ينزع العلماني العربي إلى تجاهل موضوع “الإصلاح الإسلامي” الذي يراه أشبه بموضوع “فرعي” يُحال إلى “المهتمّين” من أمثال جمال البنّا، أو المستشار العشماوي، أو سيّد القمني، أو العفيف الأخضر، أو غيرهم. ويميل ، أحياناً، إلى اعتبار جمال البنّا مثلاً، “إسلامياً معتدلاً”، مع أن ما يدعو له البنّا هو “التطرّف” بعينه! (راجع مقال: إحذروا من جمال البنّا).
تجاهُلُ “الإصلاح الديني” كقضية مركزية إمتداد، على الأرجح، للفكر الماركسي والقومي العربي “العلماني” (“العلماني” مبدئياً، أما التطبيق فموضوع آخر..). فلا أذكر أن حركات مثل البعث والقوميين العرب والأحزاب الشيوعية و”الناصرية” طرحت موضوع “الإصلاح الإسلامي” ضمن أدبيّاتها. وحينما طُرِح الموضوع “الإسلامي” على هذه الأحزاب والأنظمة، في مصر وسوريا وفي المقاومة الفلسطينية (“الجبهة الديمقراطية” بقيادة نايف حواتمة، مثلاً)، كان الموقف من “الإسلام” “صِدامياً”. فَقَمَعَ الرئيس جمال عبد الناصر حركة “الإخوان المسلمين” وأعدم “سيّد قطب”. وقصف البعث السوري المساجد في عهد أمين الحافظ وفي عهد خلفه غير المُنتَخَب حافظ الأسد. واتخذت “الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين” مواقف عدائية صريحة من “الإسلام” تتراوح بين السخرية والدعوة للإلحاد. طبعاً، سعت هذه الأحزاب والحركات والأنظمة للتحالف مع مشايخ معتدلين أو “متمركسين”، ولكنها لم تطرح موضوع “الإصلاح الإسلامي”.
انهارت الحركات القومية، وما تبقّى منها هو مجرّد أجهزة أمنية ودبابات. وانهار الإتحاد السوفياتي و”المنظومة”، ومعه الأحزاب الشيوعية العربية التي كانت، في الواقع، مثل “ديكتاتور” غارسيا ماركيز، قد توفّيت بدون إعلان.
ومع انهيار القومية والماركسية العربية، ومع الصعود الصاروخي لسعر البرميل منذ “صدمة النفط” في العام 1973 (الذي أعطى السعودية وحلفاءها القدرة على نشر نموذجها “الوهابي” عالمياً)، و”الثورة الخمينية”، ثم مع الهجرة العربية والإسلامية الواسعة النطاق (15 مليوناً على الأقل في أوروبا، وربما أكثر في الولايات المتحدة وكندا وأوستراليا)، ومع انتشار “الفضائيات” (فضائية “الإخوان”، أي “الجزيرة”، وفضائيات الوهابيين، مثل “إقرأ” وغيرها)، فقد عاد “الإسلام” إلى الواجهة.
عودة الإسلام إلى الواجهة لا تقتصر على الإرهاب، الذي يرمز له بن لادن والظواهري. “الصحوة الإسلامية” طرحت مشكلة سياسية على النظام السعودي، وأنظمة الخليج الأخرى بدرجة أخف. وباتت أوروبا بصورة خاصة تعيش شبه حالة “حرب أهلية باردة” بين سواد الأوروبيين والتجمعات العربية والإسلامية التي لعب “الإخوان المسلمون” والفضائيات دوراً كبيراً في “أسلمتها”. وليس صدفةً أن يقوى حالياً التيار “التقليدي” داخل الكنيسة الكاثوليكية وأن يدعو بابا الفاتيكان لاستبدال “الحوار الديني” بـ”حوار الثقافات”. أو أن يدعو البعض إلى إقامة “محاكم شريعة” في أوروبا!
ما العمل؟
المشاريع “الجهادية” و”الإخوانية” تنتهي، في أوروبا مثلاً، إلى مشاريع “غيتوات إسلامية” ينطق “الإخوان المسلمون” بإسمها (عبر “إتحاد المنظمات الإسلامية” في كل بلد أوروبي، أو عبر شبكات طارق رمضان) أو ينخرط شبابها في الإرهاب تلبية لدعوات بن لادن وغيره. لكن مشاريع “الغيتوات الإسلامية” (مع محاكمها “الشرعية”) ومشروعات “الصِدام” مع الأديان الأخرى تتعارض مع تجربة الإسلام التاريخي. الإسلام، تاريخيا،ً توسّع وانتشر “سلمياً” في معظم القارات وبالإنفتاح على الأديان والحضارات الأخرى. والأهم، فالإسلام الإخواني والوهابي لا يبدو قادراً على التعايش مع الحضارات والأديان الأخرى، سواء في بلاد المسلمين أو في “المهجر”. لماذا؟ لأن مرجعيّته هي “فقه القرون الوسطى”.
ينبغي هنا أن نشير إلى مقال ممتاز نشره الصديق العزيز جمال البنّا ودعا فيه إلى إحياء “زواج المتعة” (وهو إسلامي قبل أن “يتشيّع”) كحلّ لمشكلة الزواج الفاشل الذي يقدم عليه المهاجرون المسلمون في الغرب. أي أن البنّا دعا إلى صيغة “إسلامية” للعلاقات الحرة التي يقيمها الشبّان والشابات الأوروبيون والأميركيون والتي يمكن أن تتحوّل إلى زواج، أو لا تتحوّل، بعد فترة “إختبار” أو “تعارف”.. (هنالك نسخة “زندانية”، نسبة للشيخ الزنداني لهذه الفكرة).
محاولات جمال البنّا وغيره ظلت محدودة التأثير حتى الآن لأن الإسلام “الصاعد” هو الإسلام “السلفي” (حتى “الإخوان” سلفيون في عقائدهم) الذي لا يملك مفاتيح التفاهم والتعامل السلمي مع الحضارات الأخرى.
المطروح الآن على المسلمين في بلادهم وفي الغرب هو ما طرحه الجنرال بونابرت على اليهود الفرنسيين في بدايات القرن19: “أن يدرسوا بجدّية إلى أي حد يمكنهم، عبر تجاوز عاداتهم الأكثر رسوخاً، أن يحتلوا موقعهم ضمن العالم الحديث، وأن يستفيدوا، بدون أن يسيئوا إلى وجدانهم وضميرهم، من مزايا الحضارة الأوروبية”. وبكلمات بونابرت: “بدون التخلّي عن دينهم، ولا بإحداث أي تعديل يتعارض مع نصوص دينهم وروحيّته”!
هل تمثّل تجربة “الإصلاح اليهودي” البونابرتي نموذجاً لـ”إصلاح الإسلام” المعاصر؟ القارئ المسلم، و”السلفي” خصوصاً، الذي يستفزّه السؤال يجدر به أن يتذكّر أن المسيحية والإسلام تنتمي إلى تراث “موسوي” واحد، وأن المسيحية والإسلام “أكملت” (بالتعبير المسيحي) الشريعة اليهودية أو “أتمّتها” (بالتعبير الإسلامي).
وعلى الذين يستفزّهم التشبيه مع “اليهود” أن يتأمّلوا في ما يجمع الدينين: “شعب الله المختار” و”خير أمّة أخرجت للناس”، تعدّد الزوجات، الموقف من الربا، الموقف من العلوم الوضعية مقابل العلوم الدينية، وعشرات المسائل الأخرى، مروراً بالزي “التقليدي” للعرب واليهود وبالتسمية “عبدالله بن..”، التي كانت التسمية المعتمدة حتى لليهود الأوروبيين (اليهودي أيضاً لم يكن يستخدم إسم عائلة فكان إسمه “كوهين بن ..” أو “سيمون بار..”، ومثل هذه التسمية ما تزال دارجة في السعودية حتى الآن. على الأقل، يجدر بهؤلاء القراء أن يقرأوا الـ12 سؤالاً التي طرحها بونابرت على أبناء عمّنا اليهود!
هنالك تجربة أخرى تستحق الدراسة وهي تجربة “المحاكم الشرعية” التي أقامها “البولشفيك” (الشيوعيون كانوا أقل “جذرية” من بونابرت) في أيام لينين في الجمهوريات السوفياتية الإسلامية وظلت قائمة حتى استأصلها جوزيف ستالين. وكانت تمثل 80 بالمئة من محاكم الشيشان مثلاً. وقد نعود إلى موضوعها في مقال آخر.
***
بونابرت يحطّم أبواب “الغيتوات” اليهودية: “أنتم رجال أحرار”
كان الجنرال “الجمهوري” نابليون بونابرت أول من قام بتدمير “الغيتوات” اليهودية في إيطاليا، وبإعلان سكانها “مواطنين”.
وكانت أوامره أثناء حملته الإيطالية هي: “كي لا يظل هنالك فارق ظاهر بين مواطني هذه المدينة (مدينة “البندقية”، مثلاً)، فإننا نأمر بتحطيم الأبواب التي كانت تحيط بـ”الغيتو” في الماضي”. وتبعه في ذلك كل جنرالات الجمهورية الفرنسية الذين أعلنوا المساواة بين المواطنين في مدن إيطاليا، وسنوا دساتيرها على هذا الأساس. وقال الجنرال نابليون لوفد يهودي يمثّل يهود مدينة قريبة من ميلانو: “أنتم رجال أحرار. سأبقيكم أحراراً. كونوا أقوياء، لا تخافوا، ولا تدعوا القلق يساوركم”!
وأعلنت “الجمعية الوطنية التأسيسية” في فرنسا حرية المعتقدات والمذاهب في العام 1791، وقرّرت إبطال جميع الضرائب التي كانت تطال اليهود وحدهم. بذلك أصبح اليهود مواطنين كاملين في فرنسا: “إن الجمعية الوطنية، إنطلاقاً من أن الشروط الضرورية لامتلاك صفة المواطن الفرنسي ولممارسة وضعية المواطن الفاعل محدّدة في الدستور، وأي رجل تجتمع فيه الشروط المذكورة ويؤدي “القَسَم المدني” ويتعهد بتأدية كل الإلتزامات التي يفرضها الدستور، يحق له أن يتمتع بجميع المزايا التي تؤمّنها”. ولكن قلة من اليهود الفرنسيين أبدت إستعداداً لإداء “القَسَم المدني”. وإذ كان اليهود يتلقّون التعليم في مدارس دينية كانت تغذّي فيهم ميول الإنطواء، فقد بدا لهم “القَسَم المدني” بمثابة “بدعة”، بل وكخيانة لأخلاقهم الخاصة، وكدخول في المجهول وفي دينٍ آخر. وحدهم يهود غرب فرنسا، وكانوا يسمون “البرتغاليين” استفادوا من الإنفتاح الثوري وذهبوا إلى حد.. شراء أملاك عامة.
الثورة الفرنسية اضطهدت اليهود كـ”مواطنين” وليس كـ”يهود”
ولكن تردّد اليهود كان مرتبطاً بسبب آخر يتعلّق بالثورة نفسها. فالعداء للأديان الذي اتخذ أشكالاً عنيفة في سنوات الثورة الأولى لم ينحصر بالمسيحية بل شمل اليهود. ولهذا السبب، أصدرت الجمعية التأسيسية في 28 سبتمبر 1789 وفي 16 أبريل 1790 مراسيم وضعت بموجبها اليهود تحت حمايتها وأمرت البلديات والحرس الوطني بالدفاع عنهم. ولم يفهم اليهود أن بعض أعمال العنف التي تعرّضوا لهم لم تكن مختلفة عن أعمال العنف التي تعرّض لها الكاثوليك والبروتستانت. فتعرضت الكُنُس اليهودية لنفس أعمال التهديد والنهب التي تعرّضت لها الكنائس المسيحية. وحظر الثوّار الصلوات باللغة العبرية، تماماً كما حظروا إداء القدّاس باللغة اللاتينية. وأرغم حاخامات على التجديف، مثلما أرغم الكهنة والقسس. ولكن اليهود لم يدركوا أنهم، هذه المرة، كانوا يتعرّضون لاضطهادات جديدة بصفتهم “مواطنين” وليس بصفتهم “يهوداً”.
في السنوات اللاحقة، بدأ يهود غرب فرنسا وجنوبها، ويهود باريس، بالإندماج في المجتمع الجديد الذي بدأ يتشكّل وسط الإرهاب والدماء. وبين العام 1793 والعام 1806، بدأت شخصيات يهودية بالمشاركة في الحياة السياسية، وتأثرت بالأفكار الثورية.. بل وتخلّت عن أزيائها التقليدية، والأهم أنها شرعت بإرسال أبنائها إلى المدارس العمومية بعد أن فهمت أن التعليم موجود خارج المدارس التي تلقّن التوراة والتلمود.
مع ذلك، اكتشف نابليون في العام 1806 أن اليهود كانوا في حالة فوضى، وأنهم كانوا ما يزالون يمارسون الربا بصورة فظيعة في منطقة الألزاس. وهنا قرّر، أولاً، أن يدرس “المسألة اليهودية”، عبر تقارير عديدة عهد بها إلى معاونيه وإلى إختصاصيين في هذه المسألة. ثم قرّر في مرحلة لاحقة أن يجد حلاً للمسألة اليهودية على نحو يجعل اليهود مواطنين فرنسيين كاملين، بما في ذلك ممارسة الملكية العقارية(التي كان اليهود، كشعب رحّل بسبب الإضطهاد) يتجنّبونها، وكذلك (وهذا كان مهما جداً لـ”الجنرال” بونابرت) الإنخراط في الجندية كسائر الفرنسيين.
الإمبراطور يطرح 12 سؤالاً على اليهود
بدون التطرّق إلى التفاصيل الكثيرة (مع أنها تستحق القراءة)، فقد عقد الإمبراطور “السنحدرين الأكبر” (ربما يعادل مع يسميه الكاثوليك “المجمع المسكوني”، وما يسمّيه المسلمون “مجمّع الفقه الإسلامي”.
طرح الإمبراطور على ممثلي اليهود، من رجال دين ووجهاء علمانيين، 12 سؤالاً:
1- هل يجوز شرعاً لليهودي أن يتزوّج أكثر من إمرأة؟
2- هل يسمح الدين اليهودي بالطلاق؟ وهل يصبح الطلاق ساري المفعول حتى من غير أن تعلنه المحاكم و‘ذا ما تمّ بموجب قوانين مناقضة لأحكام القانون المدني الفرنسي؟
3- هل يمكن ليهودية أن تتزوّج مسيحياً، ولمسيحية أن تتزوّج يهودياً؟ أم أن الشريعة توجب أن يتزوّج الهود في ما بينهم؟
4- هل ينظر اليهود إلى الفرنسيين كأخوة لهم أم أن الفرنسيين هم غرباء؟ (ملاحظة: تعبير “الغريب” في العبرية هو “الآخر”).
5- في كلا الحالتين، ماهي العلاقات التي تنص شريعتهم على وجوب إقامتها مع الفرنسيين الذين لا ينتمون إلى دينهم؟
6- هل ينظر اليهود المولودون في فرنسا، والذين يعاملهم القانون كمواطنين فرنسيين، إلى فرنسا كوطنهم؟ وهل يترتّب عليهم واجب الدفاع عنها؟ وهل هم ملزمون بإطاعة القوانين وباتباع أحكام “القانون المدني”؟
7- من يعيّن الحاخامات؟
8- أي نوع من سلطة الشرطة يمارس الحاخامات بين اليهود؟ وما هي السلطة القضائية التي يمارسونها بينهم؟
9- هل تشتق أشكال الإختيار (أي تعيين الحاخامات)، والسلطة القضائية، من الشرائع أم أنها تكرّست بفعل العادات والتقاليد؟
10- هل تحظّر الشريعة على اليهود ممارسة مهن معينة؟
11- هل تحظر شريعة اليهود عليهم ممارسة الربا إزاء إخوتهم من اليهود؟
12- هل تحظر عليهم ممارسة الربا أزاء الغرباء؟
يهودي “ليبرالي” ويهودي “حقيقي”
النقاشات التي شهدتها الجمعية العامة لليهود كانت عنيفة. حاخام مدينة “ستراسبورغ”، دافيد سنتزهايم، مثلاً، كان يعتبر حاخام مدينة “بايون” بمثابة “مهرطق أكثر منه يهودي”، واعتبر أن حاخام تورين “يملك كفاءات أدبية ولكن لا يمكن، بأي حال من الأحوال، إعتباره واحداً من العلماء” (بالمعنى الديني).
نابليون: “أن يزيلوا من التشريع الموسوي كل ما يتّسم بالقساوة والوحشية”
من جهته، قال نابليون في إحدى مذكراته لوزير داخليته: “نحن لا نطالب اليهود بالتخلّي عن دينهم، ولا نطالبهم بإحداث أي تعديل يتعارض مع نصوص دينهم وروحيّته”! وبعتبير “باسكييه” الذي عهد إليه نابليون بالإشراف على الجمعية العمومية الأولى لليهود، “طلبنا منهم أن يدرسوا بجدّية إلى أي حد يمكنهم، عبر تجاوز عاداتهم الأكثر رسوخاً، أن يحتلوا موقعهم ضمن العالم الحديث، وأن يستفيدوا، بدون أن يسيئوا إلى وجدانهم وضميرهم، من مزايا الحضارة الأوروبية”. في وثيقة لاحقة يطلب الإمبراطور من اليهود “أن يطهّروا شريعة موسى من كل ما ينمّ عن عدم التسامح” (في مكان آخر من الوثيقة: أن يزيلوا من التشريع الموسوي كل ما يتّسم بالقساوة والوحشية”). ويطالبهم بإعلان “أن شريعة موسى تشتمل على أحكام دينية وأحكام سياسية. وأن الأحكام الدينية ثابتة ولا تتغيّر، بعكس الأحكام السياسية التي هي قابلة للتعديل”.
في وثيقة أخرى، يقول: “حينما نُخضعهم للقوانين المدنية، لا يتبقى لهم، بصفتهم يهوداً، سوى العقائد الدينية وبذلك فإنهم سيخرجون من الوضعية التي كان فيها الدين هو الشريعة المدنية الوحيدة، كما هي الحال لدى المسلمين، وكما كانت الحال دائماً في طفولة جميع الأمم…”.
ردود ممثلي اليهود على أسئلة الإمبراطور
(نورد هنا ملخّصاً للردود. وهذا الملخّص لا يعطي النقاشات الغنية حقّها، علماً بأن النقاشات استمرّت على مدى عدة أشهر).
أجاب ممثلو اليهود (من رجال دين وعلمانيين) على النحو التالي (ترجمة شبه حرفية):
1- “لا يجوز لليهود أن يتزوّجوا أكثر من إمرأة واحدة: وفي جميع البلدان الأوروبية، فإنهم يلتزمون عموماً بتقليد الزواج من إمرأة واحدة.
“إن موسى لا يأمر صراحة باتخاذ عدة زوجات، لكنه لا يحظر ذلك. والظاهر أنه تبنّى هذا التقليد، بدليل أنه يبت كيفية تقسيم الإرث بين أولاد يتبعون لعدد من الزوجات. ومع أن هذا التقليد ما يزال رائجاً في الشرق، فقد حثّهم عدد من علمائهم القدامى على الإمتناع عن اتخاذ أكثر من زوجة، إلا حينما يسمح ثراء الرجل له باتخاذ عدة زوجات.
“لكن الوضع اختلف في الغرب. فالرغبة في تبنّي تقاليد سكان هذا القسم من العالم دفعت اليهود إلى الإمتناع عن تعدّد الزوجات. مع ذلك، وحيث ان بعض الأفراد ظلوا يمارسون هذا التقليد، فقد انعقد في مدينة “وورمز” في القرن الحادي عشر “سينودس” ضمّ 100 حاخاماً، برئاسة الحاخام “غيرشوم”. وأسفر هذا المجمع عن إصدار حَرَم ضد أي إسرائيلي يقوم، في المستقبل، باتخاذ أكثر من زوجة واحدة.
ومع أنه لم يكن مقصوداً أن يظل الحَرَم المذكور ساري المفعول غلى الأبد، فإن تأثير الأخلاق والعادات الأوروبية كان غالباً على العموم.”
2- “إن شرائع موسى تجيز الطلاق. ولكن الطلاق لا يصبح ساري المفعول إذا لم يسبقه إعلان بالطلاق بموجب القانون المدني الفرنسي…”
3- “لا تحظر شريعة موسى زواج يهودية من مسيحي، ولا زواج يهودي من مسيحية، كما تنصّ على وجوب أن يتزوّج اليهود في ما بينهم فقط. إن الزيجات الوحيدة التي تحظرها الشريعة هي الزيجات مع أبناء الأمم الكنعانية السبع، ومع “أمون” و”مواب”، ومع المصريين. وهذا الحظر مطلق بالنسبة للأمم الكنعانية السبع. ويعتقد عدد من علماء التلمود أنه ينحصر بالرجال من هاتين الأمتين، ولا يشمل النساء. بل أنه يعتقد أن النساء كنّ سيعتنقن الدين اليهودي. أما في ما يتعلق بالمصريين، فالحظر لا يتجاوز الجيل الثالث. وعلى العموم، فالحظر ينطبق فحسب على الأمم عابدة الأوثان. إن التلمود يعلن بصورة قاطعة أن الأمم الحديثة لا تُعتَبَر أمماً عابدة للأوثان لأنها، مثلنا، تعبد إله السماء والأرض. وبناءً عليه عُقدَت، في حقبات عدة، زيجات مشتركة بين اليهود والمسيحيين في فرنسا، وفي إسبانيا، وفي ألمانيا. إن قوانين الملوك الذين استقبلوا اليهود ضمن ممتلكاتهم كانت، أحياناً، تتقبّل مثل هذه الزيجات، وتحظرها أحياناً أخرى.
“إن مثل هذه الزيجات ما تزال موجودة في فرنسا. ولكننا لا نستطيع أن ننكر أن وجهة نظر الحاخامات هي ضد هذه الزيجات. ووفقاً لعقيدتهم، مع أن دين موسى لم يحظر على اليهود التزوج من أمم غير يهودية، وحيث أن الزيجات، وفقاً للتلمود، تقتضي إحتفالات دينية تدعى “كيدوشيم”، وتشمل البركة، فإن أي زواج لا يكون صحيحاً من وجة النظر الدينية إلا بعد إداء هذه المراسم. إن إداء مثل هذه المراسم لا يمكن أن يتم إزاء أشخاص لا يعتبرونها، كليهما، مقدسة. وفي مثل هذه الحالة، يمكن للزوجين أن ينفصلا بدون الحصول على طلاق ديني. بناءً عليه، سينظر إليهما على أنهما متزوجان مدنياً وليس دينياً.
“إن ما سبق هو رأي الحاخامات من أعضاء هذه الجمعية العمومية. وعلى العموم، فإنهم ليسوا أكثر استعداداً لمباركة زواج اليهودية بمسيحي، أو اليهودي بمسيحية، من استعداد الكهنة الكاثوليك لإجازة هذا النوع من الزيجات. ولكن الحاخامات يقرّون، رغم ما سبق، بأن اليهودي الذي يتزوّج مسيحية لا يفقد صفة اليهودية في نظر أشقائه اليهود، مثله مثل اليهودي الذي يعقد زواجاً مدنيا، وليس دينيا، على يهودية.”
4- “يعتبر اليهود أن الفرنسيين أخوة لهم، وليسوا غرباء (تعبير “الغريب” بالعبرية هو “الآخر”).
إن الجوهر الحقيقي لشريعة موسى ينسجم مع هذه النظرة إلى الفرنسيين. وحينما استوطن اليهود أرضا أو عاشوا في أمة مستقلة، فإن الشريعة فرضت عليهم أن ينظروا إلى الغرباء (أي، الآخرين) كأخوة لهم………
إن إحترام الغرباء والإحسان إليهم أمر مفروض في شريعة موسى ليس كأخلاق إجتماعية فحسب، بل وكأمر إلهي.
………………………………………
نعم، إن فرنسا هي بلدنا، وجميع الفرنسيين أخوة لنا…….”
.
5-” إن السلوك الواجب تجاه الفرنسيين الذين لا يعتنقون ديننا هو نفس السلوك المفروض في ما بين اليهود أنفسهم. إننا لا نعترف بأن فارق، باستثناء فارق عبادة الخالق الأسمى، كل علىطريقته.”
6-” إن الناس الذين تبنّوا هذا البلد، وأقاموا فيه لأجيال عديدة.. لا يمكن سوى أن يعتبروا أنفسهم فرنسيين في فرنسا. كما أنهم يعتبرون واجب الدفاع عن بلدهم واجباً مقدّساً ومشرّفاً.”
……..
“إن حب الوطن بلغ من القوة عند اليهود، وهو ينسجم مع وجهات نظرهم الدينية إلى درجة أن اليهودي الفرنسي يعتبر، حينما يكون في إنكلترا، أنه بين غرباء، حتى لو عاش بين يهود. وذلك أيضاً هو شعور اليهود الإنكليز في فرنسا.
وقد بلغت هذه العاطفة (الوطنية) عند اليهود حدّ أنه حدث خلال الحرب الأخيرة أن قاتل يهود فرنسيون باستماتة ضد يهود آخرين من رعايا دول غير فرنسا.”
7- “منذ الثورة الفرنسية، فإن أغلبية رؤساء العائلات تقوم بتعيين الحاخامات، بعد التدقيق في سيرتهم الأخلاقية… ولكن طريقة الإختيار تتفاوت بين ناحية وأخرى..”
8- “لا يمارس الحاخامات أية سلط شرطة قضائية بين اليهود. إن كلمة حاخام ترد لأول مرة في “الميشنا” و”التلمود” وتعني عالماً في الشريعة. وتطلق عليه صفة العالم نظراً لشهرته الواسعة، واستناداً إلى نظرة الجمهور لتعاليمه.
وحينما تشتّت اليهود، فإنهم شكّلوا تجمعات صغيرة في الأنحاء التي سُمِحَ لهم فيها بالإقامة بأعداد محدودة.
وفي تلك الظروف، حدث أحياناً أن قام حاخام ومعه إثنان من العلماء بتشكيل محكمة أطلقت عليها تسمية “بيت الدين” أي “بيت العدل”. وكان الحاخام يتولّى منصب القاضي، في حين يتولّى الآخران مناصب مساعديه.
…………………..
لقد تم إلغاء هذه المحاكم في فرنسا وإيطاليا منذ الثورة. وبات اليهود، بعد رفعهم إلى مرتبة المواطنة، خاضعين في كل شؤونهم لقوانين الدولة. وبناءً عليه، فإن وظائف الحاخامات… تنحصر بالدعوة لاتباع الاخلاق في المعابد، وبمباركة الزيجات، وإشهار الطلاق.”
…………….
10- بالعكس، فالتلمود يعلن صراحة أن “الوالد الذي لا يعلّم إبنه صنعة، إنما يربّيه ليصبح شريراً”.
لا جدال في أن الفائدة، وفقاً للتلمود، مُجازة حتى بين الإسرائيليين
11 و12- (بعد شرح مطوّل):
“لقد ميّزت شريعة موسى وشُرّاحها، وبإنسانية تستحق الإطراء، بين الإستخدامات المختلفة للقروض. هل هي لإدامة أسرة؟ في هذه الحالة، تُحظر الفائدة. هل هي للقيام بمضاربة تجارية، يكون فيها رأس المال عرضة للخسارة؟ في هذه الحالة، الفائدة تجوز حتى في ما بين اليهود. “أقرضوا الفقراء”، يقول موسى. في هذه الحالة، فالإمتنان هو الفائدة الوحيدة. ولكن الحال يختلف في ما يتعلق بالرساميل التي يتم استخدامها في التجارة الواسعة النطاق. في هذه الحال، يخوّل موسى المُقرِض أن يحصل على حصة من أرباح المُقتَرِض، وحيث أن التجارة كانت نادراً ما تتم في ما بين الإسرائيليين أنفسهم، باعتبار أنهم انحصروا في الزراعة وحدها، وحيث أنها كانت تتم بالعلاقة مع غرباء، أي مع الأمم المجاورة، فقد كان مُجازاً لهم أن يتقاسموا أرباحها معهم.
“إنه لا جدال في أن الفائدة، وفقاً للتلمود، مُجازة حتى بين الإسرائيليين في العمليات التجارية، حيث يصبح صاحب القرض، الذي يتعرض لبعض المخاطرة التي يتعرَض لها المُقترِض، صاحب حصة في أرباح هذا الأخير. إن ما سبق هو رأي جميع علماء الدين.” (ملاحظة: الدين اليهودي لا يتطرّق إلى الربا، في حين كانت الكاثوليكية تحظر “الربا” وتعتبرها “خطيئة).
ما بعد “السنحدرين الأكبر”
استكمل بونابرت نتائج “السنحدرين الأكبر” بمراسيم لاحقة: مرسوم 20 يوليو 1808 فرض على اليهود إعلان أسمائهم وأسماء عائلاتهم منذ ولادة طفلهم الأول. بذلك اكتسب اليهودي إسماً حديثاً، والأهم فقد بات لـ”المرأة” اليهودية “إسم” (قضية “بطاقات الهوية” للنساء السعوديات..). وحظر المرسوم أسماء مثل “بن..” والأسماء التي تظهر إنتماء إلى منطقة أو بلد الأصل.
قواعد اللغة والرياضيات كانت مشبوهة
سقوط الإمبراطور بعد سنوات، و”الثورة المضادة” لم يغيّرا شيئاً في الإصلاحات البونابرتية.
ولكن “السنحدرين الأكبر” ومراسيم بونابرت لم تكن كافية لتغيير ما رسخ على مدى قرون.
“فقد توجّب إقناع جماهير معظمها لا يعرف القراءة والكتابة بالأهمية الحاسمة للمعرفة العلمية، لأن قروناً من التهميش ولّدت لديها فكرة راسخة مفادها أن كل العلوم الدنيوية (غير الدينية) تمثّل خطراً على إيمانها، وعلى قوام دينها، وأن كل ما يخرج عن النصوص الدينية كان مسيئاً: قواعد اللغة، والرياضيات، وعلم التاريخ كانت علوماً مشبوهة في نظرهم.
“وكانت المدراس حيث كانوا يرسلون أولادهم قبل العام 1789 مقامة على أساس هذه الأفكار المسبقة.. وكان يُشرَف عليها جهلة لا يعلّمون الأولاد سوى “اليديش” (لغة اليهود الأوروبيين) والعِبرية و”التلمود”.
“وتوجّب إقناع العائلات بإرسال أبنائها إلى المدارس العمومية وبأن العلوم الدنيوية ليست خطيئة.”
لا مجال للمبالغة في أهمية عقدة “التعليم” التي تجاوزها يهود فرنسا بصورة تتجاوز كل التوقّعات: من “شعب الله المختار” تحوّل اليهودي الفرنسي إلى “مواطن” لامع في الطب والمحاماة والأعمال والبنوك وغيرها. ليس “المؤامرة اليهودية”، بل الرغبة في التفوّق التي نشأت لديهم عند دخولهم (بعد الآخرين) إلى عالم التعليم الحديث هي تفسّر العدد الكبير للأسماء اليهودية اللامعة في فرنسا الحديثة.
“ماركس الشاب” يعلّق على إصلاحات بونابرت
“ماركس الشاب” خاض في العام 1843 نقاشاً حاداً ضد أستاذه “برونو بوير” الذي نشر كتاباً بعنوان “المسألة اليهودية” انتقد فيه إصلاحات نابوليون بشدة.
ردّ “ماركس الشاب” بمؤلّف يحمل إسم “المسألة اليهودية” كذلك. وعرض ماركس أن تحرير اليهود يشترط وجود مجتمع برجوازي حقّق تحوّلات معيّنة وتخلّى عن النظام الإقطاعي. ولكن المجتمع الألماني في بدايات القرن التاسع عشر لم يكن مجتمعاً برجوازياً: “ليس هنالك مواطنون في ألمانيا“، بكلمات كارل ماركس الشاب. مما يعني أن تحرير اليهود لن يتحقق سوى بتحرير جميع الألمان الذين كانوا ما يزالون خاضعين لدول “دينية” تخلط بين الدين وسلطتها السياسية ولا تعترف بوجود “مجتمع مدني” وبالإنسان كـ”كائن دنيوي”. أستاذه “برونو بوير” قال أن “الدولة المسيحية لا تستطيع، لأنها مسيحية، أن تحرّر اليهودي”. وردّ كارل ماركس بأنه “طالما ظلت الدولة مسيحية وظل اليهودي يهودياً، فالإثنان لن يكونا قادرين، الأولى على إعطاء التحرير، والثاني على قبوله”.
وأضاف ماركس: الهيودي، من جهته، لا يستطيع سوى أن يتخذ منحى اليهودي إزاء الدولة: مقابل الجنسية الحقيقية فإنه يضع جنسيته الوهمية، ومقابل “القانون” فإنه يضع “شريعته” الوهمية.. وهو يعتبر أن من حقّه الإنفصال عن بقية الإنسانية.. لأنه يعتبر نفسه عضواً في الشعب اليهودي ولأن الشعب اليهودي هو الشعب المختار”.
piereakel@gmail.com
* نقترح على القارئ أن يقرأ حلقات دستور الاسلام المستنير للمستشار محمد سعيد العشماوي.وقد تكون أكمل محاولة لوضع دستور إسلامي “إصلاحي” عصري.
* هنالك مقالات وكتب كثيرة حول موضوع بونابرت واليهود. أحدث كتاب صدر بالفرنسية هو:
Lilly Marcou, Napoleon Face Aux Juifs, Pygmalion, 2007
“الإمبراطور” واليهود.. والمسلمون الإصلاح البونابرتي لليهودية هل يشكّل نموذجاً للإصلاح الإسلامي الحديث؟
اهل مكة ادرى بشعابها و انتا مش مسلم ما خصك اكي؟ نحنا المسلمين بنصلح ما بنصلح ما خصك انتا روح اصلح المسيحيه
“الإمبراطور” واليهود.. والمسلمون الإصلاح البونابرتي لليهودية هل يشكّل نموذجاً للإصلاح الإسلامي الحديث؟ان تجربة الاصلاح في الديانة اليهودية هي التجربة المثلى والمنبع التي يفترض من مفكرينا أن يعتمدوا عليها في الوقت الراهن نظرا لكون الديانة اليهودية شبيهة بالديانة الاسلامية من حيث كونها شريعة تتكون من عبادات ومعاملات بمعنى ان لها فقه وفقهاء ولليهود محاكم خاصة تحكم في جميع القضايا طيلة تاريخهم منذ الرومان و البطالمة و الخلافة الاسلامية و القرون الوسطى و كان لحاخاماتهم فتاوي مختلفة باختلاف العصور والأمكنة و لديهم مصادر للتشريع و أصول للفقه اليهودي ، فاعتقد ان تجربة اصلاح اليهودية من جميع النواحي التشريعية و العقائدية لو أضيفت… قراءة المزيد ..