مرة اخرى: ضحية التحرش الجنسي هي المسؤولة الاولى والوحيدة عن حدوثه. وهذه المرة: مروى، «فنانة» الفيديو كليب اللبنانية التي يصفها البعض بـ»الخلاعة»، تعرضت في شاطىء النخيل الاسكندراني لهجوم من شباب هائج في محاولة اغتصاب جماعية أثناء واحدة من حفلات الغناء الدارجة هناك صيفاً. شيء يشبه محاولة اغتصاب جماعية. انفضّت محاولتهم «على خير»، وقد وثّقت لها صور اللمس العنيف لمناطق حساسة من جسد «الفنانة».
مرة اخرى: الحق على الانثى، على «الفنانة». لِمَ؟ كان هناك خللٌ تنظيمي: عدد الحراس (البودي غارد) المولجون بحراستها قليل مقارنة بعدد الشباب من الجمهور! «الفنانة» لم تكترث. نبّهوها. ولكن غلبت عندها النجومية على ما عداها… لم تكن لتحسب هذا الحساب. هؤلاء الشباب هم الذين اوصلوها الى النجومية… بدأبهم على كليباتها، وحضورهم «المتحمّس» لحفلتها.
لكن الغلطة غلطتها بحسب الاعلام الذي تناولها: لماذا؟ لأنها عانَدت قلّة عدد الحراس واطمأنت اكثر من اللازم الى هؤلاء المحبّين. احد الموسيقيين الكبار، المتخصص في تلحين اغنيات المطربين «القديرين» و»الجادين»، ذهب أبعد من ذلك: قال ان محاولة الاغتصاب الجماعي هذه هي «جزاء» للفنانة مقابل «الغناء والمسخرة» اللذين تقدمهما «بجسدها وكلامها المبتذل». خاتماً «تحمد ربها انها طلعت سليمة وما تقتّعتش (لم تُقطّع) ليلتها».
مرة جديدة مختلفة وعلى المنوال نفسه: عندما تحرّش رجال الامن بالناشطات والصحافيات والمحاميات المتظاهرات ضد الاستفتاء الرئاسي عام 2005؛ وعندما هجم رهطٌ من المسعورين في الايام الثلاثة الاول لعيد الفطر الماضي في شارع طلعت حرب على كل امرأة غير مصحوبة برجل، وراحوا يخلعون ملابسها، أو تماما مثلما فعل رجال الامن قبلهم بسنة، أكانت هذه المرأة سافرةً او محجبة اومنقبة لا فرق… ماذا كانت الرسالة وقتها؟ «ماذا تفعلن في الليل من دون محرم…؟ اين مكانكن الطبيعي…؟».
ومؤخراً، قبيل حادثة «الفنانة»، كانت واقعة اغتصاب الطفلة هند، وعمرها تسع سنوات. اشتهرت الواقعة لأن والدي الطفلة قررا الاحتفاظ بالجنين الناجم عن الاغتصاب، ورفع قضية الى المحاكم وعدم القبول بتزويج هند لمغتصبها، كما يحصل عادة عندما يُكشف المغتصب وتتم «تسوية القضية» معه. ماذا قيل وقتها أيضا؟ لُعن الاغتصاب طبعاً. ولكن وُجد من يحمّل الطفلة المسؤولية ومن على منابر الاعلام. اي عالياً… عميدة الازهر السابقة، وهي نجمة تلفزيونية ايضا، افتت بمعاقبة هند ووالديها «بالجلد بالكرباج السوداني». وذلك لأنهم، برأي فتواها، «أشاعوا الفحشاء». اما زميلها في مجمع البحوث الاسلامية، فقد افتى بإلزام الانثى الحجاب، قبل بلوغها السن الشرعي له، أي البلوغ. وذلك منعا لإثارة الغرائز والفتنة بين الصبية والرجال.
بحسب المجلس القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية، تشهد مصر 20000 حادثة اغتصاب في السنة. 60 في المئة من تلك الحالات تتم داخل العائلة؛ اي زنى محارم. اما الباقي فخارجه. الظاهرة الجديدة التي يلحظها البحث ان هناك فئات مهنية اخرى، من غير العاطلين عن العمل، دخلت على هذا «الخط»: اطباء، رجال دين، مدرسين، رجال شرطة.
متى بدأت الظاهرة بالتفشّي؟ تصاعديا بدءا من الثمانينات، ومذذاك لم تتوقف. في الخمسينات والستينات، لم يكن الاغتصاب ظاهرة. لم يكن التحرش بالنساء يأخذ طابع النيل من سلامة الجسد الانثوي وسيادته. وهذه مفارقة جديرة بالتوقف: فعندما كان جسد النساء «عاريا» على ما يُقال اليوم، كانت له حرمته الخاصة. لم يكن الاعتداء عليه هوسا عاما. اما الآن وبعدما غُطي الجسد الانثوي، منعا لـ»الفتنة»، وصار الحجاب فريضة عادية، والنقاب فريضة محمودة… يتعرض الجسد الانثوي لإستباحة غير مسبوقة.
ما الذي تغير مذذاك حتى اليوم؟ تبدلت العلاقة بين الجنسين. تعرضت ملامح الذكورة والانوثة لتغييرات سريعة ومضطربة. الذكورة أولا: كانت واثقة ومتأملة. اجتاحتها ثقافة الفصل والحجب والحذر والفتنة والاثارة، ثقافة الكراهية والحروب. في هذه الاثناء كانت احوال النساء تبدّلت. فصرن حاضرات اينما وقع النظر، الواقعي والافتراضي على السواء. تجاوزت فتنتهن الفصل والحجب. فكان جوع جنسي، ظمأ جنسي، توحّش جنسي منفلت… ترويه الإثارتان، الدينية وإثارة الفيديو كليب.
الأنوثة ثانيا: المتعايشة مع الفريضة، بإعتماد الهندام الرهباني أو بالتحايل على ضغط الفريضة، بقبولها… ولكن من غير طمس مفاتن الوجه والجسد. انوثة طريدة تبحث عن صياد. تماماً مثل تعابير «فنانات» الاغراء الكليبية. مكر وسحر وذكاء «الحريمي» معطوفة على حضور عام هو الى تصاعد. وافضل ما يعبر عن هذا الالتباس رسم كاركاتوري في مجلة «كاريكاتير» المصرية (عدد 37. آب/اغسطس): امرأة ممشوقة على شاطىء البحر بالبيكيني، ولكنها محجبة… تقول على الهاتف لمن يبدو انه زوجها: «ما تخافش علي يا حبيبي… انا بسمع كلامك ومش باخرج غير وانا مغطية شعري».
الذكورة والانوثة متخندقتان الآن. انهما في حالة حرب وجبهات… الدين والجنس مجالهما. ودعاة الدين لهم ابوابهم المتميزة. عصر الحرب بين الجنسين هو عصرهم؛ وهم لم يقصروا في خوضها. كتلة «الاحوان المسلمين» في البرلمان المصري تناولت في آخر اجتماعاتها «التصدي لمشروع قانون تحريم الختان. دراساتهم اثبتت شرعية ختان الاناث… يقابلها فتوى من الداعية التلفزيونية نفسها، عميدة الازهر السابقة، تجيز فيها عملية رتق غشاء البكارة في حالات الإثم والاغتصاب والسهو… لا بل جواز كتمان العملية عن الزوج المقبل. اية ثقة سوف تُبنى بين الجنسين… اية خنادق سوف ترتفع بينهما بوحي من دراسة تشرّع لإستباحة جسد الاثنى الضحية؛ وبوحي من فتوى تبيح الكذب الصريح لنفس هذه الضحية على جلاّديها؟!
dalal_el_bizri@hotmail.com
الحياة