ضد الإرهاب. وهكذا من مالي في الساحل الأفريقي، إلى الشرق الأوسط، يركز هولاند على استخدام القوة العسكرية وعرض العضلات لبسط النفوذ في وقت تضاؤل عناصر القوة عند فرنسا وضمور اقتصادها.
إزاء الفشل الفرنسي في إحراز اختراق في الملف السوري، اعتبر ساكن قصر الإليزيه أن حلفا موضوعيا يجمع بين النظام السوري والجهاديين، وأن استقواء تنظيم داعش وتوسعه ارتبط بقصور السياسات الغربية وخاصة “تراجع واشنطن في أواخر صيف 2013 عن ضرب نظام دمشق بعد استخدام الأسلحة الكيميائية”. ولذلك ما إن برز خطر تنظيم داعش وتغوله إثر معركة الموصل والذي “يهدّد العراق ومنطقة الشرق الأوسط والعالم”، حتى بادرت فرنسا لتفعيل خطوطها مع مسعود بارزاني وحكومة بغداد، وكانت أول دولة غربية ترسل السلاح على عجل إلى كردستان. ومع تفاقم الوضع على الأرض واستهداف داعش للأقليات الدينية والعرقية، وانتشارها في مساحة إقليمية شاسعة في العراق وسوريا، وإسقاط الحدود وإقامة دولة جديدة، رفعت باريس الصوت وزادت تنسيقها مع واشنطن.
أمام التراجع الإيراني النسبي الذي تمثل في إزاحة نوري المالكي وقيام حكومة عراقية أوسع تمثيلا، أصبح من الممكن بالنسبة لواشنطن وباريس وحلفائهما مقاربة المسألة العراقية بأسلوب مغاير في منطقة مُقبلة على متغيرات كبيرة، وعلى حروب وتجاذبات قد تُسفر عن نتائج تؤدّي مفاعيلها إلى إعادة صياغة اتفاق سايكس- بيكو، أو إعادة النظر في أشكال الدول نحو مزيد من الفدرالية.
ووفق التحليل الفرنسي هناك خطر دولي يجب أن يُواجه بجواب دولي، خاصة أن التشكيلات الجهادية المختلفة للقاعدة وأخواتها، يمكن أن تتواصل مع بعضها من بوكو حرام في نيجيريا، إلى داعش، مرورا بحركة الشباب في الصومال. والخطر لا ينحصر ضمن العالم الإسلامي، بل يشمل الدول الغربية المتخوفة من انتقال الإرهاب إليها بواسطة مئات المقاتلين في داعش من حملة جوازات السفر الأوروبية (تقدر فرنسا عدد المنتمين الفرنسيين إلى داعش بحوالي 900 شخص).
انطلاقا من هذه العوامل قرر هولاند المزيد من الالتزام في العراق وذلك لعدة أسباب:
– العراق كان شريكا مهما لفرنسا في السبعينات والثمانينات من القرن الماضي، وراهن “الديغوليون” على هذا البلد المحوري الذي لا يتميز، فقط، بموقعه الجغرافي في قلب الشرق الأوسط والعالم العربي، أو بوجود النفط والمياه فيه، بل يتميز أيضا بوجود مزيج نادر من المكونات الدينية والقومية والحضارية.
فالعراق المشرقي هو موطن المسيحيين والمسلمين والعرب والأكراد والتركمان والإيزيديين. وفرنسا التي خسرت مواقعها بعد حرب 2003، تطمح اليوم لتصويب علاقاتها، وربما الاستفادة لاحقا من “الكعكة العراقية” الشهية.
– البقاء على مسرح الشرق الأوسط والخليج العربي كقوة لها نفوذ، إذ أن العراق يمكن أن يكون منصة لترسيخ الحلف مع الدول العربية في الخليج، وربما لتكثيف الحوار مع إيران.
– التناغم مع واشنطن والتنافس معها في آن معا. وكما كان طموح ساركوزي ربما يحلم فرنسوا هولاند بلعب دور الحليف الوثيق لباراك أوباما في حرب العراق الثالثة، كما فعل توني بلير مع جورج بوش الابن. لكن ليس بالضرورة أن يكون سيد البيت الأبيض راغبا في ذلك. وبدا ذلك واضحا مع النتائج “الهزيلة” لمؤتمر باريس الأخير، وعدم رغبة هولاند في مجاراة أوباما في ضرب داعش في سوريا، ليس بسبب “حرص باريس على احترام حيثيات القانون الدولي”، بل تبعا للتجارب السابقة مع أوباما، ولغموض ملامح الخطة الأميركية حيال سوريا بالذات.
ينتظر أن تشبه الحـرب الجويـة ضد داعش في العـراق، الحـرب الجوية ضد كوسوفو أو عملية الناتو في ليبيا، لكن تداعيات الانخراط الفـرنسي غير مضمونة نظرا لتعقيدات الحـرب ضـد الإرهـاب ومآلاتها وانعكاساتها الإقليمية. لكن الرهان الفرنسي الجديد هو رهان على استمرار التأثير على مجرى الأحداث والدفاع عن المصالح.
منذ قرن من الزمن كانت فرنسا صاحبة القرار في رسم الخرائط، والفارق كبير مع فرنسا اليوم التي تسعى بأي ثمن للبقاء والحفاظ على موقعها في لعبة شطرنج لا نعرف من سيكون فيها الملك، وأين هي القلعة؟
أستاذ العلوم السياسية المركز الدولي للجيوبوليتيك- باريس
العرب