إستماع
Getting your Trinity Audio player ready...
|
(الصورة: مقابلة وهمية مع “رينه ديكارت”، يمكن قراءتها بالإنكليزية على هذا الرابط)
بالتأكيد، ليسَ عليكَ أنْ تندرجَ في اختيارٍ ما، لا تستطيع أنْ ترى فيه ما يجعلكَ تحبّ وجودََك أو عقلكَ أو حريّتك. في هذه الخلاصة، تملكُ أنْ تعرفَ سؤال الاختيار، بمعنى أنْ تعرفَ كيف عليه أنْ يكونَ اختيارك، ليسَ تلقيناً بالتأكيد، وليس ميراثاً أو توارثاً، وليسَ نفياً لإرادتك وإدراكك، وليسَ نقيضاً لاقتناعاتك، وليسَ هدماً لذاتك، بل تملكُ أنْ تعرف جيّداً، مقدار ما عليك أنْ تجده في اختياراتك، من حريّة العقل، وجمال الفهم، ورحابة التفكير، وحريّة السؤال، وإرادة الذات، واشتهاء المعرفة، والتماع التجربة.
ليسَ عليكَ أيضاً، أنْ تقع في اختيارٍ ما، لا تراه مناسباً لك. لكنّكَ في الوقتِ ذاته تعرف أنّ ليسَ سهلاً تحقيق ذلك دائماً. لأنّ صعوبته تكمن في أنْ تستشعر بالضبط ما يوجد داخلكَ تحديداً، وكيف عليك تالياً أنْ تصنع من خلالهِ عالمكَ الذي تريده أنْ يكون ماثلاً في حريّتك وأسلوبك وطريقتك. لأنّكَ في داخلكَ تريد أنْ تهتمَّ بتفاصيل ذاتكَ التي تتماهى مع أفكارك وتفكيرك ونظرتك، وكلّما كان هذا الأمر متسقاً ومتوازناً في داخلك، كلّما كنتَ أكثر معرفةً بما عليكَ أنْ تشعر به في ذاتك، وكنتَ في الآنِ ذاته متحكّماً بما تريد أنْ توجده في عقلك، وما تريده أنْ يتطوّر بأسلوبك، وما عليكَ أنْ تعرفه من خلال نظرتك، وكيف عليك في المقابل أنْ تبدأ خطوتك في الاختيار، استناداً على ما تملكُ من التنوّر المعرفيّ والشّعور الخلاّق والأفكار الملهمة وحريّة التفكير. وكلّ ذلك من شأنهِ أنْ يبعثكَ عارفاً بتكوينكَ الداخليّ الذي تريده أنْ يبقى ميزانكَ في هندسة ذاتكَ على إيقاع اختياراتك الحرَّة.
أمّا أولئك الذين يلزمونَ غيرهم باختياراتهم، هُم في الأساس قد ألزموا أنفسهم، بما وجدوا أمامهم من اختيارتٍ محدَّدةٍ مسبقاً. إنّهم لا يملكون في اختياراتهم شيئاً من بصائر التفكير والفهم والإرادة، ولا يملكون فيها أيضاً شيئاً من حريّة العقل والنّقد والتجربة. إنّهم يؤمنون باختياراتهم المحدَّدة مسبقاً لهم، كما لو إنّها قَدَرُهُم في الحياة، وكما لو إنّها مصيرُهم الذي يرون فيه نجاتهم من الضياع والهلاك. إنّهم في كلّ ذلك يحافظون على إرثهم في الاختيار، وانتماءاتهم الجمعيّة، وتمسُّكهم بما يجعلهم متأكدينَ من استمرارهم في يقينيّاتهم واعتقاداتهم، ولا يلتفتونَ أبداً إلى أنّ لهم حقّاً إنسانيّاً في الاختيار، لأنّ هذا الأمر ليس متاحاً في ثقافتهم، وليس مسموحاً لهم بالتفكير فيه. إنّهم فقط يؤمنونَ أنّ عليهم أنْ يكونوا مخلصينَ لميراثهم اليقينيّ والتلقينيّ والاعتقاديّ المحدَّد في الاختيار المسبق، وعليهم في الوقتِ ذاته الدفاع عنه، وكأنّه كلَ ما يربطهم بحقيقتهم الكاملة التي يحسبون إنّ فيها خلاصهم الوحيد والأوحد.
أنْ تختار ما تجده حقيقيّاً لذاتك وعقلك وحريّتك وتفكيرك، يعني أنْ تكون سعيداً باختيارك لأنّه الذي تريد أنْ تفهم الحياة معه ومن خلاله. إنّكَ في اختيارك هذا تستطيع أنْ تتعرَّف بوضوح على طريقتك في فهم ما عليهِ أنْ يكونَ أسلوبكَ في تبنّي مسؤوليتكَ التفكيريّة والنّقديّة، لأنّكَ في هذه الحالة تريد من اختياركَ أنْ يكونَ دافعكَ الأساسيّ إلى معرفة الأفكار التي تسعى إلى مرافقتها بمتعةِ الواثق من جمالية انفتاحها الطَّليق على التجربة الإنسانية، وعلى الذاكرة المعرفيّة للإنسان. إنّك في هذه الرفقة الخلاّقة مع اختياراتكَ هنا وهناك، تستطيع أنْ تعرف أنّ الحياة تنطوي على أكثر من حقيقة، وعلى أكثر من صورة واتّجاه، وتعرفُ أنّ الأفكار في الاختيار إنّما هيَ في الأصل تعكس حقيقتك الشاخصة في انشغالات التفكير والنّقد والتجربة، وقد يكفي أن ترى في اختياراتكَ الحرَّة ما تريد أنْ تحبّه من عقلكَ، وهوَ يستنهضُ فيك إمكاناتكَ التوّاقة للاعتناء جيّداً بِطريقتكَ وأسلوبك في تبنّي المعنى من اختيارك وقرارك.
إنّكَ تملكُ أنْ ترى في اختياركَ الحرّ مقدار ما تستطيع أنْ ترى في وجودكَ من حريّةٍ في الفهم والتّحرك والمبادرة والتنوّع، لأنّك لست مقيّداً في اختيارٍ محدَّدٍ مسبقاً، ولأنّك تتمتّع بانسيابيّةٍ في تركِ ما ليس مناسباً لك، ولأنّكَ فوق هذا وذاك، تملكُ من اختيارك حريّة السؤال، حين يتعلّق الأمر بما تريد أنْ تفهمه انطلاقاً من كونكَ كياناً مستقلاً يعرفُ تماماً أنّ له حقّاً إنسانيّاً طبيعيّاً في الاختيار. وفي مقابل ذلك تتمتّع دائماً بِفنون عدم الاكتراث بِكلّ ما من شأنه أنْ يجرُّكَ إلى متاهة المجادلات العقيمة، أو إلى الخوض في السطحيّات من الأمور، أو إلى ما يصرفكَ عن التركيز في الاهتمام بتطوير ذاتك، لأنّك في مسألة الاختيار أولاً وأخيراً تهتمُّ مباشرةً بِمناقشة الأفكار، والسعيّ الملهم في عوالمها وآفاقها، فمعركتكَ الفكريّة دائماً ما تراها في مقارعة الأفكار هنا وهناك، وفي نقدها وتفكيكها ومعرفة جدواها، وقدرتها على الخَلق والإبداع، وكلّ ذلك من أجل أنْ تحظى بأجمل ما تستطيع أنْ تبتكره جميلاً وخلاّقاً، ممّا يجعلك تتقدَّم حثيثاً إلى أنْ تكون خلاّقاً وملهماً وحكيماً في اختيارك.
أولئكَ الذين يريدونكَ في اختيارهم، لا يهتمّون أبداً إلى ما أنتَ عليهِ من تماثلٍ حقيقيّ وحرٍّ مع اختيارك، فقط يريدونكَ أنْ تكون مثلهم في اختيارهم، لأنّهم يتوجّسونَ دائماً كونكَ خارجاً على اختياراتهم التي وجدوها أمامهم، ويريدونكَ أنْ تؤمن بها كما آمنوا بها إيماناً مطلقاً، ولأنّهم يجدونَ في اختياركَ تهديداً لاختيارهم الذي اندرجوا تحته، من دون أنْ يملكوا فيه حريّة التغيير والسؤال والنّقد والتفكير، ولا يهمّهم في الوقتِ ذاته أنْ يعرفوا لماذا أنتَ لستَ في اختيارهم، لأنّ سؤال الاختيار يرونه مخيفاً ومرعباً لاعتقاداتهم ويقينيّاتهم التقليديّة. فمن يتبنّى السؤال عليه أنْ يكون مدركاً لحقيقة اختياره، وهذا الأمر ليس وارداً في انسدادات ثقافتهم الانغلاقيّة، ولذلك ما يدعو إلى الغرابة الشديدة، أنْ يتعلّق الإنسان باختيار وجده أمامه بمحض التوارث والتلقين، يحتمي به ويتقوقّع فيه خوفاً من اختياراتٍ خلاّقة وحرَّة ومنفتحة، في حين يستطيع أنْ يجد طريقه نحو التقدَّم والإبداع والرحابة، في اختيارٍ يسعى إليه حرَّاً، ويبتكره انسجاماً وتعالقاً وتطلّعاً مع عقله وتفكيره وسؤاله.
ما أنْ تجد نفسكَ أمام الهاوية، حتّى تجد ما يُعينكَ على الظفر به، بالتأكيد إنّه اختيارك الحرّ في مخاض التحوّلات والمراحل والتغييرات، فاختياركَ هنا يعني جودتكَ في الإمساك بما يجعلكَ تحتفظ بذاتكَ المفكّرة والمستقلّة، ويعني أنّك تملكُ أنْ تستمر باختياركَ متفكّراً ومتفلسفاً ومبتكراً ومبدعاً أيضاً، وتعرفُ أنّك حينما تتركُ خلفكَ كلّ أوهامك ورواسبك واختياراتك التوارثيّة والتلقينيّة، ليس أمراً صعباً ربما، بينما تدركُ تماماً أنّ كلّ الصعوبة تكمن في أنْ تملك القدرة على أنْ تفعل كثيراً، تستطيع من خلاله أنْ تمنح اختيارك فعل الحريّة، وجمالية التواصل، وبدائع الخَلق، وفنون المعرفة، ونقاوة التفكير، وجودة القرار، لكي تمضي فيه حرَّاً ومبدعاً ومفكّراً ومتسائلاً وناقداً ومكتشفاً ومتخطّياً وخالقاً وواهباً ومتحديّاً.
مَن يكونون في صلب اختيارهم الحر، يستخدمونَ جيّداً عقولهم، ذلك لأنّ الاختيار الحر لا يكون حرَّاً إلاّ حينما يتّسع لرؤية العقل، تلك الرؤية التي تجعلكَ مكتشفاً لدوافعك الذاتيّة الخلاّقة في سؤال الاختيار، وهي الرؤية ذاتها التي تجعلكَ ترى أنّ تجربتكَ في رحابة الخَلق والاختيار، ليسَ إلاّ امتداداً حرَّاً لذاكرتك المعرفيّة الإنسانية، الذاكرة الزاخرة بكلّ تنوّعات الفكر الإنسانيّ، وهيَ تستجلي في الإنسان قدرته على التغيير والإبداع والمبادرة، وهي الرؤية التي تجعلكَ تعرفُ أنّ مَن يملكُ القدرة على تحرير اختيارهِ من استبداد العقل الجمعيّ، يملكُ القدرة على فهم اختياره في مخاض السؤال، ولذلك ما أجملَ ذلك الإنسان الذي يستطيع أنْ يجد اختياره الحر في عقله وتفكيره وسؤاله، لأنّه يستطيع أنْ يصنع من اختياره أسلوبه وطريقته وفلسفاته، ولا يبحث عنه أبداً في خراب الأدلجات القوميّة والدينيّة المتهالكة، ولا في تملّقات المذهبيّات الخانقة، إنّه في اختياره الحرّ هذا لا يفكر إلاّ في أنْ يمضي بعيداً في مبادرات ذاته الطَّليقة، يتخلّقُ وعياً شاخصاً في فلسفاته وتفكّراته وتساؤلاته الإنسانيّة الحرَّة.
وقد نتساءل هنا: ماذا لو استطاع الإنسان الذي لا يزال متخشباً ومندرجاً في اختياره المحدَّد مسبقاً، أنْ يبتكر اختياره انطلاقاً من فلسفتهِ العقليّة المستقلّة، ألاَ يشعر حينها بالاشمئزاز والتعاسة والتراجع، لكونهِ لا يملكُ من اختياره عقلاً معاصراً ومنفتحاً وحرّاً؟ ولذلك مَن يملكون اختيارهم، يكونونَ واثقينَ جداً من قدرتهم على الشّعور بحريّتهم، وهذا الشّعور وحده الذي يمنح الإنسان جمال الاقتناع، ليس الاقتناع بما لديه من اختيارات، إنّما الاقتناع الذي يجعله مدركاً مِن أنّه يمضي حرَّاً ومنسجماً في اختياراته التي تتجلّى إبداعاً وتميّزاً في طريقتهِ وأسلوبه وتفلسفاته حول الحياة، ويدركُ أيضاً أنّ عليه ألاَّ يجهل حقيقة ما على الإنسان أنْ يكون عليه دائماً، مِن إدراكٍ لعقلهِ وتفكيره وسؤاله انطلاقاً مِن مسؤوليّته في فلسفة الاختيار الحرّ.
Tloo1996@hotmail.com
*كاتب كويتي
كعادة ابو محمد في وضع اصبعه على اصل العله ، نحن في هذا الجزء من العالم مسترقون اشبه بالروبوتات نكرر إبائنا ونلد اجدادنا .. العقل والنقد والحرية من الموبقات الموجبه للتوبه