بوتين يجد في الانفتاح السعودي فرصة للتعويض عن أي خسارة في سوريا والسوق الإيرانية، أما القيادة السعودية فتعتقد أن ضمان المصالح السعودية يقتضي تغيير الرهانات والمخاطرة.
منذ تبوؤ الملك سلمان بن عبدالعزيز سدة العرش السعودي، تتلاحق التطورات الداخلية والإقليمية، وتتعامل معها القيادة الجديدة في مسعى واضح لتحسين آليات الحكم وتأمين استقرار البلاد، والدفاع عن دور المملكة العربي والإسلامي والدولي في وجه التوسع الإيراني ومخاطر التطرف وتغير الأولويات الأميركية. بعد إطلاق “عاصفة الحزم” بهدف الدفاع الوقائي وتغيير ميزان القوى الإقليمي، لم تسمح القمة الأميركية – الخليجية في كامب ديفيد بترميم الثقة بين واشنطن والرياض. وفي الأسابيع الأخيرة تفاقم الاحتقان الإقليمي مع استمرار العمليات في اليمن وتدهور الوضع في العراق وسوريا، لذا تجد الرياض نفسها أمام منعطف دقيق لأن استهداف المملكة العربية السعودية وبلاد الشام وسط غياب إستراتيجية أميركية ناجحة لمقاربة الوضع برمته، دفع بالمملكة لاتخاذ قرار بإعادة تموضع سياستها الخارجية، حيث كشفت العمليات العسكرية في اليمن عن حذر أميركي حيالها، وعن استنكاف باكستان الحليف المفترض، وكذلك عن تردد لافت لبعض الأقربين. وهذا يفسر بدء إعادة النظر بالإستراتيجية السعودية والاستدارة نحو موسكو، بعد تمتين العلاقة مع باريس، وتعزيز الصلات الاقتصادية مع كبار اللاعبين الآسيويين.
في سياق لعبة الأمم الجديدة من باب المندب والخليج إلى شرق البحر الأبيض المتوسط، نشهد العديد من اختبارات القوة بين اللاعبين الإقليميين والدوليين، ومما لا شك فيه أن روسيا التي حققت حلم قياصرتها في الوصول إلى المياه الدافئة، تحاول الحفاظ على مكاسبها إذ أنها تنازلت بشكل محدود داخل مجلس الأمن بخصوص الملف اليمني الذي لا يعتبر من أولويات سياستها الخارجية، وأخذت تلوح باحتمال تغيير موقفها من الرئيس بشار الأسد.
وبينما لم تفلح إستراتيجية باراك أوباما في احتواء خطر داعش أو حل المشاكل الإقليمية، يبدو أن تقاطع المصالح خاصة في سوق الطاقة وإعادة النظر بالخيارات الدبلوماسية من قبل الطرفين، قد يسمح بتأسيس صلة روسية – سعودية تكون أحد بدائل الرياض عن علاقتها المميزة مع واشنطن التي كانت في طور التراجع ويمكن أن يمسها، في الصميم، الترتيب الأميركي – الإيراني المنتظر الذي لا يراعي المصالح السعودية والخليجية والعربية حسب وجهة نظر الرياض.
ضمن هذه الأجواء، أتت زيارة الأمير محمد بن سلمان بن عبدالعزيز ولي ولي العهد السعودي وزير الدفاع إلى روسيا، هذا الأسبوع، واجتماعه بالرئيس فلاديمير بوتين والإعلان عن توقيع ست اتفاقيات إستراتيجية، على رأسها اتفاقية تعاون في مجال الاستخدام السلمي للطاقة النووية (خلال الزيارة أعلم الجانب السعودي الروس عن قرار ببناء ستة عشر مفاعل نووي سلمي وسيكون لموسكو نصيب كبير في هذا الإطار)، وتفعيل اللجنة المشتركة للتعاون العسكري والتعاون في مجال الفضاء، إضافة إلى اتفاقيات تعاون في مجال الإسكان والطاقة والفرص الاستثمارية. ناقش لقاء سان بطرسبورغ الوضع في الشرق الأوسط واليمن وسوريا، ومكافحة تنظيم داعش إلى جانب العلاقات الروسية – السعودية الثنائية، وزيادة التعاون الاقتصادي بين البلدين. وأبرز دليل على نجاح اللقاء إعلان الأمير محمد بن سلمان، عن زيارة قريبة لروسيا يقوم بها خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز، تلبية لدعوة من الرئيس الروسي فلاديمير بوتين.
سنكون إذن أمام معطى إستراتيجي بالغ الأهمية في الشرق الأوسط، إذا تم تطوير الانفتاح إلى تقارب بين موسكو والرياض، مما سينعكس على ريادية موقع واشنطن وعلى مجمل المشهد الإقليمي.
منذ نهاية عام 2011، أصبح الملف السوري ملفا خلافيا بامتياز بين المملكة العربية السعودية والاتحاد الروسي، ويسود الاعتقاد أن اعتماد بوتين نهجا أكثر مرونة يمهد لتغيير تدريجي في سوريا، يشكل مدخلا لتطبيع متسارع مع الرياض، وإعطاء زخم للعلاقات الثنائية. تعوّل الرياض على قبول روسيا بتعديل في تفسيرها لوثيقة جنيف 1 وتحديدا عبر إقصاء بشار الأسد من المرحلة الانتقالية. ومما لا شك فيه أن التحول في ميزان القوى في الميدان لصالح المعارضة العسكرية للمرة الأولى منذ ربيع 2013، بالإضافة إلى زيادة نفوذ داعش، أسهما في خلخلة المقاربة الروسية المنحازة كليا للنظام.
ويقول مصدر روسي أن أبرز الخبراء والمستشارين الروس غادروا سوريا، وأن تزويد دمشق بالعتاد والذخيرة لم يعد منتظما كما كان في 2014. ومن الواضح أن “الصفقات الاقتصادية” و“الاتفاقيات الإستراتيجية” و“التعاون في سوق الطاقة” لا تشكل لوحدها عناصر التفاوض السعودي، بل أن مستقبل الدولة السورية والنفوذ الروسي في العالم العربي ومخاطر انتشار التطرف، تمثل وسائل إضافية لحث الرئيس بوتين على صياغة موقف جديد، لناحية حماية ما تبقى من المؤسسات ودور المكون العلوي قبل أن تتفكك كل البلاد مع زيادة نفوذ الأطراف الخارجية.
ويلاحظ أحد المتابعين أن موسكو، كما الرياض وواشنطن وباريس، تتمسك بوحدة الأراضي السورية، فيما تميل إيران إلى قبول استمرار النظام الحالي على جزء من سوريا لضمان مصالحها وديمومة محورها الإمبراطوري وتواصله مع لبنان.
ومن الانعكاسات المحتملة للتقارب الروسي – السعودي، عدم اقتصار ربط الأمن الخليجي بالتحالف مع واشنطن والغرب، وبلورة شراكة مع روسيا لحماية المصالح الخليجية على ضوء الانقلاب الذي سيحدثه الاتفاق الأميركي – الإيراني، وسيكون هناك بالطبع جهد سعودي من أجل بقاء الموقف الروسي من اليمن بعيدا عن إغراءات إيران وتأثيرها.
بالإضافة للملفين السوري والإيراني، وبحث التبادل العسكري والتعاون النووي السلمي، لم يغب موضوع أسعار النفط الخام. في الماضي القريب كانت القيادة الروسية تشكك باستخدام الرياض سلاح النفط لليّ ذراع طهران وموسكو في اختبار قوة إقليمي. وما تسرب عن زيارة الأمير محمد بن سلمان الأخيرة كان في تقديم طمأنة سعودية لموسكو بهذا الصدد، وتعدى الأمر ذلك نحو التطرق إلى احتمال قيام تعاون في سوق الطاقة في مواجهة إغراق السوق بالنفط الصخري الأميركي وهو بمثابة “منافس النفط الخام السعودي والروسي في آن معا”.
هكذا تختلط البيادق على رقعة الشطرنج في غرب آسيا والخليج والشرق الأوسط، ويبدو أن القيصر بوتين يجد في الانفتاح السعودي فرصة للتعويض عن أي خسارة في سوريا والسوق الإيرانية، أما القيادة السعودية المتذمرة من إدارة أوباما فتعتقد أن ضمان المصالح السعودية يقتضي تغيير الرهانات والمخاطرة للوصول إلى مشهد إستراتيجي جديد.
khattarwahid@yahoo.fr
أستاذ العلوم السياسية، المركز الدولي للجيوبوليتيك باريس
العرب