أكد لنا فقهاؤنا الأجلاء بالأزهر أنهم هم الذين يحق لهم الحديث عن الإسلام، لأن ذلك يتطلب ثقافة ومعرفة، بل تخصصًا شأنه في هذا شأن بقية الثقافات. فالقانون مثلاً لا يتحدث عنه إلا رجال القانون من قضاة أو محامين، والطب لا يدعيه ولا يمارسه إلا الأطباء، والهندسة لا يمكن لغير المهندسين أن يتكلم عنها أو يمارسها في مختلف تخصصاتها، وليس الإسلام بأقل من هذه، ولا هو يتطلب خبرة أقل، فكيف يكون كلأ مباحًا يتحدث فيه أناس لم يتخرجوا من الأزهر الذي هو باعتراف الجميع أعرق جامعة للإسلام، وهل يوجد من ينكر عليهم هذا الحق أو يزاحمهم فيه؟
كلام يبدو منطقيا ومعقولاً للغاية لولا أن هناك سؤالاً لم يخطر على البال هو: ما هو الإسلام؟
علماؤنا الأجلاء يظنون أن الإسلام هو الفقه، والفقه هو العلم بالأحكام الشرعية العملية المكتسبة من أدلتها التفصيلية.
ويشرح علماء الفقه هذا في تعريف يحرصون على أن يكون جامعًا مانعًا، فيتناولونه كلمة كلمة حسب ترتيب الكلمات: «العلم جنس في التعريف يشمل كل علم سواء كان بالذات أو بالصفات أو بالأحكام، وجاءت كلمة بالأحكام لتستثنى من العلم بالذوات والصفات كالسواد والبياض والأفعال كالضرب والقراءة والكتابة، فلا يسمي ذلك في الاصطلاح حكمًا، والأحكام الشرعية العملية أو الفروعية هي الأحكام المتعلقة بأفعال المكلفين سواء أكانت تلك الأفعال عبادات أم معاملات أم جنايات أم غير ذلك، وسميت هذه الأحكام عملية لتعلقها بأعمال المكلفين، كما سميت فروعية لأنها فرع الأحكام الاعتقادية مثل معرفة الله والإيمان به وبرسله وكتبه، وصدق الرسول المبلغ عن الله الوحي، والمبين لأحكامه، لأن أدلة الأحكام الفرعية تتوقف صحتها على معرفة الله ومعرفة صفاته وعلى صدق المبلغ عنه الوحي وهو الرسول «عليه الصلاة والسلام»، والأدلة التفصيلية عبارة عن النصوص الجزئية من الكتاب والسُـنة التي يدل كل نص منها على حكم بعينه» انتهى.
ويمكن أن يضم هذا التعريف كل حالات الزواج والطلاق والحيض والنفاس، وقسمة التركات خاصة عندما يتعدد الورثة وأحكام الصيام والعبادات وطرق تطبيق الحدود.. الخ.
هذه هي الحالات «الفروعية» كما يقول التعريف الفقهي.
فإذا كان الإسلام الذي يعنيه الأزهر هو هذه الأحكام الفقهية الفروعية، فنحن نسلم له بأن الفصل فيها يتطلب متخصصين.
ولكن الإسلام أعظم من هذا بكثير.
الإسلام هو «الإنسان» الذي لولاه لما نزل القرآن، فقد أراد الله تعالى أن يجعل له خليفة علي الأرض وسخر له كل ما فيها من معادن وقوي وموارد، وأنزل لهدايته القرآن، فالقــرآن وسيلة، والإنسان غاية، ولكي نفهم الإنسان علينا أن نفهم طبيعته: جسدًا، ونفسًا، تلك النفس التي قال عنها تعالى «فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا» (الشمس: ٨)، والتي يحار فيها علماء النفس، ويدهش نـُـطس الأطباء، ثم كيف يتعامل هذا الإنسان مع الناس ومع الطبيعة.. الخ، وتلك قضية عويصة، دقيقة، عبر عنها الشاعر:
وتزعم أنك جــــرم صغير
وفيك انطوى العالم الأكبر
والإســـلام أيضًا قضية الحياة، فإن الله تعالى عندما خلق الإنسان وعندما أراد له أن يكون خليفة سلحه بالعقل، والضمير، والإرادة، والكتب السماوية، ثم سلط عليه الشيطان وأعطاه صلاحيات لإغوائه لا حد لها، وأصبح علي الإنسان أن يحدد طريقـًا من «النجدين»، ومعني هذا أن الإرادة هي التي تحدد المصير، فالحياة إرادة، وقد قالها الإسلام قبل شوبنهور، وعلى ما تسفر عنه إرادة الإنسان، يتحدد موقعه في الآخرة، وما يلحقه من ثواب وعقاب، وهي الأمانة التي حملها الإنسان، وأبت السماوات والأرض أن يحملنها.
وليست قضية الحياة ببعيدة عن قضية الوجود التي حار فيها الفلاسفة، ودفعت الكثيرين إلى التشاؤم، وأدت إلى ظهور فلاسفة يحملون اسم «الوجوديين» مثل سارتر.
إن الإسلام يقدم الرد على هؤلاء، فالحياة لم توجد عبثـًا، والإنسان لم يخلق سدى، وهذا الوجود الذي يسير من أصغر نملة أو بعوضة إلى أكبر المجرات يفيد «الغائية» والقصد والعقلانية، وليس العبث أو العشوائية.
والأديان كلها، وبالطبع الإسلام، تستهدف الهداية ووسيلتها إلى الهداية إعمال العقل والمنطق لإثبات وجود الله كما في الآية “أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيرِ شَيءٍ أَمْ هُمْ الْخَالِقُونَ” (الطور: ٣٥)، كما يؤدي القرآن إلى الهداية بفضل القيم التي يأمر بها مثل الخير، الحرية، والمساواة، والعدل، والصدق، الإنفاق..إلخ، وإعمال العقل وإعمال القلب والضمير.
وهذه القيم هي في الحقيقة المعيار الذي نحكم به إيمان المؤمنين، وعندما نؤمن بها نتبين الحقيقة في كثير من القضايا، فالإيمان يرتبط بقيمة هي «حرية الفكر» التي ترتبط بدورها بالإرادة التي منحها الله تعالي للإسلام، وهما معًا يرتبطان بـ«النية»، التي هي شرط لقبول كل الأعمال، ومن يؤمن بها فإنه يستبعد بالبداهة أن يكون الإسلام قد انتشر بالسيف، أو أن من الممكن أن نفرض عقوبة علي حرية الفكر، تشل الإرادة والنية والضمير، ومن هنا فإننا نستبعد كل عقوبة علي «الردة»، فالإسلام لم ينزل للإسلام نفسه، ولكن للإنسان، فهو وسيلة لغاية هي الإنسان، وقد عبرنا في دعوة الإحياء الإسلامي عن ذلك «أن الإسلام أراد الإنسان، ولكن الفقهاء أرادوا الإسلام»، وعبروا عنها في المسيحية بأن السبت خلق للإنسان، ولم يخلق الإنسان للسبت.
من هنا نعلم أن الإسلام أعظم بكثير مما يتصوره الأزهريون، ولكن حتي في إطار تخصصهم، فإن هذا لا يعني شـهادة، ولا يعني احتكارًا، إن عالم الثقافة مفتوح، وربُّ مؤمن يدرس ويناقش أشد الأفكار الفقهية غموضًا ويتوصل بذكائه ــ والله تعالي هو الذي يمنح الذكاء وليس أي قوة بشرية ــ إلى الحلول ثم يقوم إيمانـًا واحتسابًا بالدعوة لها، هذا ممكن، بل هو الصورة الأولي والأساسية، ومن ثم فهناك فرق بين «التخصص» الحر الذي يمكن أن يصل إليه كل من يملك الذكاء والإرادة، وبين التخرج من معهد متخصص وشغل وظيفة لها راتب تحكمها الأوضاع الوظيفية، فإذا فرضنا جدلاً أن المعهد يمكن أن يخرج مختصين، فإنه لا يمكن، ولا يملك أن يغلق الباب أمام الأذكياء والمؤمنين المحتسبين الذين يصل إيمانهم واحتسابهم إلي مستوي التخصص دون أن ينتظروا وظيفة أو يتقاضوا أجرًا.
فالسوءة التي يغمض عليها الأزهريون عيونهم ليست هي التخصص، ولكن «غلق التخصص» أو «احتكاره» أو اشتراط شهادات، وهذا كله بمثابة وضع العربة قبل الحصان، ولا يمكن أبدًا التحكم في ذكاء الإنسان وإرادته وقدراته، ومن الخطأ والانغلاق أن ننكر قولاً سليمًا على قائل لأنه لم يتخرج في معهد، فلعل ذكاءه وإيمانه ودراسته الحرة أفضل بمراحل مما يمكن أن يصل إليه طالب في معهد يقدم الموظفين والمفتيين في «المسائل الفروعية»، ومن العدالة والإنصاف أن نرحب بكل قلم وندعم كل اجتهاد حتى لو لم يوفق للصواب، لأنه مادام يجتهد فسيصل إلى الصواب.
في النهاية.. فإن بحار المعرفة لا تضيق بأحد، ولا تنتهي بعلم عامل، وهي أعظم من كل أحد، وفوق كل ذي علم عليم.
gamal_albanna@infinity.com.eg
* القاهرة
العنوان الكامل للموضوع: الإسلام ليس موضوعًا فنيا يعكف عليه المختصون.. ولكن الإسلام هو الإنسان والوجود والقيم
الإسلام ليس موضوعًا فنيا يعكف عليه المختصونلديَّ سؤال. رأيتك في مقالك هذا وفي غيره تعتنق الحرية في الفكر وتستنكر مسألة الردة وفي نفس الوقت تقول أن اللّهَ قد سلط الشيطان على الإنسان وأعطى الإنسان النجدين وهما طريق الله وطريق الشيطان ليختار منهما. سؤالي هو إذا إختارَ الإنسان طريق الشيطان أو إذا كان مسلماً وكفر بالإسلام هل يكون مصيره في سقر؟ إن كان جوابك بالإيجاب أي سقر فأنت تضع نفسك في تناقض مضحك. وإن كان بالنفي فأنت تنكر القرآن وكل ما جاء فيه من الوعد والوعيد وأن الدين مسألة شخصية محضة لا علاقة لأحد بها حتى ولا الله. فإن كان هذا… قراءة المزيد ..
الإسلام ليس موضوعًا فنيا يعكف عليه المختصونصحيح ان الاسلام يمثل الرؤية للوجود والكون والانسان والحياة والتاريخ ورؤية اجتماعية وتربوية الى اخره ولكن لا بد لكل متحدث ان تكون الادوات التي يستعملها صحيحة فحتى الازهر لو كانت الادوات التي يستعملها خاطئة تكون النتائج خاطئة لذا لا بد من الدخول الى اي حقل من المعرفة التعمق به لتكون الصورة واضحة غير ضبيابية ان مشكلة الكثير يتكلم في اشياء كثيرة ولكن الادوات التي يستخدمها تكون خاطئة فمثلا الذي يقول الحجاب غير واجب اذا كانت الادوات التي يستخكها قد يصل الى هذه النتيجة اما اذا كانت الادوات صحيحة فتكون النتيجة تختلف عن ذلك المهم… قراءة المزيد ..