من أهم الأسرار التي باتت معروفة بشدة في أنقرة هو أن تركيا تمقت إيران حيث ترى أنها تقوض مصالحها في العراق وسوريا. إلا أن القادة الأتراك لن يعترفوا بهذا علناً نظراً لحاجة بلادهم الماسة للغاز الطبيعي والنفط الإيراني لمواصلة نموها الاقتصادي الهائل.
ومع ذلك تَعتبر أنقرة كلاً من العراق وسوريا ساحات للنزاع بالوكالة مع إيران؛ ففي الأولى تواصل تركيا دعمها للسنة العرب والأكراد ضد الحكومة المركزية في بغداد تحت قيادة رئيس الوزراء الشيعي نوري المالكي الذي تعتبره تركيا دمية في يد الإيرانيين؛ أما في الأخيرة فتدعم أنقرة الثوار المناهضين لنظام الأسد الذي تدعمه طهران.
وقد ردت تركيا على التحدي الإيراني عبر بناء نفوذ في الأجزاء الشمالية من كل من العراق وسوريا. ويعتبر ذلك دليلاً على صعود السياسة التركية غير المعلنة بعد في الشرق الأوسط. فمن خلال توقع تطبيق اللامركزية في سوريا ما بعد الأسد والتطلع إلى الاستفادة من الحكم الذاتي للأكراد في شمال العراق، تحاول تركيا بناء حزام واقي على امتداد شمال الهلال الخصيب إلى جانب بناء نفوذ داخل مناطق تمركز السكان الأكراد، فضلاً عن المراكز التجارية الكبيرة مثل حلب والموصل.
وعندما اتجهت تركيا إلى إقامة روابط أوثق مع جيرانها المسلمين منذ حوالي عقد مضى، كانت تأمل بأن تساعد مثل هذه العلاقات على تعزيز الاستقرار في العراق وتحسين العلاقات السياسية مع سوريا وإيران.
إلا أن الثورات العربية قد أطاحت بجميع هذه المخططات. ففي بداية الأمر، قدمت أنقرة نصيحة ودية لنظام الأسد لوقف قتل المدنيين. إلا أن دمشق رفضت ذلك، وفي آب/أغسطس 2011 انقلب الموقف التركي رأساً على عقب: فقد تحولت أنقرة من كونها أحد الجيران الأصدقاء للأسد إلى خصمه الرئيسي. وبدأت تركيا توفر ملاذاً آمناً للمعارضة السورية، بل وفقاً لتقارير وسائل الاعلام وصل هذا الأمر حتى إلى تسليح الثوار.
إن هذه السياسة قد أظهرت أنقرة وطهران — راعية الأسد — كمنافسين رئيسيين في سوريا. وأدى ذلك بدوره إلى ازدياد حدة التنافس في العراق، حيث أيدت أنقرة كتلة “العراقية” العلمانية برئاسة أياد علاوي في زخم الإستعداد للانتخابات عام 2010 مما أدى إلى تدهور علاقتها مع المالكي.
وبعد إعادة انتخاب المالكي، فضلت أنقرة إقامة اتصالات أوثق مع السنة العرب والأكراد في شمال العراق. وقفز حجم التبادل التجاري بين تركيا وشمال العراق إلى 8 مليارات دولار سنوياً مقارنة بملياري دولار فقط حجم تعاملاتها التجارية مع الجزء الجنوبي من البلاد، فضلاً عن سعي أنقرة إلى عقد صفقات نفطية مربحة مع الأكراد العراقيين.
وباختصار ومن الناحية العملية البحتة أصبح شمال العراق جزءاً من النفوذ التركي في المنطقة. إن ذلك يثير الدهشة بصورة خاصة نظراً لأنه قبل بضع سنوات فقط كان يبدو أن العداء التركي تجاه القيادات الكردية العراقية على وشك التحول إلى اجتياح كامل للمنطقة.
وعلى العكس من ذلك توفر “الخطوط الجوية التركية” في الوقت الراهن رحلات يومية إلى السليمانية وأربيل اللتين تقعان تحت إدارة “حكومة إقليم كردستان” في شمال العراق، كما أن الأكراد العراقيين يقضون إجازاتهم في أنطاليا — المنتجع تركي على البحر المتوسط.
وقد أصبحت الموصل — المحافظة ذات الأغلبية السنية في شمال العراق — أيضاً أكثر ميلاً نحو أنقرة. وتوفر تركيا حالياً ملاذاً آمناً لطارق الهاشمي، النائب السني لرئيس جمهوية العراق، الذي أصبح أمر اعتقاله سبباً لحشد العديد من السنة. وفي الوقت نفسه، يجري إحياء الروابط التاريخية بين الموصل وتركيا، التي يعود تاريخها إلى زمن الإمبراطورية العثمانية. وعندما زرتُ غازي عنتاب — مدينة في جنوب تركيا — للمرة الأخيرة، كان فندقي مليئاً برجال الأعمال العرب من الموصل.
وقبل بدء الانتفاضة السورية، حدث تطور مشابه في حلب، وهي مدينة أخرى في منظقة الهلال الخصيب كانت تتمتع بعلاقات تجارية عميقة مع تركيا في ظل الامبراطورية العثمانية.
لقد أصبحت حلب — التي تقع على بعد 26 ميلاً من الحدود — نقطة محورية للأعمال التجارية التركية في شمال سوريا، وليس هناك أدنى شك أن الدعم القوي الذي قدمه الأتراك للثوار في شمال سوريا سيزيد من النفوذ التركي في المدينة بعد الإطاحة بنظام الأسد (وليس من قبيل الصدفة أن أكبر المناطق المتجاورة التي يسيطر عليها الثوار في سوريا تقع بالقرب من حلب).
وكان الجزء المفقود من نفوذ تركيا المتوقع في منطقة شمال الهلال الخصيب هو الأكراد السوريين — إلى أن أعلنت تركيا إجراء مباحثات سلام مع “حزب العمال الكردستاني”. ويعرف عن هذه الجماعة، التي شنت حرباً ضد تركيا دامت أكثر من ثلاثة عقود، أنها الحركة الأكثر تنظيماً بين الأكراد السوريين.
وتأمل أنقرة بأن تساعد هذه المباحثات التي تجريها مع “حزب العمال الكردستاني” على تضميد الجراح مع الأكراد السوريين. وفي الواقع، أعادت تركيا صياغة سياستها في الشرق الأوسط: فهي تنظر الآن إلى الأكراد كحجر أساس لمناطق نفوذها في شتى أنحاء منطقة شمال الهلال الخصيب.
بيد، إن الأوضاع ليست على ما يرام بالكامل بالنسبة لتركيا. حيث أن مباحثات السلام التي تجريها مع “حزب العمال الكردستاني” قد تبوء بالفشل مما قد يؤدي إلى تحول الرافضين من “حزب العمل الكردستاني” إلى الوقوع في أحضان إيران أو حتى بغداد. كما أن هناك تهديداً يطفو الآن على السطح بشأن السماح للمقاتلين المتطرفين بالدخول إلى شمال سوريا. وهذه لعبة خطرة لأنه بمجرد سقوط نظام الأسد قد تجد تركيا نفسها مصطدمة بمشكلة الجهاديين في منطقة نفوذها الذي اكتسبته مؤخراً.
سونر چاغاپتاي هو مدير برنامج الأبحاث التركية في معهد واشنطن.
نيويورك تايمز