إنهاء ما يسمى دولة الخلافة المزعومة في العراق وبلاد الشام لن ينهي معضلة الإرهاب، وأن الأساليب الأمنية والعسكرية ليست كافية لوحدها في مواجهة آفة الفكر الإلغائي والإقصائي.
تعني برشلونة الفرح وحب الحياة بالنسبة لعشرات الملايين من مشجعي ناديها العريق في لعبة كرة القدم، لكن الإرهاب البربري الذي استهدف برشلونة بعد ظهر الخميس الماضي عبر أسلوب الدهس واحتقار الحياة، ربط اسمها بالرعب النقال كما حصل من قبل مع نيس وبرلين ومدريد. على الأرجح تتصل عمليات أوروبا التي تتصاعد منذ العام 2015 بسياق الحرب ضد داعش الذي تتساقط دولة خلافته المزعومة من الموصل إلى الرقة، ويمكن القول إن الراديكالية الجهادية المتغلغلة في بعض أوساط الشباب الأوروبي المسلم تشكل حاضنة للإرهاب العبثي والعنيف.
الخلاصة الأولية لمجريات الخميس الأسود تؤكد على الفشل في الحرب الأوروبية الاستباقية ضد إرهاب مصمم وأعمى يكرر نفس الأساليب أحيانا، أو يستنبط أخرى ويتمكن من الإفلات من الرقابة والمتابعة.
بعد حرب العراق في 2003، بدأ تنظيم القاعدة عملياته في أوروبا عبر ضرب العاصمة الإسبانية مدريد في 2004 ويومها كانت الحكومة الإسبانية من داعمي هذه الحرب، وربما أسهم العمل الإرهابي حينها في إسقاط حكومة اليميني خوسيه ماريا أزنار في الانتخابات التشريعية. واليوم بعد الحرب ضد داعش في الموصل والرقة، تأتي هذه العمليات ضد كاتالونيا مع العلم أن إسبانيا ليست من البلدان المنخرطة بقوة في الحرب الدولية ضد الاٍرهاب. والتفسير الأقرب للدوافع لا يرتبط بالتحليل المنطقي، لأن أتباع الفكر الداعشي يعتبرون أن كل الغرب دار حرب ولا يميزون بين بلد وآخر، ويضربون حينما تتاح لهم الفرصة أو تصدر إليهم الأوامر.
لم يقتصر الرعب على وسط برشلونة (13 قتيلا ومئة جريح بينهم 26 فرنسيا منهم أحد عشر جروحهم خطرة) بعد ظهر وعصر الخميس الأسود، بل وصل ليلا ليضرب شاطئ كامبريلس جنوب برشلونة في عملية دهس أخرى تم إحباطها. ومن الواضح إسراع داعش لتبني عملية برشلونة قبل اعتقال المنفذ المغربي الأصل وفي موازاة الملاحقات الأمنية في إقليم كاتالونيا الذي تتواجد فيه خلايا عنقودية وقواعد جهادية راديكالية حسب أوساط مكافحة الإرهاب.
من برشلونة حاضرة المتوسط العامرة، انطلق يوما مسار الشراكة الأوروبية- المتوسطية في 1997، وأبى الإرهاب إلا أن يسجل في أبرز جاداتها السياحية وثيقة قطيعة مع الحضارة ومع تاريخ التواصل في المتوسط مما يعيدنا للعصور الغابرة. إسبانيا مليئة بالرموز فيها الأندلس وتاريخ الانفتاح وابن رشد وطليطلة، وفيها أيضا تاريخ الحروب الدينية بكل ما فيها. واليوم مع تصاعد البعد الديني في الصراعات ودخول الاإرهاب العبثي والمتشدد على الخط، يمكن أن نخشى الأسوأ في تمدد أيديولوجيا القطيعة وعدم الاعتراف بالآخر واحتقار الحياة.
مما لا شك فيه أن إنهاء دولة الخلافة المزعومة في العراق وبلاد الشام لن ينهي معضلة الاٍرهاب، وأن الأساليب الأمنية والعسكرية ليست كافية لوحدها في مواجهة آفة الفكر الإلغائي والإقصائي.
من دون إعادة بناء الدول في العراق وسوريا وليبيا وغيرها على أسس صحيحة، ومن دون إعادة الغرب النظر بمفاهيمه ومقارباته ونهج المصالح المركنتيلية، ومن دون اعتبار أوروبا التفاهم مع الضفة الأخرى من المتوسط أولوية سياسية واقتصادية، وقبل كل شيء من دون تحمل النخب المسلمة العربية والأوروبية لمسؤولياتها عمليا وليس لفظيا، سنبقى ندور في الحلقة المفرغة ونخشى تكرار الخميس الأسود في أماكن أخرى.
أستاذ العلوم السياسية، المركز الدولي للجيوبوليتيك- باريس
د. خطار أبودياب
khattarwahid@yahoo.fr
العرب