كثيراً ما أعتقد بأن الأنثى الجميلة الطافحة بالأحاسيس الراقية تمارس نوعاً من المؤامرة الفطرية على الألوان والأزياء والمساحات والطبيعة. وهذا ما نراه يتجلى بوضوح في المزاج الأنثوي المفعم بجماليات سحر الأناقة وترف الذوق ورهافة الحس وعذوبة المنطق، وبالتأكيد كانت محقة الروائية ايزابيل الليندي حينما قالت: أن الجمال أسلوب..
“المرأة بين عمرين”، متحف مدينة “رين الفرنسية، الرسّام مجهول، القرن السابع عشر
وفي أكثر الأساطير قدماً في تاريخ البشرية ظلت الأنثى الجميلة رمزاً لِجماليات الطبيعة والكون. حتى أن بعض المفاهيم المسيحية القديمة كانت تجد في (الرب) جانباً أنثوياً، وكانت تعتقد أن الأنثى خُلِقت على صورته. وأيضاً تتحدث كتب التاريخ وروايات الشعوب، أن الأنثى هيَ مَن أرشدت الرجل إلى تعلم أساسيات الزراعة والصناعة، ونوهته إلى أهمية الأمان والاستقرار لبناء مجتمعات تتسم بالتحضر والمدنية، وكذلك دفعت الرجل إلى التأقلم والتعايش مع تغيرات وتحولات الطبيعة من خلال الاهتمام بالعلوم الفلكية. وذهبت منقولات التاريخ إلى أكثر من ذلك حين ذكرت أن الأنثى علمت الرجل أصوليات اللغة ومزايا التخاطب البشري القائم على أسس إنسانية راقية..
وفي مقابل ذلك نجد أن الإنسان الحديث أو بدقة أكثر، الرجل، صنع عالمهُ وحضارته من أجل المرأة. ونظرة سريعة لنتاجات الحضارة الحديثة من أزياء وعطور ومستحضرات تجميل واكسسوارات وغيرها الكثير والكثير، نرى إنها في الأغلب قد صُنعت بعناية فائقة لتخدم جمال المرأة وتعتني بأناقتها وتتفهم احتياجاتها الثقافية والنفسية. وكان الرجل في كل ذلك يستلهم من الجمال الأنثوي إبداعاته ولمساته الساحرة، لأنها في ثقافته وتاريخه وتراثه ووجدانه وحتى في كيانه، كانت ولا تزال تمثل مركز الأرض والحضارة. ولذلك استطاع الرجل أن يبتكر وبشكل متجدد ومستمر ما هو جديد في عالم المرأة، ولم يقف يوماً عاجزاً عن منحها إبداعاته وابتكاراته وتطوراته المتلاحقة..
وأعتقد أن الأنثى أصبحت تتصرف مع ابداعات الرجل بذكاء، منطلقة من ذائقة مترعة بالفخامة، فغدت تعرف جيداً كيف تختار بدقة ما يتناسب وجمالها، وفي مقابل ذلك لا تدع مجالاً لبعض جنون الموضة أن يستغل جمالها لتمرير ما يرفضه مزاجها الأنثوي..
والمرأة استطاعت أن تحقق تفوقاً ذاتياً على الرجل في بحثه الدائم عن الصيغ الجمالية، فلو لم تكن المرأة الجميلة هي المُلهمة للرجل لما استطاع أن يبدع حتى في أدق التفاصيل. وفي الأمس القريب جداً أوردت إحدى الصحف الانجليزية خبراً مفاده: أن المصمم الاسكوتلندي الشهير (أيان كالوم) قد استوحى فكرة تصميم سيارة جاغوار الجديدة الكوبيه من الجمال الأخاذ ذات التقاسيم الطبيعية التي وجدها مثالية في جسد الممثلة البريطانية الحسناء (كيت وينسلت) بطلة فيلم تايتانك، وقال المصمم مضيفاً: صممت انسياب الجاغوار الجديدة واضعاً صورة كيت في رأسي..
وكذلك استطاعت الأنثى أن تخلق جواً مزاجياً لدى الرجل يرتبط بالذائقة الراقية. فلم تنصرف عن إثارة اهتمامه المستمر بجمالها وسحر أنوثتها، بل أشعبت غروره بما يتناسب وطموحه في الإبداع والابتكار. وكذلك ليست بغريبةٍ عنا مؤامراتها الفطرية على زوايا الأمكنة وفواصل الأشياء التي يبقى الرجل يستذكرها بمزيدٍ من الاشتياق والشوق والوله، تاركةً فيها رائحتها العابقة بالأنوثة العذبة. ولم يكن الأديب اللبناني عبده وازن مبالغاً بما قاله في هذا الصدد: سيذكر البابُ كثيراً هواء جسدكِ، ستذكر العتبة نسيمَ قدميكِ وهما تعبران..
ولم تكن المرأة في يوم من الأيام عدوة لنتاجات الرجل الأنثوية والحضارية، بل كانت محبة لها وملهمة ومساندة ومرشدة، وهنا النقطة الأكثر أهمية في تفوق المرأة ذاتياً على إبداع الرجل..
وما جعلها تتقن لعبة المؤامرة الفطرية، إن جمالها طقسٌ فنيٌ شديد الثراء متعدد الألوان والوجوه والآفاق، ويضجُّ بالأساطير والحكايات والأحلام وتجتمع فيه التناقضات التي تتكامل في نسيج فاتن التشكّل ينسجم مع طبيعة الكون..
وانطلاقاً من طبيعتها الجمالية الأخاذة مارست نوعاً من المؤامرة الفطرية على الإبداع الجمالي الحضاري، فهي مَن تُسبغ على الألوان اللمعان والسحر وفتنة الضوء وهيَ مَن تضفي على الطبيعة دهشة الألق ولمسة الترف الراقية وغواية التأمل، فمثلاً المرأة الجميلة حينما ترتدي فستاناً ذا لونٍ أسود ولو كان من تصميم أشهر مصممي الأزياء العالميين، فإنها بجمالها وسحرها تضخُ في ذلك اللون فخامةً فارهة، وبذلك هيَ تمارس المؤامرة حتى على جمال وألق الألوان، وقسْ على ذلك ما تفعله بحق الأزياء والمساحات والأمكنة والطبيعة، ناهيك بمؤامراتها الفطرية المستمرة على إبداع الشعراء والرسامين وصانعي الفنون الجميلة وعابري الطرق. وصدقَ الشاعر محمد علي شمس الدين حينما قال : أجمل الغرقى ماتوا في طريقهم إليكِ..
tloo1@hotmail.com
* كاتب كويتي