تصطدم عملية تنظيم الواقع السياسي العربي في ظل الثورات بمصاعب طبيعية. فعملية الانتقال من الديكتاتورية، حيث تقرر مصير البلاد فئة صغيرة من الأفراد، إلى الديموقراطية، حيث يتحول الشعب إلى مصدر السياسة، ليس أمراً سهلاً على المجتمعات العربية. ففي لحظة التخلص من الديكتاتورية تكتشف المجتمعات العربية أنها فتحت الباب واسعاً لانفجار الملفات الكثيرة التي راكمتها عقود الإلغاء والتهميش. لقد وصلت الشعوب في منطقتنا الى مرحلة التمرد على واقعها الذي لم يلبِّ الحد الأدنى من العيش الشريف والكرامة اليومية والحرية المحفوظة. وعلى رغم معرفة المجتمعات بما سيلاقيها في اليوم التالي على الثورة، إلا انها قررت ان تخوض غمار الجديد عوضاً عن الارتماء في أحضان القديم الديكتاتوري.
الثورة هي الأخرى طبيعة إنسانية أزلية ضد وضع خاطئ واستبداد مزمن. فتحصن الأنظمة غير العادلة بقوانين وجيوش وأجهزة أمنية لا يحميها من شعب اكتشف حريته ومكانته وقوته. إن السلطة بطبيعتها مفسدة لأنها مغرية وتعزز في صاحبها الميل الى التجبر، بينما طبيعة الإنسان تميل الى المساواة وتقليل الفوارق واعتناق الحرية.
لكن الافراد والمجتمعات، من جهة اخرى، يتقبلون السلطة لأسباب تتعلق بالضرورة التي ترتبط بالامن الانساني الاوسع. فالسلطة شر لا بد منه وحاجة تفرضها ظروف نشوء الدول وتطورها. لكن هذه الضرورة تتحول الى مصدر صراع وخلاف عندما تفقد حياديتها وتتحول للقمع والاستئثار والاحتكار. إن التناقض بين الانسان وطبيعته وبين اغتصاب السلطة من جانب أقلية او حزب او تيار أو طائفة او عائلة أو قبيلة او جماعة او فرد هو الذي يتحول في لحظة تاريخية الى ثورة. فهناك علاقة طردية بين غرور السلطة واحتكارها وتدخلها في شؤون الناس وتقييدها للمجتمع وحريات الأفراد وبين استعداد المجتمعات للثورة والتصدي والمقاومة. إن الثورة ضد الاستبداد أمر حتمي ينتظر فرصة ولحظة انفجار، وما السكون والصمت اللذان يسبقان الثورات إلا تعبيراً مخادعاً عن حالة غير طبيعية تنتظر التحول.
هذا يعني أن الطبيعة البشرية تحركها الحاجة لتقليص دور السلطة وتحديد مهماتها وحدود تدخلها في حياة المجتمع والفرد. إن حرية التعبير والحرية الشخصية والسياسية والانتخابات الشفافة والتداول السلمي على السلطة من المسائل التي يصارع من أجلها المجتمع العربي الآن. وهذا يفسر استمرار الثورات بعد الثورة، كما يفسر خوف المجتمعات العربية من ديكتاتور جديد مهما كان غطاؤه: الامن، الجيش، أم الدين والقانون الديني؟
الانتقال السياسي في ظل الربيع العربي قاس وصعب لأنه جديد وغير مجرب ويصطدم مع ما تبقى من القوى القديمة وما برز من القوى الجديدة. لهذا يستمر الصراع في مصر حول دور العسكريين في السياسة. فمع كل يوم تتغير المعادلة ويزداد الوعي بشروط الدولة المدنية والدولة التي لا يحكمها الجيش. وفي الوقت نفسه تتعمق حالة المبارزة بين تطبيق مفهوم محدد للشريعة يقوم على استخدام الدولة كسلطة دينية وقمعية وبين مفاهيم حقوق الانسان والحريات وحقوق الاقليات والمرأة. إن الصراع الناتج من هذا التناقض هو الاساس الذي يتحكم بآفاق المقدرة على بناء الجديد من براثن القديم.
في كل مكان هناك انتقال مرتبط بصورة مباشرة او غير مباشرة بالربيع العربي. ففي الكويت، وقع انتقال في صناديق الاقتراع وفي أفكار المجتمع وتصوراته وسقفه السياسي. وقد حصل انتقال آخر في البحرين، لكنه عبّر عن نفسه من خلال ثورة لم تكتمل بعد قمعها. ومع ذلك وقع الانتقال البحريني في عقول الناس وأرواحهم وربما يقع بعد حين في فهم النخبة للمشاركة والتقاسم.
ونكتشف أن لكل انتقال ظروفه وتعبيراته، فهناك حالة تغير قطعت شوطاً مهماً كما في مصر وتونس، وهناك مجتمعات في البداية مثل ليبيا واليمن وأخرى تتفاعل مع حمم الانتقال مثل سورية، بينما هناك مجتمعات تبحث عن شروط التغير مثل الكويت والبحرين وغيرهما.
المجتمعات العربية التي لم تمر بمرحلة الثورة أو الحراك المفتوح العلني نجدها تفكر، تراقب، تدرس، تقرأ وتشاهد، بينما تنتظر فرصتها في تحقيق ما يجدد واقعها. إن سكوتها هو الآخر خادع ولا يعبر عن غياب المشهد الثوري الممكن حدوثه. إن المجتمعات التي لم تثر قد تجد ابان الشهور والسنوات المقبلة طرقاً مختلفة وصفقات سياسية كبرى توفر عليها حالة الثورة الشاملة. هذا سيتوقف على طريقة تعامل نخبها السياسية الراهنة مع الشأن السياسي وقضايا الحقوق والحريات والفساد والانتقال. الصفقات الكبرى قد تؤدي في جوهرها الى تغير طبيعة الدول في العالم العربي من دول تسلطية فيها استفراد كبير للنخبة الى دول تشاركية وديموقراطية أقل تدخلاً في حياة الفرد والناس واكثر انفتاحاً على الحريات والحقوق والتنمية الانسانية ومبدأ التداول على السلطة. هذا انتقال تاريخي يأتي الينا في ظل مخاض الثورات العربية.
وفي مراحل الانتقال تعيش الغالبية الصامتة التي تبحث عن الاستقرار في تناقضات جمة. فهي تشعر بانفصام بين عاطفتها الجياشة التي تؤيد ثورة الشباب وبين عقلها الذي يقبل بالحلول الوسط. وهي في الوقت نفسه تجد أنها تنجر المرة تلو الاخرى الى مواجهات لا حصر لها نتيجة مغالاة القوى الأمنية وسوء إدارتها وسعيها للحسم الامني. الغالبية الصامتة تعيش انتظاراً طويلاً قبل ان تحسم امرها، لكنها عندما تحسم امرها من الصعب أن تعود الى الهدوء. ففي لحظات تاريخية محددة تتحول الغالبية الصامتة الى الثورة وتبدأ بإبراز قدراتها.
خلال الانتقال يسيطر الخوف والمجهول. فالاسئلة أكثر من الأجوبة والأجوبة تكاد لا تفي بالحاجات الملحّة. في الانتقال يبدو العالم وكأنه ينهار، وهو فعلاً ينهار ويتغير في كل يوم، وقلّما نستطيع ان نرى صورة العالم الجديد الذي يتشكل، ذلك أننا في خضم الصراع والاحداث نبحث عن تفاصيل ونعيش مع مآسٍ بينما يستمر سيل الشهداء. خلال الانتقال هناك يوم إيجابي وآخر سلبي، يوم استقرار ويوم فوضى، يوم دموي وأيام مشمسة وأخرى لدفن الشهداء. الانتقال قاس وشاق في مجتمعات عاشت طويلاً مع الديكتاتور والتسلط والنظام القضائي المنحاز والجيوش المسيّسة والامن المسيطر والعنصرية المقززة والتميز والتفرقة التي تمارسها الفئات المسيطرة في البلاد العربية. الانتقال قاس في بلاد اعتادت على الفساد وأكلت وشربت وشرّعت من اجله. الانتقال صعب في بلاد حققت الاستقلال منذ عقود لكنها احتقرت شعوبها واعتقدت أنها دمرت روحها الانسانية وحس التمرد فيها.
* استاذ العلوم السياسية في جامعة الكويت
Twitter @ShafeeqGhabra
الحياة