بعد استقرار طبقة الحكام العرب الأمويين في دمشق و الاستيلاء على البلاد المحيطة بجزيرة العرب، انضوت معظم دول حضارات الشرق تحت سيطرة و حكم النخبة العربية في إمبراطورية إسلامية. واستمر وصف الحاكم بالخليفة اقتداء بأبي بكر الصديق أول من خلف رسول الله ص على حكم قبائل الجزيرة الموحدة في كونفيدرالية، واشترع الفقهاء نظاما للحكم في هذه الإمبراطورية، أول بنوده وأهمها هو: أن يكون الحاكم / الخليفة / من النخبة العربية القرشية على وجه التحديد القاطع، (ولنلحظ) أن كل دعاة الدولة الإسلامية اليوم ليس بينهم قرشي واحد!!)، و البند الثاني في هذا النظام هو أن أهم واجبات الخليفة هي الدفاع عن دين الإسلام.
ورغم أن معاوية أول خلفاء بني أمية قد فصل الوظيفة الدينية عن الوظيفة السياسية عندما أناب عنه من يقوم مقامه في شئون الدين كإمامة الصلاة وشئون القضاء و الحج و غيره من مناسك، واحتفظ لنفسه بالوظيفة السياسية وشئون الحكم الدنيوي. فرغم ذلك ظل الخليفة حتى بعد أن أصبح تركيا عثمانيا أي حتى عام 1918، يحتفظ بمركزه الديني و لكن من وراء ستار، ووراء هذا الستار كانت إرادته ترجح كل آراء الفقهاء.
وبعد سقوط الخلافة باستقلال الدول الخاضعة عن الإمبراطورية العثمانية، وعودة كل منها إلى حدودها القديمة والأصيلة التي كانت لها قبل الفتوحات، استمرت الصبغة الدينية تلازم نظام الحكم رغم أن هذه البلاد تعمل بموجب دساتير وقوانين يسنها مجلس تشريعي أي يفترض أنها مدنية، ظلت الصبغة الدينية تطارد هذه الدولة في حالة من االتدليس السياسي الذي يتمثل في مواد دينية في دساتير و قوانين يفترض أنها لاتعمل بموجب حلال وحرام هذه الديانة أو تلك،و لا علاقة لها بشئون التقوى و الحلال و الحرام الديني، إنما علاقتها بمصالح المواطنين الذين يضعون ما يناسبهم من قوانين يتوافقون عليها، بعقد اجتماعي يرعى كل الطوائف و الأديان و الملل و الأعراق و الأجناس الذين يعيشون في هذا الوطن.
و إن وجود مواد دينية في دساتير دولنا الحديثة إنما يعبرعن رغبة مشتركة بين أهل الدين و أهل الحكم و السياسة بغض النظر عن مصالح الوطن و المواطنين، فالنظام الحاكم يحتاج رجل الدين ليشرع له قراراته السياسية و يلبسها القدسية، و رجل الدين بحاجة لرجل السياسة لينال نصيبه من الوجاهة الإجتماعية و المركز الرفيع و أن يكون ضمن بطانة الحاكم فينال النعيم العظيم. أما المواطن فتقتصر مهامه على أداء أوامر الشيخ و السلطان و العمل النشط الدؤوب لتوريد أكبر كم من الخيرات لجيوب كليهما: الفقيه و السلطان.
وقد افصح فقهاء السياسة المسلمين عن هذا المعنى ( إن جاز القول بفقه سياسي إسلامي، وهو غير جائز لذلك نستخدمه هنا مجازا) وهو ما نجده عند فقيه مشهور كالماوردي وكتبه مثل كتاب (الأحكام السلطانية) ومثل (كتاب الأموال)…. (لاحظ أن فقه السياسة الإسلامي هو أحكام سلطانية و أموال… ودمتم )
دعا الماوردي أهل السلطة بكل صراحة ودون الشعور بأي خجل لأن المسألة طبيعية تماما، إلى تقريب رجال الدين من الحاشية و إعطائهم قدرا من السلطة و النفوذ و أن يكون لهم نصيبا من جباية الأموال، و ذلك لكي يتمكنوا من مساعدة الحاكم المسلم في تنفيذ مراده.
الطريف أن زمن الماوردي لم يلزم الخليفة نفسه بتنفيذ أحكام الشريعة، بقدر ما انصرف الشأن إلى ليالي السمر الشعرية و الجنسية مع تطبيق مظاهر سلوكية و شعائر لها مناسبات دينية في احتفالات كرنفالية ترفع فيها البيارق و الرايات مع الدعاء بطول العمر للسلطان، و أحيانا في ازمنة الضيق و التوتر يقوم الخليفة بسكب بعض قناني الخمر وسط جمهور السوق و جلد البعض الآخرين، لطمأنة المسلمين أن الشرع مطبق وان الله راع، بينما ترتكب كل ألوان الرذائل و الشرور سواء في الشوارع أو في القصور، وكل حسب استطاعته.
ولم تزل وظيفة حراسة الدين إلى اليوم هي من مهام الحاكم في البلدان الإسلامية و تعمل قوانينها الخاصة بالأحوال الشخصية وفق شريعة دينية. و يتبع ذلك أن هذه الحكومات تجرم و تمنع الدعاية لأي دين آخر غير الإسلام الذي هو دين الدولة، رغم أن الدولة و حكامها و شيوخها و العاملين فيها هم في ميزان الإسلام دولة مارقة كافرة، هو ما لا يخجل المتأسلمون النشطاء من إعلانه مدعوما بالأيات و صحيح الأحاديث و أقوى النظريات الفقهية.
وبعد أحداث 11 سبتمبر 2001 قامت معظم الدول الإسلامية بمواجهة الإسلام السياسي المسلح، لكنها لم تتخلى عن ارتباطها بالدين و توظيفها لهذا الدين الذي يضمن لها شرعية الوجود، وهو التوظيف الذي يرى أهل الإسلام السياسي و العسكري أنهم الأولى به لأنهم من يضحون بأرواحهم في سبيله و لأنهم الأدرى به و أنهم الأمناء على تطبيقه، دون أن يبرزوا لنا صكا سماويا باختيارهم من قبل الله لهذه المهمة دون بقية المسلمين.
ولا ننسى أن الحكومات الإسلامية مع الحكومات الغربية هم من أشرف على عمليات تفريخ الإسلام السياسي إبان الحرب الباردة والوجود السوفيتي في أفغانستان، و أنهم من صنعوه في مختبراتهم ومعاملهم ومخابراتهم حتى استوحش وانفلت هاربا من تلك المعامل، ليتحول إلى كائن مدرع بأصول العسكرية عالية الجودة، يعلم آخر شئون العلم لكنه يحمل عقلا ثقافته ليست ثقافة علم، لأن العلم من أجل الحياة، وثقافته ليست ثقافة حياة إنما هي ثقافة موت، مع ممول بترو دولاري يطلب دينا أو دنيا ، فخلقوا لنا هجينا مفترسا يفترس أبناء وطنه و أبناء غير وطنه،و يلغ في دماء المسلمين ودماء غير المسلمين، ليدمر أينما طالت يده و يذبح صبرا بدم بارد، و منتهى أمانيه أن يموت بحزام ناسف حتى يعيش الخلود منعما في احضان الحور العين عوضا عن دنيا لم توفر له و لو مهرا لزوجة وبيت متواضع.
وعن علاقة الفقيه بالسلطان على المذهب السني الذي ساد طوال عصور الإمبراطورية، حتى و لو كان هذا الخليفة من محبي العلم النادرين و الذين جعلوا مجلسهم للشعر و المعرفة، و ليس للشورى و مصالح العباد، لأن السلطان هو صاحب القول الفصل، وما هذا المجلس إلا لإضحاك الملوك وسمرهم، و يشرح ذلك أبو الأعلى المودودي في كتاب بعنوان ( نظرية الإسلام السياسية ص 29 ): “ولي الأمر مطاع في حكمه ولا يعصى له أمر و لا نهي، ويمتلك الحق أن يملي رأيه على الأغلبية، فالإسلام لا يجعل من كثرة الأصوات ميزانا للحق و الباطل، لأنه من الممكن في نظر الإسلام ان يكون الرجل الفرد / يقصد السلطان بالطبع!! /، أصوب رأيا و أحد بصرا من سائر أعضاء المجلس”. ويزيدنا شيخ مشايخ العصر والأوان الدكتور قرضاوي شرحا فيقول: “إن النظام السياسي الإسلامي يستمد شرعيته من تحكيم الإسلام.. أي أن يرضى بالشريعة حكما حتى لو لم يطبقها / حلقة الدستور و مرجعية الشريعة / قناة الجزيرة / !!؟؟ “. الأمر واضح،… ليس هناك مشكلة في تفعيل الشريعة من عدمه، إنما المهم أن يكون الحاكم معترفا بالشريعة، و هو ما يعني أن الحاكم باعترافه بالشريعة فهو إنما يعترف بوجود رجال الشريعة و أهلها، و هو ما يعني ان لهم من السلطان نصيب و لهم من المال العام المنهوب حق ليس للسائل و المحروم، وإن أهل الشريعة يعلنون أنهم بذلك سيكونون في تمام الرضا في ظل نظام يعترف بالشريعة لكنه لا يطبقه ما دام يغدق على أهل الشريعة ويسلطهم على أرواح العباد.
ورغم انتقال معظم الدول المستقله عن الخلافة إلى منظومة الدولة الحديثة، فإن الحكومات الوطنية جعلت من مهامها الأولى الرقابة الصارمة على الإعلام، مع دعمها و ترسيخها لثقافة مغلقة على ذاتها، تحشر رأي الدين في أي شئ، تحشره في ألوان الخطاب الإعلامي، تحشره فيما وصل إليه فولتير و مونتيسكيو، تحشره في نظرية النسبية و تحدد رأيها و موقفها من العلاج بالخلايا الجذعية، حشروا الدين حتى في الدراما و المسلسلات التي تدلك غرائز العوام الدينية، بتعظيم الماضي المجيد الذي يقدمونه للناس عالما فردوسيا يعيش العدل و الفضائل و التفوق، و كله بسبب التزام الإسلام، وان ما وصل إليه حال المسلمين الآن ليس إلا نتيجة الابتعاد عن منهج زمن الخلافة الفردوسي.
وعندما طال الدين مناهج التعليم في هذه الدول بدأت الانتكاسة الحقيقية و التامة والماحقة، فانحدرنا لزمن بتنا نتحسر فيه على زمن التعليم أيام الاحتلال الأجنبي، لأن التعليم هو الأداة الانتاجية الحقيقية التي تصنف الطاقات و تضع البشر في اختصاصات وتفرز مواطنين أحرار قادرين على الابتكار و الإنتاج قادرين على الكشف و الاختراع. بدلا عن ذلك تحول التعليم في بلادنا إلى تلقين و حفظ كما نحفظ الموروث الديني، و أصبحت جامعاتنا تتناقش و تقيم الندوات و ورش العمل حول الحيض و النفاس و النقاب و فائدة الحجاب والنقاب والصيام ، يجلس فيها الأساتذة الكبار في ندوات متلفزة تلاميذا، ليستمعوا الى كشوف زغلول النجار.
هكذا حولنا العلم الى البحث في الماضي عن حلول لمشاكل اليوم، هذا ناهيك عن أن العلوم التي يدرسها أبناؤنا أصبحت بمقاييس اليوم تاريخا، و لم يسلم العلم الفيزيائي و الكيميائي من طرائقنا فأصبح محفوظات ينجح أو يرسب فيها الطالب بقدر ما يتذكر منها و ليس بما فهم منها، و بهذا تم تحويل الإنسان في الوطن منذ دخوله المدرسة إلى عبد تابع لا يملك لنفسه استطاعة، رغم ما نراه بعيوننا ماثلا أمامنا في بلاد صنعت جنتها على أرضها، بتفوق العقل العلمي الباحث المدقق المخبري، إلى ثورة الاتصالات و الاستنساخ، بل خلقوا الخلية الحية خلقا. مما أدى إلى تباعد بين عمل العقل الإنساني العلمي و مجاله المعرفي و بشريته، و أنه يجرب ليكتشف أخطائه فلا يكررها، و بين عمل رجال الدين و طقوسه و ماورائياته و غيبه الذي لا يلتقي مع العلم ومناهجه بحال.، و في كل مرة يكون رد الفعل العربي و المسلم على هذه الكشوف هو الشعور بمزيد من الضآلة و الانهزام، فيذهب إلى عالمه الوهمي ليؤكد أننا قد سبقنا إلى هذه الاكتشافات في القرآن و في السنة، بدلا من أن يلحق بالمتفوقين و ان ينحي عواظف الكره و الحب و ينغرس في المستقبل و ليس في الماضي، وان يعلم أن يكون الأخير في المستقبل أفضل من أن يكون الأول في الماضي.
لقد حقق العقل الإسلامي لنفسه وروحه هزيمة حقيقية مروعة ولم يعد يشغله سوى خوفه الرهابي على دينه و فقد هذا الدين، و رعبه على مسلماته و ما تتعلرض له من خطر الكشوف العلمية، مع الشعور بالعجز إضافة لكسل إسلامي معلوم، إضافة إلى عدم وجود الرغبة في بذل أي جهد، فالمفروض انه شعب الله و خير أمة أخرجت للناس، إعتاد أن يجلس مكانه مسندا ظهره على مؤخرة ناقته ليأتيه نصيبه من الجزية و الخراج و السبايا، و إعمالا لهذا كله قرر أن يعود إلى الله الذي خلق الغرب و الشرق و المسلمين و غير المسلمين، يطلب دعمه له و هو قاعد ها هنا لا يريم، ليتفوق بهذا الدعم الإلهي على عباد آخرين لله من غير المسلمين، مانحا نفسه دلالا غريبا ليس له أي مبرر على الإله ليترك هذا الإله عباده المتفوقين و المنجزين ليدعم الكسالى و المكسحين.
من سوء حظي أنا و أبناء جيلي أننا ولدنا في زمن رأينا فيه الحكومات الوطنية بعد رحيل الاستعمار شيئا أسوأ من أي استعمار، بعد أن كرست تلك الحكومات نفسها و شرعيتها ووجودها بتعميق ذلك المنهج العتيق، بل و أضافت إلى قدسية الإسلام قدسية جديدة هي قدسية الأمة العربية الواحدة ذات الرسالة الخالدة، حتى باتت العروبة معصومة عصمة الإسلام ونبي الإسلام، و أصبح زعماء العروبة معصومين عصمة الإسلام و نبي الإسلام، من ينتقد لهم فعل فهو فاجر زنديق عميل مارق يتعيش على أعطيات الصليبيين و اليهود، وفي ظل هذة الحكومات المعوربه تمت احالة كل ألوان الانجاز الانساني و التقدم البشري و التحضر القيمي في بلاد الغرب الكافر إلى العرب و المسلمين وحدهم، بعد اكتشاف انهم كانوا أصحاب الفضل الوحيد بين العالمين على ما ينعم به البشر اليوم من نعمة العلم.
إنها حالة مرضية مستعصية تنسب للذات المهزومة أوهام التفوق و السبق لإرضاء النفس بلذة تخيلية، بداخلها عصا سحرية لم تعمل ولا مرة لانتشالنا مما نحن فيه من هوان بين عباد الله في الدنيا، يقولون أن هذه العصا السحرية يمكنها أن تحقق كل المستحيلات، فقط إن أخلصنا لها و سلمنا لها عقولنا و ضمائرنا و سلوكنا. و عندما حدث هذا، وسلم المسلمون دماغهم للمشايخ، وساروا بدقة على أوامر الشيخ ونواهيه، تم وأد أي فكر مختلف عن السائد بتبخيسه و تخوينه و تدعيره، و أصبح أي نقد للمألوف هو اعتاء على ثوابت الأمة الرواسخ، و أي اقتراب من المسلمات هو تعاون مع أعداء الوطن و عمالة لأعداء الدين.
وهكذا وصلنا لمكاننا الحالي عند محطة قاع مزبلة الأمم، على حافة منزلق نحو ثقب التاريخ الأسود حيث المدفن الكوني للأمم والشعوب.
elqemany@yahoo.com
• القاهرة