(الصورة: السيّد علي خامنئي يسلّم الراية للإمام المهدي)
*
عادة ما تكون منابع المعرفة ومفاهيمها عرضة للسؤال والنقد، ومهيأة للمراجعة وإعادة النظر باستمرار، وذلك إما لتعديلها وتحديثها، أو استبدالها بأخرى جديدة، في حين كانت المفاهيم في الحياة القديمة التاريخية على حالها مستقرة، لا تخشى التعديل والتغيير. وحينما أدرك الإنسان الراهن أن المنابع المعرفية التاريخية والمفاهيم القديمة، قد أصابها السكون، وباتت غير منتجة، وغير قادرة على الإجابة على مختلف أسئلة الحياة الكثيرة، ومؤثرة بشكل سلبي في مختلف جوانب الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية والدينية، شعر بأنه أصبح غير قادر على التعامل معها ومع قوانينها، بسبب فقدانها لمصداقيتها وحركيّتها في الحياة، كذلك أدرك أنه يحتاج إلى منابع ومفاهيم وقوانين وإجابات جديدة، أي يحتاج إلى رؤية جديدة في السياسة وفي الاقتصاد وفي التربية وفي غيرها. وللوصول إلى هذه الرؤية لابد من وجود فكر ينقلب على الماضي الجامد، ولابد من طرح رؤى ومفاهيم تشبع الحاجات الحديثة للإنسان وترد على أسئلته الجديدة وتسد مكامن الجمود التي خلفتها المفاهيم والمنابع والمعرفية القديمة.
كذلك، لا يستطيع الإنسان الحديث أن يحيا في ظل تفسير ديني يلغي التفاسير الأخرى، أو أن يتعايش تحت سقف حياة ترفض الاعتراف بالديانات الأخرى باستثناء دينه، أو تمنع التعايش مع اللادينيين أو اللاأدريين. إن سبب ذلك يرجع إلى تغيّر فهم الحقيقة الدينية، إذ كانت في الماضي تشير إلى الدين الواحد المطلق الصحيح غير القابل للنقاش، في حين باتت تشير الآن، بسبب تغيّر منهج التفسير ضمن التغيرات المفاهيمية في الحياة الحديثة، إلى نسبية فهم الحقيقة، وبالتالي إلى قدرة أنصار كل دين ومذهب وفكر على التعايش مع بعض، باستثناء الفقهاء المسلمين الذين لا يزالون يعتبرون دينهم هو المطلق الوحيد الذي لا مطلق غيره. وهي رؤية تفسيرية تاريخية إلغائية لا يمكنها أن تتعايش مع الواقع الحديث، وبالتالي تساهم بعزل المسلمين في هذه الحياة المتنوعة.
إن فكرة ظهور الإمام المهدي عند الشيعة، حيث احتفلوا بميلاده الأسبوع الماضي، تتعارض مع مفهوم التعايش بين الثقافات المختلفة التي تتسم بها الحياة الحديثة. يروي الشيخ المجلسي في بحار الأنوار عن الإمام جعفر الصادق حول دولة المهدي قوله: “إذا قام قائمنا عرضوا كل ناصب عليه، فإن أقر بالإسلام، وهي الولاية، وإلا ضربت عنقه أو أقر بالجزية فأداها كما يؤدي أهل الجزية”، وفي نص آخر يقول: “حين يقوم القائم يخرج موتورا غضبان آسفا لغضب الله على هذا الخلق، عليه قميص رسول الله وسيف رسول الله ذو الفقار، يجرد السيف على عاتقه ثمانية أشهر يقتل هرجا..” ثم قال: “يذبحهم والذي نفسي بيده كما يذبح القصاب شاته، وأومأ بيده إلى حلقه”.
إن هذه الأحاديث تتباعد كليا عما يتسم به واقعنا الراهن من تعايش بين مختلف الثقافات المتنوعة. ويعلق الكاتب السعودي نذير الماجد في مقال له تحت عنوان “المهدي المنتظر في القرن الواحد والعشرين”، عليها بالقول: “إذا كان من المعقول أصلا محو وإلغاء كل الثقافات في العالم لصالح ثقافة واحدة، هل يعتبر فرض رأي واحد على العالم شيئا ايجابيا؟”، ويضيف: “الآن وبعد دخولنا عصر العولمة والتي لم تتمكن من دمغ كل الثقافات في ثقافة كونية واحدة وفيما تشتد إكراهات العولمة في فرض نموذج ثقافي واحد، أخذت الثقافات وفي اتجاه معاكس تكرس خصوصيتها. إن ظاهرة العولمة أنتجت ظاهرة معاكسة هي استفحال الهويات الثقافية، فوراء هذه الوحدة في القيم والفكر والعقلانية ثمة تعددية تربض خلفها، مشكّلة بذلك لوحة فسيفسائية تبدو غاية في الجمال شريطة أن تدار بقيم عابرة للثقافات هي القيم الديموقراطية والانسانية”. ويتساءل الماجد حول ما جاء في بحار الأنوار عن الإمام الصادق بشأن المهدي: “هل هذا هو المهدي المنتظر والذي سيملأ الأرض عدلا؟ إن هذه الصورة المشوهة التي تسوق لها موسوعة بحار الأنوار لا تليق بقائد ملهم ينشر السلام والحب، ولا يمكن التبشير بهذه الصورة الغارقة في العنف والتهديد والإكراه الديني بحد السيف”.
إن مفهوم الاختيار يعتبر من الأسباب التي ساهمت في حصول تغيير في فهم الحياة وانتقالها إلى الحداثة بتنوعاتها الجميلة، ومن ثم التضييق على الحياة القديمة. ففي الماضي كان الانتخاب شبه معدوم، بل كان غالب الحياة يستند إلى ما يصل الإنسان من تكاليف جبرية صادرة من رجل الدين الفقيه أو الخليفة أو السلطان الحاكم، في حين أصبح عكس ذلك هو الدارج في الحياة الحديثة، إذ بات الإنسان هو الذي يقرر نوعية حياته وفق مفهوم الاختيار من دون أن يعني ذلك التمرد على قوانين الحياة. والاختيار بدوره ساهم في تضييق الخناق على أطر قديمة مرتبطة بطرق التفكير والشعور والإدراك، حيث باتت مفاهيم متعلقة بأحداث جرت ووصفت بأنها كانت “مقدرة” من قبل الله أو أنها كانت “مكتوبة” على الإنسان أو أن الله “أراد ذلك”، كل تلك المفاهيم والتفسيرات أصبحت أقل حضورا في الحياة الحديثة، باستثناء حياة المسلمين التي لا تزال تلعب تلك الأمور دورا رئيسيا فيها.
فالفقهاء لا يزالون يدافعون، بكل ما يملكون من قوة دينية تستند إلى “المطلق” وقدرة سياسية وتهديد قانوني، عن الأطر التي تشجع الحياة القائمة على مفاهيم “المقدر” و”المكتوب”، ويعتقدون أن أمور الحياة تسير وفق العقل التاريخي القديم المستند إلى تلك المفاهيم. لذلك هم لا يساهمون في تحديث المجتمعات، بل هم مساهمون نشطون في إرجاع المجتمعات إلى الخلف التاريخي، على الرغم من أنهم أكثر المستفيدين من وسائل الحداثة لتحقيق مآربهم الشخصية الفئوية ومصالحهم الدينية الإلغائية.
ولو ألقينا نظرة فاحصة على الصراعات السياسية والأمنية في البلاد العربية والمسلمة لرأينا بوضوح كيف يدور في غالبيته بين جهة تتبنى التفسير الديني المطلق، وجهة أخرى مغايرة. فمن أحداث إيران الداخلية، إلى خطاب بن لادن والظواهري وتنظيم القاعدة، مرورا بخطاب حركة حماس والجهاد وحزب الله، وانتهاء بخطاب الحركات الدينية المحلية في الكويت وفي غيرها، نستنتج بوضوح كيف أن الخطاب يستخدم عصا ماضوية مطلقة ضد الآخرين المغايرين من أجل تركيعهم. فمثلما يعتقد المتشددون في إيران أن الصراع حول نتائج الانتخابات الرئاسية هو صراع بين الشرعية “الإلهية” السماوية المطلقة والشرعية البشرية، يعتبر بن لادن صراعه مع الغرب “إلهيا” وأن النصر “لا محالة” متحقق “بتقدير” من الباري لأنه صراع بين “الخير” الذي يمثله زعيم القاعدة و”الشر” الذي يمثله “الغرب الصليبي”، كذلك يستخدم حسن نصر الله الخطاب نفسه والمفاهيم نفسها لكنه يختلف في الوسائل والتكتيك، وفي الكويت تعتبر ثقافة “الهيمنة الدينية” لأصحابها “الوسطيين” عنوانا بارزا للصراع الشيعي السني. وبالتالي بات كل طرف من الأطراف الدينية يلغي الآخر وفق تفسير فقهي خاص. وأصبح أساس كل مزاعم “النصر الإلهي”، التفسير الفقهي الذي يردّ الأمور إلى “المطلق” و”المقدّر” و”المكتوب”.
والصراع السياسي السني الشيعي، أو الصراع داخل كل طائفة دينية، يسير من خلال الأطر نفسها، غير أنه ينتهي إلى نتائج متباينة تؤكد وجود مفارقة عجيبة في الأمر، غير أن أطراف الصراع غير مبالين بأهمية تلك النتائج وغير مهتمين بربطها بضبابية مفهوم “المطلق” و”المقدّر” و”المكتوب” وفي كثير من الأحيان بفقدان مصداقيتها، فأيهما في خضم الصراع هو الذي عبر عن “المطلق” و”قدّر” له الله و”كتب” له النصر؟!
ssultann@hotmail.com
كاتب كويتي
الإمام المهدي.. و”المطلق”.. وعصا الفقه
الغرب أيضا يعتبر نفسه الخير ونحن الشر والغرب يعمل أيضا على إستأصالنا لماذا أغفلت هذا من مقالك أم أنهم خارجون عن المعادلة أم أنهم فوق النقد والتمحيص أم أن المسلمون فقط مباحوا الدم والعرض والتجريح