الواقع أن ما يحدث من حولنا يبعث على الغثيان حقا،لقد اختلط كل شيء :الديني بالثقافي بالسياسي
بالاجتماعي بالإقليمي بالدولي..ويُمكن لك أن تُمدد “الخلطة” إلى ما شئت،ولا تخش أن يتهمك أحد بالتخريف فالواقع من حولك أمعن في هذه الآفة الذهنية الخطيرة.
أذكر أنه غداة ذلك الجمعة الأسود – 16 مايو 2003 –(تاريخ حدوث التفجيرات الإرهابية بالدار البيضاء) كنا غارقين في تهيئ العدد المناسب لذلك الظرف غير المناسب إطلاقا،بأسبوعية” الصحيفة”وصدف أن التقيت حينها،صديقي وزميلي العزيز خالد الجامعي – شافاه الله من وعكته – سألته عن رأيه فيما حدث،فكان جوابه:”أعترف أنه بعدما حدث تقطعت،بالنسبة لي،كل خيوط التحليل والتوقع لسياق الأشياء في مغرب اليوم والغد”.
لم تبرح مرامي ما قاله الصديق الجامعي ذهني مُنذئذ،وهي فيما أتصور تُحيل على فضاء عراء،حيث لا أرض صلبة لوطء القدم،ولا سماء لحد البصر..كل ما هنالك عالم للضياع بلا اسم،ولا عنوان،ولا طعم ولا رائحة،لكن لا علاقة لهدا التشبيه بفن السريالية الجميل إطلاقا،ولا بالماء الذي بدونه لا وجود للحياة..
لنحاول وضع المجازي أمام مرآة العياني :إن ثمة في تصور التنظيم العالمي ل “‘مجانين الله” المُنتسبون للقاعدة وهمُ محاربة الغرب “الكافر” في كل تمظهراته السياسية والثقافية والحياتية….فهم يفيئون لفتوى “الولاء والبراء” السلفية المُتشددة،التي تُكفر المجتمع والعالم،وتُعلن البراءة منه و…مُحاربته حتى “يفيء إلى الله..” أي جنون أكبر من هذا؟ فكل الأديان السماوية والدهرية… والمذاهب الفلسفية الاعتقادية… ليس لها الحق في الوجود،والأخطر أنه،في عرف التكفيريين،يجب مُحاربة كل هؤلاء الآخرين،الذين قوامهم سبعة ملايير من بني البشر ناقص “المؤمنين المُظفرين الموعودين بالجنة”…هكذا يتحول دين ومجتمعات تدين أغلبياتها به،إلى مصدر خطر في عرف كل باقي مُجتمعات العالم المُتقدم والمتخلف على السواء..هذا على المستوى الأول العام من “الخلطة”،أما في مستوى آخر أكثر تخصيصا فإن العقيدة التكفيرية لدهاقنة “القاعدة” تلتقي مع آباء جهل المحليين في بلادنا،حيث لا يجد هؤلاء أدنى حرج في وصمك ب”الكافر” إذا لم تكن قد عبرت عن ولائك للشيخ حسن نصر الله بعد “النصر الرباني” الذي حققه على “العدو الإسرائيلي”..هؤلاء التكفيريون أنفسهم،يُطالبونك الآن،بسب وشتم نفس الشخص أي الشيخ “حسن نصر الله” لأنه شيعي عدو لأهل السنة والجماعة،ومسئول مذهبيا عن المذابح،وكل الفظا عات البدائية،التي يقترفها الشيعة في حق السنة في مسرح القيامة العراقية..
هكذا يُطالبك المُنقبون في قمامة “التفكير” الديني بإلغاء كل الاعتبارات المنطقية، والتفكير السليم، وتسير معهم إلى جنان الخلد حيث الحور العين..يكفي أن تحشو ذهنك بخزعبلاتهم وتتأبط شرا،هو عبارة عن “قنبلة” بدائية تُفجرها في محل “بوكاديوس” أو حانة …وليكن هدفك أمريكيا أو أوروبيا،مسيحيا كان أو يهوديا أو بوذيا أو دهريا أو شيعيا…فليس ثمة أي فرق،فلديك في تفجيرات نيويورك ومدريد ولندن ومجازر
وبدائيات التقاتل العراقي خير مرجع.
شخصيا لا حد لألمي،حينما أستحضر كل الفرص الضائعة،التي توفرت منذ الاستقلال إلى حدود سنوات الثمانينيات من القرن الماضي،أمام كل أولئك السياسيين والمثقفين المغاربة،من مختلف الضفاف (رسمية كانت أم حزبية) الراقدون الآن في قبورهم،أو ممن ما زالوا في مواقعهم الحكومية أو الحزبية،أو الهاربون صراحة أو ضمنا،بمغانم ما نهبوه،إلى الخارج،أو الذين ما زالوا “يُسمنون” الضفادع في ضيعات شاسعة ب “طريق” زعير”،مُطمئنين إلى أن “الجهل” الذي تعهدوه بالعناية والرعاية،منذ عقود طويلة،ما زال صمام أمان بالنسبة لهم..الفرص التي أضاعها هؤلاء على ثلاثة أجيال من المغاربة من أجل مغرب حديث،ديمقراطي ومتطور،وذلك بقتلهم لأي أمل في انبثاق مشروع مجتمعي قائم على العقلانية والعلمية.
وبالرغم من بعض الوجاهة،التي يستفيد منها الرأي القائل بعدم التلازم الأوتوماتيكي بين الإرهاب والفقر( فبؤس حي طوما الشعبي بالدارالبيضاء لا يُفسر كل تعقيدات تفجيرات 16 مايو) غير أنني مقتنع حتى النخاع،أنه لو ترك أولئك القتلة الفرصة لتحقق مشروع مغرب حديث ومتطور، لكانوا أعفونا من نسبة 90 بالمائة من مشاتل الإرهاب المُتربص،الآن وهنا،بكل شيء ولا شيء.
*البوكاديوس يعني وجبة ساندويتش شعبية أصلها إسباني
mustapha-rohane@hotmail.fr