إستماع
Getting your Trinity Audio player ready...
|
(الكاريكاتور: أمجد رسمي)
*
سأهنئ نفسي أولاً ومواطني الدول العربية ثانياً بأن حلم الوحدة العربية -الذي طرحته معظم الانقلابات العسكرية التي حدثت في العالم العربي تحت شعارات قومية وأطلقت على حركاتها الانقلابية مسميات ثورية- لم يتحقق، وبأن كل محاولات التقارب بين الدول العربية باءت بالفشل. وفرحي بحالات انهيار كل محاولات التوادد بين الأنظمة العربية الحاكمة لا يعود بالتأكيد إلى دوافع استعمارية، ولا لأني أحد أفراد الطابور الخامس لا سمح الله، وإنما لأني طالما رأيت في حلم الوحدة العربية بالشكل الذي طرحته كل الانقلابات العسكرية الثورية العربية (التي صادرت ما كان متاحاً من بقايا حرية في الأنظمة التي انقلبت عليها) دولة شمولية كبيرة مغلقة بإعلام عقائدي مسيّس، تلفزيونه يستبدل الخبر بالخطاب ويسيّس المعلومة، وسينماه تستبدل جماليات الفنون السبعة بدروس التربية العقائدية، وتحوّل المجتمع العربي إلى مجموعة من الكلخوزات والسوفخوزات، صورته الاعلامية الوحيدة هي الفلاح يحب الجرار أكثر مما يحب حبيبته أو زوجته، والعامل يفضّل رائحة عرقه على عطر “أكوا دي جيو”، وكل ما على الأرض من المحيط إلى الخليج يلهج باسم وفضل الزعيم الملهم الأمين العام قائد الثورة الذي تحتاج قراءة الصفات التي تميزه، والوظائف التي يشغلها، والمهام الملقاة على عاتقه، والانجازات التي قام بها إلى نصف ساعة على الأقل من زمن أية نشرة أخبار تلفزيونية وعلى لسان أسرع مذيع في العالم. ولهذا السبب فأنا أعتبر الخلافات العربية العربية التي لا تتوقف بل تزداد وتتنوع تعود إلى رحمة إلهية بشعوب هذه المنطقة من العالم، إذ بفضلها -ولأن أغلب إن لم أقل كل القنوات التلفزيونية العربية رسمية أو شبه رسمية، ممولة علناً أو سراً من هذه الدولة أو تلك- يستطيع المشاهد العربي أن يسمع رأياً آخر وفكراً مختلفاً ووجهات نظر متباينة، وإن كانت كلها رسمية ومسيّسة وعقائدية بمستويات متفاوتة. وبشيء من المحاكمة الذهنية وعبر انتقال سريع بين “العربية” و”الجزيرة” و”أخبار المستقبل” والـLBC اليوم، يمكن لمشاهد متوسط الذكاء أن يفهم أي حدث كما حدث وليس رؤية هذه الدولة أو تلك الجهة لكيفية وأسباب وأهداف ومغزى حدوثه.
ولد التلفزيون العربي من بطن الأنظمة العربية في ستينيات القرن الماضي، وعومل دائماً باعتباره بوقها وصوتها. ورغم الثورة المرعبة التي شهدتها وسائل الاتصال الجماهيرية بشكل عام والبث التلفزيوني الفضائي بشكل خاص بدءاً من تسعينيات القرن الماضي، والتطور النوعي الهائل الذي حدث عالمياً في مجال الحريات وحقوق الانسان عالمياً مع وبعد سقوط الاتحاد السوفييتي، أقوى قلاع القمع العقائدي في العالم ومنظومته الاشتراكية، والذي ساهمت فيه الصورة التلفزيونية الغربية بشكل كبير، رغم كل هذه الأحداث الكبرى علمياً وعالمياً لا يزال التلفزيون العربي حتى اليوم يعتبر صوت سيده وبوق نظامه. ولذلك نرى أن أحد أهم الأهداف التي يضعها قادة أي انقلاب في العالم العربي أمام أعينهم خلال تحضيرهم لانقلابهم الاستيلاء على مبنى التلفزيون. وحتى في أفضل حالاته حرية وانفتاحاً، بغض النظر عن شعارات الرأي والرأي الآخر والاستقلالية والموضوعية التي نراها تظهر على العديد من شاشات المحطات التلفزيونية العربية، لا يزال الاستخدام السياسي العقائدي للتلفزيون يأتي في قائمة أهداف إنشاء أية محطة تلفزيونية عربية، رسمية أو شبه رسمية، وحتى قبل التفكير في جدواها الاقتصادية أو ربحيتها.
لكن هذا الاستخدام الأيدلوجي العقائدي للتلفزيون العربي اختلف دائماً باختلاف النظام السياسي الذي يحكم الدولة أو الجهة التي تتبع لها المحطة. فالمباشرية والعقائدية المغلقة والصارمة لخطاب تلفزيونات مصر عبد الناصر والعراق صدام حسين فيما ما مضى، والتلفزيون السوري والليبي وقناة “المنار” اللبنانية حالياً يختلف عن خطاب باقي المحطات العربية التي تقتصر محرماتها على الأنظمة والأسر الحاكمة، بدون أن يمتد إلى مختلف نواحي الحياة التي تطالها التربية العقائدية وتحكمها النظريات الثورية للأنظمة ذات التوجهات الايديولوجية الثورية الانقلابية.
كما يختلف الاستخدام الأيدلوجي العقائدي للتلفزيون العربي بين المحطات الرسمية أو المستقلة شبه الرسمية. فالحرية الممنوحة لقناة “الجزيرة” من قطر أكبر من مما هو متاح للقناة القطرية الرسمية. والمساحة التي تتحرك فيها قناة “العربية”، السعودية التوجه والتمويل أوسع من تلك يتحرك فيها التلفزيون السعودي الرسمي. والهامش الذي تتمتع به قنوات مثل “دريم” و”المحور” المصريتين ليس متاحاً أمام القنوات المصرية الرسمية. والاستثناء الوحيد لهذه القاعدة التي تحكم الاستخدام الأيدلوجي العقائدي للتلفزيون في القنوات المستقلة شبه الرسمية تمثله قناة “الدنيا” السورية شبه الخاصة التي تقدّم خطاباً أيدلوجياً أكثر عقائدية وملكية من التلفزيون السوري الرسمي نفسه.
وهنا علينا أن لا نغفل الجانب المهني -إضافة إلى الفهم السياسي من قبل الدول أو الجهات الداعمة والممولة لطبيعة الفارق بين القنوات الرسمية والقنوات المستقلة شبه الرسمية، وشبه حالة الموضوعية المطلوبة من القنوات التلفزيونية المستقلة شبه الرسمية. فهذه الأخيرة غالباً ما أتيح لها الاعتماد على كوادر مهنية من جنسيات متنوعة ومختلفة عن جنسية مالكيها، والذين يعملون على تسويق سياسة وايديولوجيا المحطات التي يتبعونها عبر إخفاء مباشريتها داخل قفازات حريرية، في حين بقيت القنوات التلفزيونية الرسمية أسيرة الآلية البيروقراطية لعمل مؤسسات دولها، معتمدة على كادر من الذين لم تتح لهم مهنيتهم أو حظهم الحصول على فرصة عمل في القنوات الخاصة شبه الرسمية، وعبر خطاب “عاش” و”يحيا” الذي يعتبر السياسة الاعلامية الوحيدة المسموح بها والمرغوب فيها في الاعلام الرسمي العربي.
لكن وعلى الرغم من أية فوارق يمكن الحديث عنها في طبيعة الاستخدام الأيدلوجي العقائدي للتلفزيون، بين القنوات العربية متطرفة كانت أو معتدلة، رسمية أم شبه مستقلة، مهنية أم موجهة (أو ملتزمة كما تحب بعض المحطات تسمية خطابها)، فإن الإعلام التلفزيوني العربي هو مرآة لمجتمع متخلف تحكمه منظومة استبداد، يتفق كلّه على تأليه الزعيم وشيطنة أعدائه، ولا يعترف برأي آخر خارج السجن أو القبر، ولا يستخدم الاستديو التلفزيوني كمنبر للرأي المخالف إلاّ في إطار تصفية الحسابات السياسية بين الدويلات العربية المتصارعة – كما حدث مثلاً خلال تجربة إنطلاق قناة “الجزيرة” القطرية التي انتهت بمجرد حصول الدولة الممولة على مكاسب سياسية ودور اقليمي معترف به- ويتجاهل منطلقاته العقائدية ونظرياته السياسية إذا تضاربت مع مصالحه، بالطريقة التي تجاهلت فيها على سبيل المثال قناة “المنار” اللبنانية الناطقة باسم حزب الله زيارة وزيرة الخارجية الاسرائيلية تسيبي ليفني إلى الدوحة قبل أشهر قليلة ومرت عليها مرور الكرام بدون حتى اشارة استنكار، وهي التي تخصص برامج كاملة وأزمنة مفتوحة لتخوين مواطنيها اللبنانيين لمجرد الشبهة.
إن أي حيادية حقيقية أو موضوعية صادقة أو تقديم الخبر كما هو خالياً من الرأي وبدون تسييس أو وجهة نظر تتحدث عنها هذه المحطة التلفزيونية العربية أو تلك، هو أقل صدقيةً وإقناعاً من خبر عن إعلان أودلف هتلر بطلاً وطنياً في اسرائيل. فالاستخدام السياسي للتلفزيون هو أكثر سمة تميّز القنوات العربية، ليس في برامج الرأي فقط، بل وفي نشرات الأخبار والتغطيات المباشرة وحتى في اختيار أسماء نوعية الضيوف الذين يظهرون على الشاشات. وفي مقدرة أي مشاهد عادي اليوم معرفة المحطة التي يشاهدها من وجه الضيف الذي يظهر على شاشتها حتى ولو لم يظهر “لوغو” المحطة على شاشة تلفزيونه. وأقصى ما يمكننا الحديث عنه في هذه المسألة هو فوارق في الاستخدام السياسي للتلفزيون عربياً، بين محطات تدس السم في الدسم، وأخرى تدس الدسم في السم.
(ورقة قدمت في ندوة “السينما والتلفزيون السياسي في الوطن العربي” التي أقيمت بالتعاون بين موسم أصيلة الثقافي الدولي الثلاثون وقناة العربية التلفزيونية الفضائية بين 21-23 آب/ أغسطس 2008، واحتضنتها جامعة المعتمد بن عباد الصيفية في مدينة أصيلة المغربية).
hakambaba@hotmail.com
جريدة القدس العربي اللندنية 28/8/2008