زيادة على الهشاشة التنظيمية والبنيوية على أبواب المفاوضات مع بريطانيا لإتمام الطلاق، يحبس الأوروبيون أنفاسهم لأن البريكست، بحد ذاته، أثبت أن الاتحاد ليس أمرا نهائيا لا يمكن العودة عنه.
منذ ثمانينات القرن العشرين، وإبان ترسيخ وصعود العولمة الشمولية، كان الاتحاد الأوروبي يعطى كمثال أو نموذج للاندماج الإقليمي الناجح والازدهار الاقتصادي. لكن تطورات السنتين الأخيرتين (أزمة اللاجئين، والبريكست، وصعود القوى الشعبوية والشوفينية ومواقف إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب السلبية)، جعلت المؤسسة الأوروبية هشة ومصيرها مطروح على المحك.
لقد دق قرار خروج بريطانيا جرس الإنذار وازدادت الدعوات إلى المراجعة الهيكلية بعد رفع منسوب التحدي مع سيد البيت الأبيض الجديد المصمم على تهميش أوروبا. بيد أن الأجوبة الأوروبية ومنها “أوروبا متعددة السرعة” ستنتظر عمليا معالجة الانقسام داخل الاتحاد الأوروبي بين الشرق والغرب (الخلاف حول توزيع اللاجئين وتداعيات التجديد للبولندي دونالد توسك رئيسا للمجلس الأوروبي) وكذلك نتائج الانتخابات في ثلاثة بلدان أوروبية رئيسية. وهكذا سيكون وضع الاتحاد الأوروبي رهينة لخيارات ومفاجآت 2017.
للتذكير، انطلقت ورشة بناء العمل الأوروبي المشترك بعد الحرب العالمية الثانية، وبعد حروب أنهكت القارة القديمة. والأهم بعد سبعة عقود على هذه المغامرة أنها أمنت ديمومة السلام في تكتل موسع يضم حوالي 500 مليون مواطن.
وبعد نهاية الحرب الباردة كان العصر الذهبي مع بدء التداول باليورو في 2002، وتوسيع الاتحاد ليشمل 27 دولة بين 2004 و2007. بيد أن الأزمة النقدية العالمية في 2008 وارتداداتها في اليونان وباقي أوروبا، دللت على تردد القيادة الألمانية في تفعيل التضامن الأوروبي وعن نزعة فيدرالية لا تحظى بالإجماع.
واليوم عشية الذكرى الستين لمعاهدة روما، الوثيقة المؤسسة للعمل الأوروبي المشترك (25 مارس)، يواجه الاتحاد الأوروبي لحظة الحقيقة. ومما لا شك فيه أن تسليم قادته بإبقائه قطبا اقتصاديا وقزما سياسيا لم يساعد على تحصين الاتحاد الأوروبي المحشور حاليا بين هجمة دونالد ترامب ومسعى فلاديمير بوتين للاختراق والتحلل الداخلي والصعود الشعبوي.
وإذا ذهبنا أبعد إلى أفق تشكل النظام الدولي بعد حقبة الاضطراب الاستراتيجي، نراه يتمحور حول الولايات المتحدة الأميركية والصين وروسيا من دون دور أوروبي تقريري، بالرغم من الحجم الاقتصادي للاتحاد وخاصة لألمانيا والمكانة الإستراتيجية لفرنسا.
إزاء مخاطر التهميش والتحلل، تنطلق العديد من المبادرات وأبرزها “الكتاب الأبيض” الذي أعلن محتواه رئيس المفوضية الأوروبية جون كلود يونكر، بداية هذا الشهر، وعرض فيه خمسة سيناريوهات لمستقبل الاتحاد الأوروبي: الإصلاح، تدعيم السوق المشتركة بعد الخروج البريطاني، المزيد من الجهود لمن يرغب في مجالات مثل الدفاع أو الأمن (أوروبا متعددة السرعة)، التركيز على مجالات سياسية مثل مواجهة التطرف والإرهاب، وأخيرا دعم تقاسم السلطة والموارد وصنع القرار.
والغريب في الأمر، أن يونكر رئيس وزراء لوكسمبورغ سابقا، والمنادي بأوروبا فيدرالية اتحادية، يسلم بالواقعية السياسية في تصورات غير جريئة وغير قادرة على إعادة عنصر الجاذبية للمشروع الأوروبي.
وفي مسعى لتخطي صعوبات اتخاذ القرار المشترك بين 27 دولة وبالإجماع، في محاولة لبحث سبل تدعيم التكتل الأوروبي وبدء مرحلة جديدة، اجتمع بداية هذا الأسبوع الرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند والمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل ورئيسا وزراء إيطاليا وأسبانيا في قمة مصغرة في قصر فرساي قرب باريس، ارتكزت على “إعطاء دفع سياسي رباعي” قبل قمة روما، من خلال ما يعرف بـ“أوروبا متعددة السرعة”، بمعنى أن الدول في الاتحاد القادرة والراغبة يمكن أن تعمل وفق مبدأ التعاون البنيوي في مجالات مثل الدفاع والثقافة والأبحاث.
وهذا يعني أن هذه الدول الأربع وهي من الدول الكبرى في أوروبا والمؤسسة للعمل المشترك، يمكن أن تشكل لوحدها نواة لا تنتظر المترددين أو العازفين من أجل منح الاتحاد ديناميكية جديدة بطرق مبتكرة، خاصة في أمور ملحة مثل الدفاع والأمن والهجرة غير الشرعية.
عبر هذه الخطوات تأمل هذه الدول المستعدة للانضمام إلى دوائر بعينها أن تحصل على أدوات لتحمي نفسها بشكل أفضل وتؤمن المزيد من الاستثمارات وتضع سياسات جديدة لمصلحة الوظائف والشباب. بيد أن عواصم أوروبا الشرقية ودول البلطيق تشعر بالقلق من أوروبا جديدة “متغيرة السرعات”، بمعنى أنها ستنقض، حسب رأيهم، قواعد المساواة خاصة في ما يتعلق بتوزيع الميزانية والتضامن وسرعة اندماج الأعضاء مع شروط الاتحاد الأوروبي ومعاييره.
يرى البعض أن فكرة “أوروبا متعددة السرعات” تفرض خطرا على وحدة الاتحاد بين الكبار في الغرب، والانعزاليين الجدد في الشرق، لأنها ستزيد من انعزال الزعماء غير الليبراليين في بولندا والمجر، وستمنحهم المجال لإغفال مبادئ العضوية الرئيسية بما يشمل من ذلك من معايير الديمقراطية. وأبرز مثال على مخاطر التفكك الجدل الدائر حول قرار الاتحاد الأوروبي، يوم التاسع من مارس، التجديد للبولندي دونالد توسك رئيسا للمجلس الأوروبي، بالرغم من معارضة وارسو لذلك مما زاد في الشقاق خاصة بين ألمانيا وبولندا.
زيادة على الهشاشة التنظيمية والبنيوية على أبواب المفاوضات مع بريطانيا لإتمام الطلاق، يحبس الأوروبيون أنفاسهم لأن البريكست، بحد ذاته، أثبت أن الاتحاد ليس أمرا نهائيا لا يمكن العودة عنه، وإذا وصلت مارين لوبن إلى الرئاسة في فرنسا في مايو القادم وطبقت البريكست فإن ذلك لا يعني خروج فرنسا فحسب، بل نهاية اليورو والاتحاد الأوروبي.
بعيدا عن النظرة السوداوية، هناك رهان على عقلانية الناخبين في هولندا وفرنسا وألمانيا حتى لا تعود أوروبا إلى شياطين الانقسام والتعصب والحروب القومية والقطيعة مع الآخرين. إن الاتحاد الأوروبي القوي والمتماسك هو الحل الأمثل لحماية أوروبا وشعوبها وثرواتها، في ظل ما يواجهه الاتحاد من تهديدات غير مسبوقة في الداخل والخارج.
يبقى الأهم تبني مقاربة تنظر إلى أن الاتحاد الأوروبي هو أكثر بكثير من مجرد سوق واحدة؛ فهو يقوم على القيم المشتركة والتضامن وسيادة القانون، وأن في ضياع نموذجه ومنظومة قيمه نذير شر لعالم متخبط.
khattarwahid@yahoo.fr
أستاذ العلوم السياسية، المركز الدولي للجيوبوليتيك – باريس
العرب