الإنسان كائنٌ هويّاتيٌّ صاخب . يأتي بهويّتهِ ، ويَضعها في منتصف الطريق ، يتحدّثُ من خلالها عالياً ، ويصرخُ بها على رؤوس الأشهاد، اثباتاً لحضورهِ وتواجدهِ ، ورغبةٍ ملّحةٍ منهُ في انتزاع الاعتراف من الآخرين بجدارةِ وأحقيّة هويّته. هكذا يأتي الإنسان دائماً ، تسبقهُ هويّتهُ، التاريخيّة والتراثيّة والثقافية والمذهبيّة والأيديولوجيّة وحتى الشعوريّة. لأنه في الأساس كائنٌ يتغذّى على الخوف. الخوف دائماً من ألاّ يكونُ يصرّحُ حقيقةً عن هويّتهِ وحضورهِ ، والخوفُ من ألاّ يكونُ ذاته التي يراها في مرآةِ هويّته ، والخوفُ من ألاّ يتمثّلُ في هويّتهِ كما يجب.
هذا الإنسان يتغذّى على الخوف ، لأنّهُ لا يستطيعُ أن يرى ذاته من غير هويّةٍ تسبُقها . هويّةٌ تمنحهُ قبل كلّ شيء يقين الاطمئنان إلى ذاتهِ من التشرذم والتلاشي ، وتُعزِّزُ فيه ثقتهُ بتاريخه وتراثهِ وأمجاده . وهيَ هويّتهُ التي تمنحهُ تالياً اعتراف الآخرين به ، وتوفِّرُ له تبعاً لذلك حضوره وتواجدهُ ومكانته . وثمة خوف آخر يتغذّى عليه الإنسان في سبيل البقاء أبداً على قيْد هويّةٍ تتحدّث عنهُ ، ويصرخُ بها ، ويخرجُ بها أيضاً على الآخرين . إنّهُ الخوف من الآخر ، الآخر الذي يجب أن يخشاه ، وأن يحذر ويحترزُ منه ، خوفاً ربما من أن لا يستطيع الآخر أن يراهُ على حقيقتهِ ، وعلى هويّتهِ التي يريدُ أن يتميّزُ بها عنه . إنّهُ يخافُ من الآخر سبيلاً لتعزيز هويّتهُ وتثبيتها والنأيُّ بها عن الضياع والذوبان والتكسّر ..
هذا الإنسان لا يريدُ أن يرى ذاته كما هيَ عليها أن تكون ، عاريةً إلا من مرآةِ وجودها ، بل يريدُ أن يراها دائماً كما يجبُ أن تأتي من خلال تاريخهِ وتراثه ومذهبه ويقينيّاته النصيّة . إنّه لا يستقبحُ هويّةً يظهرُ بها ، لأنّهُ يظنُّ دائماً وأبداً إنها خالية من التشوّهات والهنّات والقباحات والثغرات . إنّهُ لا يستقبحُ أصلاً ذاته المصنوعة في مرايا الآخرين من السابقينَ والحاضرين . إنّهُ يرِثُ هويّتهُ ولا يَخلقها ، ويرِثُ ذاته ولا يصنها . ويرِثُ معتقدات لا يفهمُها ، ويرِثُ نصوصاً لا ينتقدها ، ويرِثُ كُتُباً لا يقرأها .
والإنسان عموماً يأتي في هويّةٍ صوتيّةٍ . صاخبة ، مُتخمة بالتراثيات والنصوص والصراخات والصوتيّات والبطولات والكراهيات أيضاً . يَتمسرحُ بها حضوراً كلاميّاً . فالكلام في هويّتهِ جوهر حضوره . ولا تستطيعُ هويّتهُ إلا أن تكون كلاماً . فالكلام عنوان هويّتهُ ، وشخصيتها وحضورها وتواجدها أيضاً . وفي الكلام وعبرَ الكلام تكونُ الهويّة صوتاً ، وحضوراً صوتيّاً استعراضياً . ففي الصوت تجدُ الهويّة نبرتها المقدّسة ، وتاريخها المنبريّ ، وثقافتها الشفاهيّة ، ومخزونها الأسطوري . ويجبُ أن تأتي صوتاً ، وإلا فقدت بريقها في الكلام . إنّهُ الصوت في هويّةٍ تتكرّرُ بالكلام ، وتتواجدُ بالهِتاف ، وتحضرُ بالشعار ، وتستمرُّ بالصراخ والانفعال والحماسات المنبريّة . هذا الإنسان يحضرُ صوتاً في أصوات الآخرين ، ويتكرّرُ في هويّةٍ صوتيّةٍ ، تمنحهُ زهو الانفعال بتاريخهِ وأمجادهِ ونصوصهِ . الانفعال الذي يساوي حجم الصوت في هويّتهِ ، والانفعال الذي يُبقيه على قيْد الحماس اليقيني بهويّتهِ ، متفاخراً ومتنرجساً بها . هذا التفاخرُ جزءٌ حميميّ من التصاقهِ بهويّتهِ ، والظهور بها . إنّهُ التفاخر الذي يجعلهُ متعاليّا فوق الجميع بصفاء تاريخه وتراثه ومعتقداته . وهوَ التفاخرُ الذي يتغاضى به عن اساءاته للآخرين ، ويُبرّرُ من خلالها عدائيتهُ للآخر .
كيف يشعرُ بالذاتيّة ، مَن يأتي ويحضرُ دائماً في هويّةٍ مصنوعةٍ من عجين الانتماءات الهوياتيّة الجمْعية ، تلكَ التي تتقولبُ في ثقافاتٍ محدودة ومحدّدة سلفاً ، وتندرجُ في يقينيّات مطلقة ، وتظهرُ في صوتيّاتٍ تلقينيّة ومُبرمجة . ليسَ ثمة انتماء لهويّةٍ ذاتيّة فرديّة مستقلّة عند هذه الإنسان ، إنّه يرى ذاته في انتماءٍ يقينيّ محض للهويّة التي منحتهُ من قبل شرف الانتماء للهويّة المذهبيّة أو للهويّة القَبليّة أو للهويّة الأيديولوجية أو للهويّة الشعاراتيّة أو للهويّة التراثية . إنّه الانتماء للتعصّبِ والانغلاق والأدلجة والجماعيّة الثقافيّة . وثقافة الانتماء لديه تقوم أساساً على نمطيّة ثابتة في التفكير والسلوك والاتجاه ، تتجسّدُ في انتماء صوتيّ وعاطفيّ وانفعاليّ وحماسيّ ، معلنة سلفاً وغير محدودة في عطائها واخلاصها وتفانيها . وهو الانتماء الذي يجعلهُ متيقّناً من أنّ هويّتهُ هي الأفضل والأنقى والأصفى ، وأنّ الآخرَ في نظرهِ هو محض هويّة أيضاً . يدفعهُ ذلك إلى الاحتراز منه مُسبقاً ، أو حتى اتخاذ موقف العداء منه ، لمجرد اعتقادهِ بأنّ الآخر يتشكّل دوماً في هويّةٍ ما . والهويّة في أحد تمظّهراتها الأساسيّة معنيّةٌ بالخطاب ، الخطاب الموجّه للآخر ، والخطاب في ثقافة الهويّة صوتٌ عال وحضور مُبرمج ، والصوتُ فيها انعكاسٌ لتاريخها وتراثها ونصوصها وأدبياتها . ففي مواجهة الآخر ، الهويّة تأتي خطاباً متحيّزاً واحترازيّاً في أغلبهِ ، وحاملاً لمنقولاتها التراكميّة ويقينيّاتها المتجذرة . ولا يُمكنُ للهويّة إلاّ أن تأتي خطاباً في مواجهة الآخر ، لأنه يحيل الهويّة إلى التاريخ والنصوص ، ويُحيلها إلى معتقدات وتفاسير . والهويّة في الخطاب ، هيَ هويّةٌ مترعةٌ بشعور الزهو والاستعلاء . فالإنسان لا يشعرُ بهويّتهِ إلاّ بقدر الخطاب الذي يتحدّثُ عنها ، وإنّهُ لا يشعرُ بذاتهِ إلا بقدر ما تحملهُ هويّتهُ من خطاب وأصوات وصراخات أيضاً . إنّهُ لا يرى ذاته إلاّ بقدر ما يرى هويّتهُ في أعماقه وأحاسيسه وتفسيراته . إنّهُ يظهرُ في هويّتهِ صوتاً وخطاباً وعداءً أيضاً ، ولا يستطيعُ أن يرى ذاته إلاّ ظهوراً في هويّتهِ . هويّتهُ صورته التي يجب أن تكونَ ظهوراً دائماً ، وأن يظهر إلى الناس بنفس المقدار الذي يجب أن تظهرَ به هويّتهُ ..
ولا شيء يُشغل الإنسان ، سوى أن يتحقّقَ دائماً من أنّهُ يتشارك ثقافيّاً وخطابيّاً وعاطفيّاً وحضوريّاً مع الذين هُم في هويّتهِ نفسه ، يتشارك معهم جماعيّاً في الظهور بها ، وأن تكونَ هيَ حضورهم المشترك ، وصورتهم وتفسيراتهم الواحدة ، وخطابهم وعنوانهم وقانونهم الموحّد أيضاً . إنّها الهويّة التي تؤسس للعقل الجمعي ، لأنها تسبقهم بوجودها ، ولأنهم يعتقدون دائماً ويؤمنون بوجود ما يسبقهم . وهيَ الهويّة التي تؤسس للشعار الجمْعي ، والفكرة الجمْعية ، والثقافة الجماعيّة . وحتى عليها أن تُدرجهم تحت العاطفة والشعور الجمعي . وهذه الجماعيّة الصارمة في الهويّة هيَ مَن تمنح الإنسان شعوراً تخديريّاً بالراحة النفسيّة والعقليّة ، لأنها أدرجتهُ مستقيماً صالحاً مُطيعاً في صلب الجماعة والجماعيّة . ولا يستطيع هذا الإنسان أن يحيا من غير أن يستقيم ثقافيّاً وحضوريّاً في هويّةٍ جماعيّة ، لأن الجماعيّة هنا تعني له أولاً وأخيراً حضوره وظهوره وكيانه واستقامته وطاعته وشرعيته وذاته وتاريخه وتراثه . وهذه الجماعيّة المحشورة في صورة هويّةٍ محدّدة ، هيَ موضوعه المشترك وحتى هيَ مصيره المشترك ، وهذا المشترك هو جوهر ذاته وأصل وجوده ، وهو الجدير تالياً بالعناية والحماية والطاعة والاهتمام والرعاية ..
والهويّة في شكلها الجماعيّ وفي كيانها الجمْعي ، بالنسبةِ للفرد تعني ، التزاماً ثابتاً بثقافتها وخطابها وأدبياتها وتفسيراتها . ففي حضورها الجماعيّ لا يُعنيها من الأساس وعي الفرد بأسباب التزامه تجاهها ، بل يُعنيها دائماً أن يكونَ المنتمي لها واثقاً من حضورها وظهورها الجماعيّ ، ومطمئناً من أنّهُ مخلصٌ ومطيعٌ للجماعيّة التي تُعززُ فيه ثباته على هويّتهِ . والتزام الفرد في ثقافتهِ الهويّاتيّة يعني ما يحملهُ في داخلهِ من تأليهٍ لها . التأليه الذي يجعلها فوق النقد وقبل الجميع وفوق الجميع أيضاً . وهوَ التأليه الذي يجعلهُ يرى هويّتهُ دائماً في ضخامةٍ مهولةٍ ، ترهبهُ وتُخيفه وتُلزمه باشتراطاتها في الطاعة الكاملة . هذا التأليه يجرّدُ الفرد من ذاتيّته ومن حرّيته ومن نزعتهِ في التمرّد ويجرّدهُ من عقلهِ أيضاً ، لأنه يحصرُ وجود الإنسان في امتلاكهِ لهذه الهويّة المتألّهة . وهو امتلاك مفعمٌ بشعور الاصطفاء والخلاص واليقينيّة المطلقة . وهو الامتلاك الذي يدفعُ به نحو الذوبان كليّاً في الجماعيّة الهوياتيّة ، ويدفع به نحو مواجهة الآخرين والتحيّز ضدهم ، للمحافظة على هذا الامتلاك من العبث أو النقد أو الدحض أو التشويش أو التخريب أو التطاول أو السرقة . إنّه يجد في امتلاكهِ هذا امتلاكاً كاملاً للحقيقة ، وامتلاكاً كاملاً للوجود ، وامتلاكاً أبديّاً للخلاص والخلود أيضاً ..
هذه الهويّاتيّة المُدرجة في انغلاقاتِ ثقافية ومذهبيّة وقوميّة وتاريخيّة وأيديولوجيّة ونصيّة وشعاراتيّة ، لا ترفع الإنسان إلى مستوى الإنسانية الخالصة ، المُنعتقة من شرور التعصّب الهويّاتي ومن شرور الانحياز والعدائية والانغلاق ، ولا تجعل الإنسان يلامسُ حقيقة وجوده الحقيقي ، من حيث كونهِ إنساناً يمتلكُ أولاً وقبل كلّ شيء خياراً حرّاً ، في أن يكونَ كما هوَ متفرّداً في نظرتهِ ومسؤوليتهِ وقرارهِ ، ومتميّزاً في احساسهِ العميق بإنسانيتهِ . ذلكَ الاحساس الوافر بالمحبّةِ والجماليّة والانفتاح والحريّة ، والوافرُ بالتعالق مع الآخر في إنسانيّةٍ خاليّة من التوجّسات الذهنيّة الاستباقيّة ، وخاليةٍ من التحيّزات الهوياتيّة المنغلقة والعدائية . هذه الإنسانية في عمق هويّتها الإنسانيّة المحضة ، كانت دائماً وأبداً هيَ ملاذ الإنسان وأساسه في حياةٍ نظيفةٍ من التشوّهات الهويّاتيّة ومن الثقافات الهويّاتيّة المُدمّرة ..
كاتب كويتي
Tloo1996@hotmail.com