من بعد انتخاباتها التشريعية الناجحة في مايو المنصرم، والتي استأثرت باهتمام دولي باعتبارها كبرى الديمقراطيات الإسلامية وثالث أكبر ديمقراطية في العالم من بعد الهند و الولايات المتحدة، ها هي اندونيسيا تعود مرة أخرى إلى واجهة الأحداث بسبب انتخاباتها الرئاسية المقرر إجراؤها في الثامن من يوليو 2009. هذه الانتخابات التي من الصعب التكهن بسيناريوهاتها بسبب كثرة المتنافسين الذين من بينهم أسماء بارزة (مثل الرئيس الحالي يوديونو والرئيسين السابقين ميغاواتي وعبدالرحمن واحد، ورئيس مجلس الشعب الاستشاري السابق أمين ريس( و أسماء أخرى طارئة، ناهيك عن تضارب الأخبار حول تحالفات القوى السياسية فيما خص لوائح خوض السباق الرئاسي – أي من سيرافق من للفوز بمنصب نائب رئيس الجمهورية، علما بأن هذا السباق هو الثاني منذ عام 2004 الذي ينتخب فيه الشعب رئيسه ونائب رئيسه من خلال الاقتراع الشعبي العام.
والجدير بالذكر أنه في الانتخابات التشريعية في مايو المنصرم حل الحزب الديمقراطي بقيادة الرئيس “سوسيلو بامبانغ يودويونو” في المركز الأول بنسبة 21 بالمئة من الأصوات، وتلاه في المركز الثاني بنسبة 14.5 بالمئة حزب “غولكار” بقيادة نائب رئيس الجمهورية “يوسف كالا”. (حزب غولكار لمن لا يعرفه أسسه الرئيس الأسبق احمد سوكارنو في عام 1964 من ائتلاف أكثر من 200 منظمة من منظمات المجتمع المدني، لكن إدارته ومفاتيحه كانت دائما بيد حفنة من جنرالات الجيش المسيسين. لذا كان الحزب يقلب ولائه لمن يجلس في السلطة بدليل تحول ولائه من سوكارنو إلى سوهارتو بمجرد بروز الأخير كقائد غير منازع للبلاد في عام 1967 . ومع الثورة الشعبية التي أطاحت بسوهارتو في عام 1998 ضعف نفوذ الحزب وتشتت شمله – وان ظل حاضرا في الساحة عبر ما كونه خلال 32 عاما من حكمه من نفوذ أخطبوطي في كل مفاصل الدولة والمجتمع – بسبب لجؤ الكثيرين من رموزه إلى الانفصال عنه والالتحاق بالأحزاب السياسية الجديدة خوفا من المساءلة عما ارتكبه هذا الحزب تحت قيادة سوهارتو من جرائم وفساد وقمع). أما المركز الثالث فقد كان من نصيب حزب النضال من أجل الديمقراطية بقيادة الرئيسة الأسبق”ميغاواتي سوكارنوبوتري” ابنة بطل الاستقلال، والذي حصل على نسبة 14.03 بالمئة من الأصوات. إلى ذلك تمكنت أحزاب صغيرة من ضمن الأحزاب الثمانية والثلاثين المرخص لها رسميا مثل: حزب “حركة اندونيسيا العظمى” بقيادة صهر سوهارتو الجنرال المتقاعد “برابوو سوبيانتو” والمعروف محليا باسم “بينوشيه اندونيسيا” في إشارة إلى جرائمه الكثيرة بحق نشطاء الديمقراطية ومطالبي الاستقلال في تيمور الشرقية زمن حكم والد زوجته، ومثل حزب الوعي الشعبي أو “هانورا” بقيادة الجنرال السابق ويرانتو الذي كان وزيرا للدفاع في حكومة سوهارتو، والمتهم دوليا بارتكاب جرائم حرب في تيمور الشرقية في عام 1999 .. تمكنت من اجتياز عتبة ال 2.5 بالمئة من الأصوات واللازمة بحسب الدستور لنيل مقاعد برلمانية وبالتالي تقديم مرشحين باسمها لمنصبي الرئاسة ونيابة الرئاسة أو الدخول لهذا الغرض في ائتلاف مع أحزاب أكبر منها ( ينص الدستور الاندونيسي بموجب الإصلاحات التي أجريت في حقبة ما بعد سوهارتو على أن الأحزاب أو الائتلافات السياسية التي ترغب في تقديم مرشحيها للرئاسة ونيابة الرئاسة يجب أن تملك 20 بالمئة من مقاعد البرلمان أو 25 بالمئة من أصوات الشعب)، حيث حصل حزب سوبيانتو على نسبة 4.6 بالمئة من الأصوات، فيما حصل حزب ويرانتو على نسبة 3.77 بالمئة.
لقد عكست النتائج المذكورة هنا ما كان متداولا في الشارع من أن الأحزاب الكبيرة سوف تسيطر مجتمعة على حوالي 50 بالمئة من أصوات الشعب، تاركة الباقي موزعا على الأحزاب الصغيرة بنسب متفاوتة، كما تركت هذه النتائج مجالا للمراقبين لبعض التكهنات حول لوائح السباق الانتخابي.
وبطبيعة الحال فان أبرز المتنافسين على منصب الرئاسة هو الرئيس يودويونو الذي يطمح إلى ولاية ثانية مدتها خمس سنوات، لن يستطيع بعدها التجديد بحسب التعديلات الدستورية في حقبة ما بعد سوهارتو الذي لم يكن دستوره يتحدث عن هذا الأمر وبالتالي كان يترشح للرئاسة المرة تلو المرة. أما الشخصية التي سوف ترافقه على تذكرته للفوز بمنصب نائب الرئيس فهي الحاكم السابق لمصرف اندونيسيا المركزي “بويديونو”. وهذا عكس ما انتشر من شائعات في الأسابيع القليلة الماضية عن احتمالات عقد صفقة حول هذا الموضوع ما بين يودويونو وميغاواتي، بمعنى أن يخوضا السباق سويا على أن تصبح الثانية نائبة للرئيس في حال فوزهما. و لو أن هذه الشائعة التي استندت إلى عدم رغبة ميغاواتي في لعب دور زعيمة المعارضة في البرلمان مدة خمس سنوات أخرى صدقت لكان هناك تحالف ما بين حزبين سياسيين يملكان عددا لا يستهان به من المقاعد البرلمانية و لكانت نتائج الانتخابات الرئاسية قد حسمت مبكرا، علاوة على أن يودويونو كان سيستفيد كثيرا من مثل هذا التحالف لجهة تنفيذ برامجه الإصلاحية وتمريرها داخل البرلمان دون معوقات.
لكن يبدو أن تفاهم هاتين الشخصيتين أعاقه ما يشوب علاقتهما من توتر منذ أن انشق يودويونو عن حكومة ميغاواتي ليخوض معركة الرئاسة في عام 2004 وينجح فيها. و الدليل هو أن يودويونو وميغاواتي لم يشاهدا في مكان واحد خلال الأعوام الخمسة الماضية.
و على الرغم من أن اندونيسيين كثر تمنوا ألا تدخل ميغاواتي السباق الانتخابي بتذكرة واحدة مع سوبيانتو كنائب للرئيس، إلا أن ميغاواتي خذلتهم بتفاهمها مع من بينها وبينه ثارات دموية قديمة من حقبة التسعينات حينما تولت قوات “كوستارد” التي كان سوبيانتو يقودها وقتذاك باقتحام مقر حزب ميغاواتي وقمع المتحصنين فيه بوحشية واختطافهم إلى معسكرات تعذيب سرية. ومن المفيد هنا أن نذكر أن سوبيانتو يدعي بوجود أكثر من مليون نسمة يؤيدونه، ولاسيما في الأرياف والقرى الساحلية التي أقام فيها لسكانها مشاريع تنموية من خلال الأموال التي سرقها يوم كان صاحب نفوذ وسطوة، أو من خلال استغلاله لأموال أخيه هاشم الذي صنف ضمن الشخصيات التي تملك بليون دولار فأكثر في آسيا. ومن المفيد أيضا أن نشير في هذا المقام إلى أن والد سوبيانتو “سوميترو جوجوهاديكوسومو” كان أحد ألد الأعداء السياسيين لوالد ميغاواتي (أحمد سوكارنو). لكن السياسة – كما يقال – لا تعترف بأصدقاء أو أعداء دائمين!
ومن جهة أخرى يعتبر المراقبون تذكرة كالا – ويرانتو (لمنصبي الرئيس ونائبه على التوالي) هي الأكثر تماسكا، وربما الأكثر احتمالا للفوز، وان كان يوسف كالا قد بدأ يتعرض لبعض الاحتجاجات من داخل حزبه مع تهديدات بالتمرد عليه، وذلك كردة فعل غاضبة على تحالفه مع مجرم الحرب ويرانتو. غير أن كالا، الذي شغل منصب نائب رئيس الجمهورية خلال السنوات الخمس الماضية ثم قرر في يناير من هذا العام أن يتخلى عن رئيسه وينافسه على الرئاسة، يراهن في فوزه على ما يدعيه من دور في تحقيق السلام في إقليم آتشيه، فضلا عن ادعاءاته بإنجاز أمور كثيرة أخرى ينازعه فيها يودويونو.
ومما تردد قبل أن يعقد يوسف كالا والجنرال ويرانتو صفقة يدخلان بموجبها السباق الرئاسي سويا، أن حزب غولكار يحبذ أن يبقي تحالفه مع الحزب الديمقراطي بقيادة الرئيس يودويونو، كي يكون له في السلطة نصيب مجسدا في صلاحيات نائب الرئيس، بدلا من ألا يكون له فيها أي شيء إذا ما خسر (وهو احتمال وارد).
و الجدير بالذكر أن أنصار يودويونو انتهزوا فرصة ما تردد حول وجود شقاق في حزب غولكار، ليشددوا ضغوطهم على زعيمهم كي يستغل الأخير الوضع ويختار إحدى الشخصيات المتمردة على يوسف كالا ليكون في معيته كنائب للرئيس في السباق الانتخابي، خصوصا وان بين هؤلاء الشخصيات المتمردة أسماء لامعه ومعروفة مثل فاضل محمد حاكم إقليم غورونتالو ذو الشعبية الكبيرة (وان كان اسمه قد تطلخ بقضية فساد مزعومة مؤخرا ويحاول اليوم تبرئة نفسه منها) أو مثل وزيرة المالية “سري مولياني أندواتي” الشخصية السياسية المستقلة والمحترمة على نطاق واسع محليا ودوليا بسبب صرامتها في مكافحة الفساد والمفسدين في الأجهزة البيروقراطية. غير أن يودويونو فضل – لسبب غير معروف – اختيار المصرفي بويديونو.
لكن البعض فسر عدم اختياره للسيدة أندواتي بأنه تطبيق لما قررته المحكمة الدستورية مؤخرا من إلغاء حق الشخصيات المستقلة بالترشح لأكبر منصبين في البلاد، وأن اختياره لبويديونو يعكس محاولة جادة منه للاعتماد في القضايا الاقتصادية والمالية الشائكة التي تعاني منها اندونيسيا في ظل أزمة الكساد العالمي على شخصية مرموقة ومتخصصة.
بقي أن نستعرض شيئا مما شرعه المشرع الاندونيسي حول الانتخابات النيابية والرئاسية. فهو قرر أن تكون الأولى سابقة على الثانية كي يتبين حجم القوى السياسية المؤهلة فعلا لخوض السباق الرئاسي. لذا فان الانتخابات النيابية عادة ما تجرى في أوائل مايو، والانتخابات الرئاسية في أوائل يوليو، على أن تجرى انتخابات الإعادة في الثانية – أي حينما لا يحصل أي من المترشحين على نسبة الأصوات المطلوبة أو حينما تظهر مخالفات في سير العملية الانتخابية – في شهر سبتمبر. كما قرر أن يكون تسجيل الأسماء للراغبين في خوض السباق الرئاسي في الفترة ما بين 10- 16 مايو، وأن يكون فحصهم طبيا لبيان مدى أهليتهم للاضطلاع بمسئوليات الحكم في الفترة ما بين 11- 15 مايو، وان تعلن أسماء المترشحين في موعد أقصاه 28 مايو، وان تعلن التذاكر الانتخابية من قبل اللجنة العامة للانتخابات في 31 مايو، وان تجري الحملات الانتخابية الرئاسية في الثاني من يوليو لتنتهي في الرابع منه، وليعقبها يومان من الصمت، يذهب بعدها المقترعون إلى صناديق الانتخاب. ولم ينس المشرع الاندونيسي أن يتحدث عن نتائج الانتخابات فقال أنها يجب أن تعلن ما بين 27 و29 يوليو. وتتبع هذه فترة ما بين الأول والثاني عشر من أغسطس لتقديم الطعونات، فإذا ما تم التحقق من وجود مخالفات، عاد المقترعون مجددا إلى صناديق الاقتراع في سبتمبر على أن تعلن النتائج الجديدة في أكتوبر ويؤدي الرئيس ونائبه القسم الدستوري في الشهر ذاته.
*باحث ومحاضر أكاديمي في الشئون الآسيوية من البحرين
elmadani@batelco.com.bh