تتبدد احتمالات عودة الناجين إلى ديارهم بسبب التقاعس السياسي، ويظل 200,000 أيزيدي عالقين في المخيمات
انقضى عقدٌ من الزمن تقريبًا منذ الإبادة الجماعية التي نفّذها تنظيم الدولة الإسلامية بحق الأيزيديين في آب/أغسطس 2014، لكن الجراح لا تزال طريّة ومؤلمة، ولا تزال معاناة الناجين على أشدّها. هذه الحقيقة القاسية كانت واضحة للعيان بطريقة صارخة خلال المؤتمر الذي أقامته منظمة يزدا الأيزيدية ورئاسة إقليم كردستان في إربيل في 3 آب/أغسطس لإحياء ذكرى الإبادة. سادت مشاعر قوية خلال المؤتمر، فقد أجهش ناجون عدّة بالبكاء لدى الإصغاء إلى شهادة أحد رفاقهم من الناجين.
قالت لين زوفيغيان، المؤسِّسة المشاركة لشركة Zovighian Partnership ومسؤولة التشريفات في المؤتمر إن “التقاعس السياسي خلال الأعوام التسعة الماضية، على الصعيدَين الوطني والدولي، أدّى إلى عرقلة أي فرص متاحة أمام الشعب [الأيزيدي] من أجل إعادة بناء حياته والعيش بأمان ورغد في سنجار. اليوم، الشعب [الأيزيدي] أضعف بكثير مما كان عليه عند بدء الإبادة على أيدي [تنظيم الدولة الإسلامية]”.
وأضافت: “لا يزال العمل جاريًا لتحقيق رؤية [تنظيم الدولة الإسلامية] بممارسة التطهير العرقي في أرض [الأيزيديين]! ما أخشاه للشعب [الأيزيدي] هو أن تتعاظم التحديات الحالية وتعهدات التضامن التي سمعناها خلال إحياء الذكرى التاسعة للإبادة وتتكرر في الذكرى العاشرة لإبادة لا تلوح لها في الأفق أي نهاية”.
لا يزال نحو 200,000 أيزيدي عالقين في المخيمات، فيما يحاول آخرون خوض رحلات محفوفة بالمخاطر إلى أوروبا بحثًا عن الأمان. وفقًا لبيانات المنظمة الدولية للهجرة، لا يزال العائدون إلى سنجار، وعددهم 42,000 شخص، يواجهون تحديات جمّة.
قالت ديبيكا ناث، المتحدثة باسم المنظمة الدولية للهجرة في العراق، لمدونة “ديوان” إن “النسب الإجمالية للعودة إلى سنجار لا تزال متدنية. وتشمل العوائق الأساسية أمام العودة دمار البنى التحتية والمنازل في مختلف المدن والقرى في سنجار والقحطانية، وعدم توافر الخدمات الأساسية، ومحدودية الوصول إلى المياه، والكهرباء، والرعاية الصحية، والتعليم وفرص سبل العيش”.
وتابعت قائلةً إن “وجود جهات فاعلة أمنية عدّة في المنطقة وضعف وجود السلطات المدنية الحكومية يساهم أيضًا في الشعور بانعدام الأمان”. واقع الحال أن الأيزيديين العائدين إلى سنجار يواجهون، وفقًا لتقرير صدر مؤخرًا عن المفتش العام في البنتاغون، تهديدات أمنية من المجموعات المتشددة.
تستهدف الهجمات الجوية التركية باستمرار وحدات مقاومة سنجار الأيزيدية التي يجمعها رابط وثيق بحزب العمال الكردستاني، ما يؤدّي إلى تعاظم المخاوف في المدينة. لقد لعبت هذه الوحدات دورًا أساسيًا في إنقاذ الأيزيديين من قبضة تنظيم الدولة الإسلامية في آب/أغسطس 2014 وأنشأت لاحقًا إدارتها الموازية في سنجار. وقد رفع الناجون من الهجوم التركي على أحد مستشفيات سنجار الشهر الفائت شكوى رسمية أمام مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة.
وفقًا لتقرير صدر عن منظمة هيومن رايتس ووتش في حزيران/يونيو الماضي، لا تزال الخلافات السياسية تعرقل أيضًا إعادة إعمار سنجار. واللافت أن شغور منصب رئيس البلدية في المدينة تسبب بتفاقم الأوضاع، وقد دعا الدبلوماسيون الغربيون إلى تعيين رئيس بلدية جديد.
أعربت الممثلة الخاصة للأمين العام للأمم المتحدة في العراق جينين هينيس-بلاسخارت، في كلمتها، عن أملها بأن تولّد انتخابات مجالس المحافظات العراقية المُرتقبة في 18 كانون الأول/ديسمبر “زخمًا مهمًّا” في ما يتعلق بالحوكمة الأطول أمدًا في سنجار.
قالت الناجية الأيزيدية أديبة مراد، التي اختطفها تنظيم الدولة الإسلامية لمدّة خمس سنوات، إن “العودة إلى سنجار مسألة معقّدة جدًا من حيث الأمن والإدارة والتعويض على الأيزيديين”، مضيفةً: “إذا لم تتبدد هذه العوائق، يصعب تخيّل عودة الأيزيديين إلى هناك”.
وروت مراد: “كنت حاملًا حين اختطفني [تنظيم الدولة الإسلامية]. قُتِل خمسة عشر فردًا من عائلة زوجي أو هم في عداد المفقودين حتى يومنا هذا. أُفرِج عنّا ابنتي وأنا في العام 2019. لقد بدّدت الإبادة كل آمالنا بالعودة إلى وطننا الأم؛ كيف لنا أن نعيش في أرضٍ دُفِنت فيها عظام آبائنا وأشقّائنا وشقيقاتنا؟” أضافت قائلةً: “شاركنا في مؤتمرات كثيرة واقتصر الأمر على الكلام فقط؛ لقد تبددت آمالنا. نطلب من الحكومتَين العراقية والكردية إيجاد حل للمسألة الأيزيدية”.
لم يُطبّق حتى الآن اتفاق سنجار، الذي تم التوصل إليه بين بغداد وإربيل في تشرين الأول/أكتوبر من العام 2020 والذي يهدف إلى تسهيل عودة الأيزيديين وإعادة الوضعَين الأمني والإداري إلى طبيعتهما. وقد ناقش مسؤولون من الأمم المتحدة الاتفاق مع مسؤولين عراقيين وأكراد خلال اجتماع عُقد في إربيل يوم 20 آب/أغسطس.
لكن ثمة بعض التطورات الإيجابية في هذا الصدد. فمنذ أيلول/سبتمبر من العام 2022، بدأ أكثر من 600 ناجٍ بتلقي تعويضات شهرية بموجب قانون الناجيات الأيزيديات الذي تم اعتماده في العام 2021. علاوةً على ذلك، اعترفت المملكة المتحدة مؤخرًا بوقوع جرائم إبادة جماعية ضدّ الأيزيديين. مع ذلك، يبقى أمل العودة معدومًا بالنسبة إلى الكثير منهم.
سلّطت إحدى الناجيات الأيزيديات عادية علي، المقيمة في مخيّم خانكي في إقليم كردستان، الضوء على انعدام الأمن في سنجار، قائلةً إن “كل بيت تحوّل في الواقع إلى مقبرة. وبات الوضع هناك صعبًا جدًا، إذ إن إمكانية الحصول على الكهرباء والماء محدودة. وفي الشتاء والصيف، نواجه مشاكل كثيرة. وفي بعض الأحيان، تندلع النيران في الخيم. تعيش شقيقاتي الثلاث في الخارج وأنا هنا وحدي”. وأضافت أن سكان سنجار فقراء جدًا، “ولا يمكنهم إصلاح بيوتهم، وهم بحاجة إلى تعويضات”.
شكّكت عادية في استعداد الأيزيديين للعودة إلى موطنهم. وأشارت إلى أنهم “يأملون في تخليص سنجار من مشاكلها وحصول سكانها على تعويضات وزوال التهديدات الأمنية. لكن طالما أن هذه المشاكل موجودة، لن يعود الأيزيديون إلى سنجار”. ولفتت إلى أن أهلها ما زالوا في قبضة تنظيم الدولة الإسلامية، في حين أن باقي أفراد عائلتها مقيمون في ألمانيا، مضيفةً “لا أمل بالنسبة إليّ للعودة إلى سنجار، وما أرغب به هو الاجتماع بعائلتي في ألمانيا”.
تتمثّل مشكلة أساسية أخرى في غياب أي مؤشرات على إعادة الإعمار. فخلال الشهر الفائت، تقدّمت 27 منظمة أيزيدية بطلب إلى بغداد لتخصيص مساعدات مالية بقيمة 1.5 مليار دولار أميركي لمساعدة الأيزيديين على إعادة إعمار سنجار. يُشار إلى أن مبلغ 38 مليون دولار فقط خُصص لإعادة إعمار سنجار وزمار وسهل نينوى من ميزانية سنوية قدرها 153 مليار دولار.
في هذا الإطار، قالت بري إبراهيم، المؤسِسة والمديرة التنفيذية لمؤسسة الأيزيدية الحرة، وهي إحدى المنظمات الداعمة للطلب، إننا “لم نرَ لغاية الآن أي جهود جديّة لإعادة إعمار سنجار أو توفير حلول مستدامة للأيزيديين بعد مرور تسع سنوات، على الرغم من ميزانية العراق الضخمة للعام 2023 البالغة 153 مليار دولار. ما نطلبه يمثّل 1 في المئة من ميزانية عام واحد من أجل مساعدة المجتمع الأيزيدي على التعافي. إنه طلب متواضع، لكن السياسات العراقية المحلية المبنية على السلطة والسيطرة تركت الناجين من الإبادة في وضع يُرثى له من دون مأوى أو أمل”. من جهته، وعد رئيس مجلس الوزراء العراقي محمد السوداني مؤخرًا بإعادة بناء قرية كوجو في سنجار، لكن ثمة حاجة إلى بذل جهود أكبر بكثير من أجل تأمين عودة الأيزيديين بأعداد كبيرة.
عبّرت سنا، البالغة من العمر ستة عشر عامًا والمقيمة في ألمانيا، عن شعور تتشاركه مع الكثير من الأيزيديين وهو أن لا مكان لهم في العراق بعد الآن. وقالت إننا “يجب أن نُنقل إلى دول أخرى. فحياتنا في العراق دُمّرت. وأبناء شعبنا هناك لا يملكون منازل خاصة بهم، ويعيشون في مخيمات (في إقليم كردستان العراق). ولا أحد يعرف متى ستشتعل النيران في خيمة جديدة”.
أضف إلى ذلك أن أكثر من 2,700 فرد ما زالوا في عداد المفقودين، بعضهم في قبضة تنظيم الدولة الإسلامية، في حين تم تتبع أثر البعض الآخر حتى فلسطين. لغاية الآن، أسهمت الجهود التي يبذلها مكتب إنقاذ أسسه رئيس إقليم كردستان نيجيرفان بارزاني في تحرير 1,208 نساء و339 رجلًا و2,023 طفلًا. وتعهّد برزاني بمواصلة البحث عن الأيزيديين المفقودين إلى حين تحرير آخر واحد منهم.
في هذا السياق، لفتت سنا إلى أن ثمة أيزيديات ما زلنَ محتجزات في مخيم الهول في سورية، ولا يمكنهن القول بأنهن أيزيديات حتى لا يتم التعرّف عليهن. وأضافت: “هنّ خائفات من التنظيم [الدولة الإسلامية]، ويجب أن يعدن من سورية. آمل أن يتحسّن وضع الأيزيديين في العراق، لكن من الصعب جدًا تخيّل ذلك. لقد مضت تسع سنوات على الإبادة الجماعية ولم نشهد أي تقدّم يُذكر”.
ذكرت سنا أنها كانت في السابعة من عمرها حين اختطفها تنظيم الدولة الإسلامية. وقالت: “ثلاث من شقيقاتي (الأربع) متواجدات في العراق وسورية، وواحدة منهن لا تزال في عهدة التنظيم. أما والدي فتوفي بسكتة قلبية بعد سماعه كل الأهوال التي أصابت الفتيات والنساء الأيزيديات. أنا لن أعود أبدًا إلى سنجار، لأن بيوتنا دُمّرت ولا أمل لنا بالعودة إلى هناك. لقد خسرنا الكثير، ولا شيء يحثّنا على العودة”.