يلقي رئيس مجلس النواب اللبناني نبيه بري بأسباب تراجع حضوره كزعيم سياسي للطائفة الشيعية وانحسار شعبية “حركة أمل” لصالح تمدد “حزب الله” وسيطرته على نظام البعث في دمشق و نظام الملالي في طهران.
ويجمع “الحركيون” أن مشروع حزب الله قد شتّت حركة أمل وفتّت كيانها وقام على أنقاضه، وأحلّ الفئوية والمذهبية مكان شعار المرونة والإنفتاح الذي رفعته “الحركة” منذ نشأتها. كما يعتبر “الحركيون” أن “مؤامرة الإلغاء” التي حيكت ضد الحركة بدأت رسميا عام 1982 حين إنسحبت مجموعة من كوادرها، من بينهم الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله، إثر افتعال خلاف سياسي مع القيادة، لتؤسس ما عرف لاحقا بحزب الله، بطلب ورعاية من الإيرانيين، الذين كانوا يخططون لتصدير الثورة الإسلامية وإقامة حكومة إسلامية في العالم الإسلامي، وليس الإكتفاء بقيام جمهورية إسلامية في إيران. ولما كان بينهم وبين السيد موسى الصدر مؤسس حركة أمل خلاف عقائدي ورؤية سياسية مناقضة لمشروعهم التوسعي، كان لا بد من إضعاف حركة أمل و إيجاد طرف شيعي آخر ينفذ تعليماتهم.
على أن مؤامرة هيمنة حزب الله السياسية على الطائفة الشيعية بدأت، كما يشير “الحركيون” أيضا، في أول انتخابات نيابية جرت عام 1992 بعد إنتهاء الحرب اللبنانية، حين فرض “السوري” على حركة أمل، بطلب من “الإيراني”، تمثيل حزب الله في المجلس النيابي. فاستطاع الأخير إدخال 12 نائبا إلى البرلمان اللبناني وتشكيل “كتلة الوفاء للمقاومة”. في ما تلاها من دورات إنتخابية نيابية و بلدية، ازداد حزب الله حضورا وأمعن في تغييب حركة أمل، هذا بغض النظر عن المعارك العسكرية التي جرت بين الطرفين وأفضت عوضاً عن إنشطار جسم الطائفة بينهما، إلى سيطرة عسكرية وأمنية لحركة أمل على مناطق الجنوب مقابل سيطرة لحزب الله على منطقة الضاحية الجنوبية، والتي كانت ترمى جانبا في الإستحقاقات الإنتخابية امتثالا لأوامر الوصايتين السورية والإيرانية.
إغتيال الحريري أنقذ برّي من “عملية إلغاء” إلهية بمشاركة.. جميل السيّد!
قبيل عملية إغتيال رئيس الحكومة الشهيد رفيق الحريري، كان حزب الله قد وضع اللمسات الأخيرة على عملية اغتيال بري سياسيا بمباركة من السوري بالطبع، مستعملاً فزّاعة “جميل السيّد” الذي طرحه بديلا عنه لرئاسة مجلس النواب.
وكما يقال، “مصائب قوم عند قوم فوائد”، فكان أن أنقذ دم رفيق الحريري ماء وجه بري، فأصبح الأخير بين ليلة وضحاها ضرورة تحالفية أساسية لحزب الله! ورغم غياب عنصر الكيمياء بين الطرفين، اقتضت منظومة المصالح السياسية والإقتصادية أن يشكلا معا “الثنائية الشيعية”،التي حوّلت الطائفة الشيعية على امتداد الوطن إلى كيانٍ مغلق على من فيه منعزل عما حوله،تحت مسميات مختلفة تبدأ من مسألة الحفاظ على وحدة الطائفة، ولا تنتهي عند حدود حماية سلاح المقاومة.
بري أمِلَ أن يعزز هذا الإختيار شعبيته، ويعيد إليه بعضا من بريقه المفقود. لكن ذلك ساهم في تصفية ما بقي من وجوده، وساعد في اضمحلال حركة أمل وذوبانها في حزب الله، وتحول الحليف العتيد المعتد بماضيه وحاضره، إلى لاعب رديف يلعب في الوقت الضائع، في حين تمكن حزب الله أن يتفرّد بصدارة اللعبة السياسية وإدارتها وفقا لمخططاته الخاصة، إلى أن جاءت الإنتخابات النيابية 2009 و التي تلقّى فيها بري صفعة لا تنسى من الحلفاء. ففي الضاحية الجنوبية، سحب مرشحه “طلال حاطوم” لصالح الضرورات التحالفية، وانتزع المقعد الشيعي بالقوة في دائرة بيروت الثانية. وأصيبت اللائحة المدعومة منه في إنتخابات جزين بخسارة ذريعة مقابل الفوز الساحق الذي حققته لائحة “التيار الوطني الحر” المدعومة ضمنا من حزب الله! و تبين أن لائحة العونيين في جزين لم تكن لتفوز بالإنتخابات النيابية آنذاك لولا تجيير الأصوات الشيعية الإلهية في “قضاء الريحان” و التي تبلغ حوالي 12 ألف صوت لصالحها.
نصف مليون دولار لـ”الإستاذ” كل شهر من.. طهران
قبل بري الخسارات المتلاحقة على مضض، وسجّل “حليف حليفه” نصرا إضافيا عليه! في هذا الوقت، ثبت لدى “الحركيين” أن الحزب يفضل ألف مرة إرضاء الحليف المسيحي على زعل الحليف الشيعي، ليظهر بذلك أنه غير مهتم بوحدة الطائفة كما يدعي، على الأقل حين يتعلق الأمر بحركة أمل، ويعمل خلافا للقاعدة التي يتمسك بها بري ويحرص على الإلتزام بها، ويستهين بكل التضحيات التي قدمها نصفه الشيعي على الصعيدين الطائفي والوطني. وكادت النقمة جراء هذه المعاملة أن تترجم انشقاقا أو انقلابا، لولا أن أمسك حزب الله باليد التي توجع بري…. وسعى إلى لملمة الموضوع من زاوية أخرى، بتعويض بري خساراته السياسية بالمال! وطلب من الإيرانيين ميزانية شهرية ثابتة لرئيس مجلس النواب، يقال إنها تتجاوز النصف مليون دولار، إضافة إلى مشاريع تجارية مجانية باسمه في الجمهورية الإسلامية!
ويؤخذ على برّي أنه تحوّل، ومسؤولي الحركة، إلى تجار ومقاولين، ولم يعد لهم في هذه الفترة همّ سوى زيادة أرباحهم و توسيع نطاق تجاراتهم. وقد استغل حزب الله نقطة الضعف هذه، وعرف كيف يطبب جروح الحركيين ويداويها، فأغدق عليهم المال وتغاضى عن صفقاتهم، شريطة أن يتركوا له ميادين السياسة. هذا ليس معناه أن حزب الله لم يدخل في لعبة الفساد. فله في ذلك صولات وجولات!
ثم حصل الإنقلاب على حكومة الوحدة الوطنية،و تشكلت “حكومة النسيج الواحد”، التي تعثرت في بداياتها بسبب إصرار العونيين على عدد كبير من الوزراء و الحقائب السيادية، على حساب الحلفاء. لكن انصياع قيادة حزب الله لمطالبهم عاد وأجّج جرح بري، الذي قاوم محاولات الإلغاء والهيمنة المستجدة حتى الرمق الأخير ،الأمر الذي أوصله إلى قناعة مفادها أن تحالفه مع فريق 8 آذار تحوّل إلى ابتزاز ،لذلك لا بد من البحث عن بديل، ليس بالضرورة أن يكون الإرتماء في حضن الطرف المناقض أي فريق 14 آذار، إنما في التموضع في مكان وسطي بين الطرفين. لكن الفرص السياسية حتى ذلك التاريخ كانت غير متاحة والواقع السياسي الداخلي والخارجي غير مؤات.
ثورة الشعب السوري على نظام البعث ،و تخبط حزب الله في أزمات حكومته الإنقلابية، وإنفلات الغول العوني على ما تبقى من مقدرات البلاد، فتحت طاقة الأمل بوجه “حركة أمل” ورئيسها ،فانطلق من خلالها لإعادة بلورة رأي شيعي جديد منفصل عن السياق القديم. وهذا ما استشعره حزب الله و التيار الوطني الحر، لذلك صاروا ينعتونه في مجالسهم الخاصة بـ”الإنتهازية” و”قلة الوفاء”!
و على وقع المتغيرات الحاصلة في المنطقة العربية، فحالُ بري تشبه حال “من عاد لينتقم”! و تفيد مصادر شيعية مطلعة أن برّي أعاد تنشيط شبكة علاقاته العربية والدولية، وقام بمبادرات تجاه دول عربية وإقليمية مهتمة بالأزمة السورية. كما أن خلو الساحة الشيعية في لبنان من شخصية قيادية جامعة عزز موقعه كمفاوض أو محاور سياسي في هذا الوقت.
رئيس مجلس النواب اللبناني نبيه بري مرتاح على وضعه، يعيش أحلى أيامه! أخطاء حليفه و”حليف حليفه”، والثورة على بشار الأسد، والمأزق الإقتصادي والسياسي الذي تعانيه الجمهورية الإسلامية، كلها أمور تضافرت كي تعيد إليه بعضا من “اعتباره” المسلوب، داخليا وإقليمياً.