هل جربنا لمرةٍ واحدة أن نتحدث مع ذواتنا ونصغي إليها جيداً ؟
ربما الكثيرون لا يعيرون هذا الأمر أية أهمية تذكر ، ولم يجربوا أن ينصتوا لهمسات الروح ودفقات القلب وتجليات الذات ..
وهل هناكَ ثمة متعة حقيقية في الاصغاء للذات ، أو الغوص في متاهاتها ، واستجلاء مكنوناتها الدفينة .؟
عالم الذات المترامي ، قوامه الرغبات والإرادات والخيالات والاشتهاءات ، فهي التي تتحكم فيه ، وتدفعه إلى ما تريد وما لا تريد ، وما تستحب أن تفعله وما تريد أن تتجنبه ، وما تبحث عنه وما لا تريد أن تبحث عنه ، وتبقى الذات في مجمل دلالاتها المختلفة وتوجهاتها الواعية وغير الواعية ، وفي عبثيتها ونزقها وماديتها وتخيلاتها ، ونزعاتها الحالمة أيضاً ، هي المجال المعبّر بصورة كاملة عن التفكير الداخلي والصوت الخفيض والتوجسات الخفية وربما الفاضحة في بعض الأحيان ، وعن الهواجس الصارخة والخافتة أيضاً ، وحتى عن بعض الجوانب المعتمة في زواياها الحادة ..
وحينما ينزع الفرد للتمركز المكثف نحو الذات ، فأنه بذلك ربما يتجه نحو استنطاق جماليات العزلة والانفراد ، ونحو الإحساس باستطعام مذاق الأشياء من حوله ، وربما هو نزوع نحو الانغلاق والتقوقع والانكفاء والانطفاء أيضاً ، وقد يكون شيئاً رائعاً حينما يريد الإنسان أن ينصت بعمق لصوته الداخلي للتصالح مع ذاته ، ومع ظروفها وتبدلاتها وتقلباتها ، ولذلك ربما نفهم ما قصده وديع سعادة حينما قال : أريد أن أتكلم ، أن أصنع جسراً من الأصوات يوصلني لنفسي ..!!
أعتقد أن هناك فجوة قد تتسع بين الإنسان وذاته إذا أهمل الفرد مسألة الانصات لصوته الداخلي ، وهو الذات بكل تجلياتها وتفسيراتها المنطقية وغير المنطقية ربما ، ولذلك على ضوء عبارة وديع سعادة فإن الأمر يستدعي على الدوام أن نصنع جسراً حقيقياً من الأصوات الداخلية العميقة التي نستشف من خلالها المناطق الخفية في ذواتنا للوصول إلى جوانبها وتعرجاتها وأعماقها الكامنة ، وربما ليس من الضروري أن نعرف على وجه اليقين ما الذي تريده الذات منا في بعض الأحيان ، وقد يكون لجمها عن السير بنا أينما تشاء ، خياراً لا نملك أدواته على وجه التحديد في معظم الأحيان ..
وليس ضرورياً أن نعرف على وجه الدقة كيف تمارس الذات بعض أشيائها ، لأنها ربما لا تملك مبرراً لكل الأشياء التي تمارسها ، فهكذا تأتي الذات في بعض الأحيان ، غامضة متقلبة متكورة نحو داخلها العميق ، باحثة عن منطقة المجهول ، غارقة في المربع الخالي من منطقة التفكير ..
وهل شعرنا يوماً أن الذات قد خذلتنا .. !؟
تخذلنا ربما حينما تصبح الذات هي الآخر النشاز .!! وليس الآخر هنا الذات الأخرى ، إنما ذات الإنسان نفسه ، وهنا قد تخذلنا في الصميم ، لأنها تبقى عصية على التصالح والانسجام والتوافق ، وتبقى دائماً مُتهمة بالتمرد والشرود والعصيان والانفلات ، وقد لا تخذلنا الذات ، حينما تستطيع أن توفر امكانيات التوافق وأجواء التصالح ومستلزمات الانسجام
، وحينما تظل مسكونة بتصيّد الهنات وحالات الضعف التي تنتاب النفس البشرية ، ومحاولة إدارتها أو ترميمها أو معالجتها والانفكاك منها ..
وقد نجد في ذواتنا بديلاً رائعاً عن وحدتنا الاجتماعية وانعزاليتنا الثقافية في الحياة الواقعية ، لأننا في بعض الأحيان نهرب منها ومن ثمَّ لا نلبث أن نعود إليها حالما نكتشف أن ما نعايشه في الواقع ليس إلا واقعاً افتراضياً أو مصطنعاً أو ميكانيكياً أو ممكيجاً أو مموهاً ، ويكمن الواقع الحقيقي في ذواتنا ، وهنا ربما يصح ما توصل إليه الكثيرون ، من أن الانتماءات كلها وهم ، والحقيقة الكاملة أو المؤقتة على أقل تقدير هي الذات ، ذات الإنسان الواقعة في أتون البحث الدائم عن تساؤلاتها الحائرة واستنطاقاتها التفكيرية وحالاتها الحقيقية ، وهي التي ربما تملك أن تتجاوز منطق العدائية مع ذات الآخر ، لمجرد أن الآخر يختلف في الهوية أو العرق أو التراث أو الدين ..
وحينما نجد أن كل ما حولنا قد احترف ارتداء الأقنعة المزيفة ، تصبح الذات في مقابل كل هذا الزيف هي وحدها التي تمتلك الشفافية والوضوح ، لتخرج عارية على الملأ ، إلا من صدقها وصراحتها ونبل مقاصدها ..
وقد تحمل منظومة الذات بين جنباتها ذواتٍ متعددة ، قد تتقابل وتتقاطع في نقاط محددة ، أو قد تنسجم أو قد تتنافر ، ولكنها في النهاية هي ذوات لا يمكن لها أن تكون خارج المنظومة الواحدة للذات ، وبمعنى آخر فهناك الذات المهمومة والسعيدة ، والذات المهزومة والمنتصرة ، والذات الساخطة والراضية ، وهكذا تحوي الذات كل هذه الذوات المتناقضة في كينونتها ، وهذا المزيج الهائل من المتناقضات في الذات الواحدة ، قد لا يعني أن الذات مصابة بالشرخ ، أو إنها تعاني من التشظي والتلاشي حد العدم ، ربما على العكس تماماً ، فهذه المتناقضات هي حالات الذات في سياقها الطبيعي وفي مستوياتها وتأثراتها ، وهي في نهاية الأمر ، أي المتناقضات هذه قد تساعد الذات على ترميم ما يتداعى منها ، وترسخ ما استحوذت عليه من تعزيزات ضرورية لبقائها على قيد التواصل الخلاق مع الحياة ..
وربما يقودنا هذا الكلام إلى الحديث عن الذات الإيجابية التفاعلية والانفتاحية ، تلك التي لا تنساق إلى التشبث بالماضوية الثقافية وبالتالي ليست مسكونة بثقافة تنزيه التراث وتقديس الهويات الضيقة للدفاع عن وجودها ضد الذات الأخرى ، والتي عادةً ما تكون موجودة دائماً على الطرف الآخر من العالم ومن الوجود ومن العلاقات ومن التحاور والتعايش ..
ولذلك أجد أن الذين يؤمنون بحقيقة أن ( الآخر هو أنا ) محقون تماماً في فهم الذات ، وفهم حيويتها الحضارية والثقافية ، واستيعابها لاستحقاقات عصر الحداثة ، لذلك لا يلجأون إلى رهن الذات لمفاهيم الانغلاق والتوحش والماضوية والاستعلاء والاستئصال والاقصاء ، بل تتماهى ذواتهم مع ذوات الآخرين ، بعيداً عن انتماءات الهوية والدين والعرق ، ويصبح تماهي الذات مع ذات الآخر انفتاح فكري وثقافي وحوار داخل الذات الواحدة ، وتداخل حيوي فيما بينهما بقصد الوصول للمشترك الكوني والإنساني ضمن التعددية الذاتية الثقافية إذا جاز لنا التعبير ..
كاتب كويتي
tloo1@hotmail.com