مرة أخرى يعود الحديث حول الارهاب ليصبح جائحة دولية. العالم مشغول بالإرهاب، وهو ما يصبح صنعة لفئات اجتماعية ستعيش ردحا من الزمن على أجر تفسير الظاهرة، وسيكون هناك التواطؤ الكافي ليكتب الكثيرون ما يرضي السياسيين الدوليين، المهتمين بتلفيق علاقة بين الارهاب والمجتمعات التي تضرب بها، وعلى وجه الخصوص لكون الحديث يجري عن شعوب غير غربية.
هل الارهاب الذي يجري الحديث عنه بهذه الخطورة القصوى بحيث يجند المجتمع الدولي كل هذه الامكانيات لمحاربته والقضاء عليه. أو مجرد صناعة يتم عرضها حسب الطلب وكلما دعت الحاجة لاستخدامها لتحقيق مصالح سياسية واقتصادية؟
لكن ما لا يحتاج لوقت هو الحديث بصراحة عن “صناعة الارهاب” في بيئة لا تمتلك من اسبابه أكثر من أي دولة في الغرب، بل أغلب الظن أقل من أي منها. وهو ما نحاول الحديث عن اهم أطرافه واسبابها:
النظام السوري هو مصدر الارهاب الاول في سوريا، ومنشأه في كثير من الأحيان، ومديره في خدمة هيمنته الداخلية، وفي خدمة دور اقليمي ناضل للحصول عليه، واستمراره.
إيران ودول أخرى بالمنطقة مصدر ثانٍ للإرهاب بدعمها وإنشائها مجموعات ومنظمات إرهابية قومية وشيعية وسنّية لتفرض من خلالها سياساتها وتحمي مصالحها,
اسرائيل مصدر ثالث للإرهاب. انشاء كيان سياسي بشكل قصري اعتمد على التطهير العرقي، ورفض، ولا زال، أي حل مع سكان فلسطين الاصليين. وكذلك أي حديث عن إعادة الجولان إلى سوريا
الدول الغربية مصدر رابع للإرهاب. اسلوب ادارتها لمصالحها في المنطقة، واعتمادها حكاما مستبدين كوكلاء، ومسيري أعمال، ودعمها، تواطؤها، سكوتها، عن جرائمهم واسعة النطاق بحق شعوبهم.
في سوريا تلتقي العوامل الأربعة لأسباب تاريخية وجغرافية. ففيها حكم اقلية سياسية، يحلو لطائفيين عندنا، وغربيين رسميين، الادعاء بانه حكم أقلي طائفي. يسهّل هذا الادعاء شَرعَنة اسس الارهاب الطائفية،. في سوريا حكم اقلية، بالقلب منها عائلة، مكونة من شبكة مصالح مسكت بكل مقدرات البلد خلال عقود، وقررت ان تحرقه، تدمره، تقتل شعبه، ولا ان تنصاع لمطلب الحرية والمشاركة السياسية، لأنها تكف حينها عن القدرة على التعامل مع البلد كإقطاعية، والشعب السوري كعبيد.
في سوريا، خلال السنوات المنصرمة، جرائم واسعة النطاق، مسكوت عنها من الدول الغربية. في سوريا نظام السبب الوحيد لبقائه، بعد كل جرائمه، هو حماية المجتمع الدولي له. وفي هذا البقاء، توسعة لأسباب الارهاب ومبرراته.
قبل أن نسأل كيف سنحارب الإرهاب. يجب أن نسأل من سيحارب الإرهاب؟
المشكلة أن من يتصدى لمحاربة الإرهاب هم إرهابيون موصوفون. أو ممارسو إرهاب، أنظمة ورؤساء تمارس الإرهاب وتدعمه وتشجعه علنا وبالخفاء، وتعلن بعد ذلك أنها ستحارب الإرهاب، فتحاربه بإرهاب مضاد.
،الجميع يستخدم الإرهاب كقميص عثمان ليمارس إرهابا مضادا، ثم يغسل يديه من دم الضحايا بالإعلان عن محاربة الإرهاب كبيلاطس البنطي عندما غسل يديه بالماء من دم المسيح.
أما ضحايا الإرهاب وأعداؤه الحقيقيون فممنوع عليهم محاربة الإرهاب بل يمارس عليهم إرهاب مضاعف.
الإرهاب ليس وليد أفكار متطرفة موجودة بكل المجتمعات وبكل العصور والأزمان! الإرهاب صناعة بكل ما تعنيه هذه الكلمة من مهنة واحتراف. هناك مجموعات إرهابية صغيرة أو أفراد. ولكن هؤلاء محاصرتهم ومحاربتهم ليست صعبة وخاصة عندما لا يجدون التمويل والملاذات الأمنة. ولكن الإرهاب الحقيقي والخطير هو الإرهاب المنظم: صناعة دول ومؤسسات كبرى لديها الموارد والأموال التي تمول هذه الصناعة، ولديها الأفكار والمصانع والأدوات، ولديها أدوات التصدير المأمونة، ولديها دراسات وافية عن مزاج الجماهير ليكون الإرهاب المُصَدَّر تحت شعارات تتآلف مع ثقافة وعادات المجتمعات المصدر لها.
الإرهاب هو أداة بيد جهات دولية شرعية بعيدة عن المحاسبة والعقاب، تنفذ من خلاله سياستها وتفرض وجهات نظرها وتحقق مكاسبها السياسية والاقتصادية، وهو ليس جهة لديها مصالح وسياسات.
المجتمع الدولي الآن يحارب الإرهاب بطريقة مضحكة. فهو يلاحق أذرع أخطبوط ليقطعها، بينما يصافح أذرعاً أخرى لنفس الأخطبوط بل ربما يحتضن رأسه ويقبله! ونقطع أذرعا، ويعيد الاخطبوط تكوين أذرع جديدة لنلاحقها، ويعيد تكوين أذرع جديدة لنصافحها وهكذا دواليك. والاخطبوط يسخر منا كل مرة ونحن ندور بهذه الحلقة المفرغة. ونحن نتساءل كيف نحارب الإرهاب ولماذا لا ننجح بمحاربته؟
ختاما
ان أوضح قوانين انهاء الإرهاب تقول بإنهاء مصادر أسبابه، ومحاسبة مرتكبه مهما كان موقعه أو دينه أو قوميّته أو انتماؤه، وهو ما لم تسمح به دول كبرى على المستوى العالمي والاقليمي بما يخص سوريا، كل لأسبابه. بل ما زال المجتمع الدولي يتعامل مع رؤوس الإرهاب ومرتكبي الجرائم ضد الانسانية في سوريا كممثلي دولة.
عندما تغيب أو تغَّيب العدالة الحقيقية تلجأ الضحايا إلى وسائل أخرى للوصول لحقّها، ولا ملامة لها أمام العجز والإهمال الدولي.
في سوريا هناك من يصنع الإرهاب بإيجاد البيئة الضرورية له لينشأ، ويزوّده بالوقود ليتوسع.
هناك مصانع للموت والإرهاب في المعتقلات وبهواء الغازات السامة وبالحصار والجوع وتحت البراميل المتفجرة والفتنة الدينية والطائفية والحروب المقدسة. ولا يمكن الحديث عن محاربة الإرهاب أو بدء أي حلّ سياسي للقضية السورية قبل وقفها.
عدا عن ذلك نسمع الآن أصواتاً تدعو لمشاركة هؤلاء بمكافحة الإرهاب والانخراط بالحلول السياسية! وأنا أتساءل لماذا لا يدعون كذلك البغدادي والجولاني والظواهري أيضا لمحاربة الإرهاب والانخراط بالعملية السياسية فالجميع سواء، بل ربما بذلك ينجحون فعلا بوقف الإرهاب
والمجتمع الدولي يشارك بشكل حقيقي بصناعة الإرهاب الذي يدعون محاربته عبر وقوفه متفرجا وعدم اتخاذ أي فعل من شأنه وقف الجرائم، وحجب العدالة عن الضحايا، وعدم إرسال أي رسالة حقيقية أن الجرائم المرتكبة سيتم المحاسبة عليها وأن المجرمين سينالهم العقاب من أي جهة كانوا ومهما كان وضعهم وأنه لا مجال للإفلات من العقاب. وعندما يتحرك المجتمع الدولي فإنه يتحرك جزئيا ويمارس عدالة انتقائية عرجاء عبر غض الطرف عن جرائم والتركيز على جرائم أخرى.
المجتمع الدولي يمارس انتقائية بتقييم الجرائم حسب مرتكبها ودينه وقوميته ومبدئه السياسي أو حسب دين وقومية ومبدأ الضحية، فيتم السكوت عن جرائم كبرى إن كان مرتكبها يتلمظ بشعار العلمانية أو حماية الأقليات والضحية من دين محدد والعكس صحيح.
ويمارس انتقائية وتفريقا بين إرهاب ترتكبه دولة وجيش ضد شعبها أو ضد شعوب أخرى والتغاضي عنه، وبين إرهاب مجموعات مسلحة صغيرة ضد نفس الشعب، هو لب المشكلة.
عندما قتل النظام السوري أكثر من ثلاث مئة ألف ضحية معظمهم مدنيون بما فيهم أطفال ونساء، وأكثر من خمسين ألف ضحية قضت بالمعتقلات، ودمّر نصف سوريا خلال أكثر من أربع سنوات، كان المجتمع الدولي يتحجج بموقف روسيا والصين وصعوبة اتخاذ موقف دولي من المسألة! وعندما قامت “داعش” بقتل عدد لا يتجاوز العشرات من السوريين بينهم أجانب لم ينتظر المجتمع الدولي موقف روسيا والصين ولا قرارات مجلس الأمن فشكّل تحالفا عسكريا ووجه ضرباته خلال أقل من أسبوع.
يتم التغاضي عن جرائم النظام السوري وإرهابه ضد شعبه وشعوب المنطقة طيلة أربعين عاما دون محاسبة أو مساءلة بل بإصرار على التعامل معه. إن هذه الانتقائية بحد ذاتها تصنع الإرهاب وتصنع بيئة حاضنة له، ونتائجها ستكون أكثر وبالاً لأنها تشجع من تم تجاهله على ارتكاب المزيد، وتخلق احتقانا مضادا يكون حافزا لمزيد من الإرهاب المضاد ومزيدا من العنف البشع فالأبشع.
الجميع مشارك بصناعة الإرهاب وتشجيعه بل ودعمه.
إن أي خطاب لا يستجيب للمبادئ الأساسية لحقوق الإنسان، ولا سيما مبدأ أن العدالة للجميع دون أي استثناء وحقوق الإنسان لا تتجزأ حسب هوية أو دين أو طائفة أو قومية المجرم أو الضحية ومحاربة الإرهاب من أين أتى ومهما كانت هوية أو دين أو قومية مرتكبه أو هوية أو دين أو قومية الضحايا. ولا مجال أبدا للمفاضلة بين إرهاب وإرهاب.
فإن هذا سيصّب مزيدا من الزيت على نار الإرهاب ويزيد اشتعالها. وسيكون ذلك الخطاب أو العمل مجرد تمرير للوقت على حساب دم ومعاناة الشعب السوري وخلق مزيد من الإرهاب وتهديد للسلم والأمن العالميين.
a.bounni@gmail.com
المحامي أنور البني هو رئيس المركز السوري للدراسات والأبحاث القانونية
مقال اصاب لُب الحقيقه،