،يتضمن الكتاب عشرين مقالة تهاجم سياسات المصارف في القطاع العام وتصرفاتها التي تضر بمصالح عامة الناس. يحاول الكاتب من خلال تلك المقالات أن يكشف عما يجري وراء الكوالس في حقول الأعمال المصرفية لصالح الشركات العملاقة الإحتكارية. خبرات الكاتب في مجال البنوك، وهو رئيس إتحاد نقابات عمال البنوك لعموم الهند، تجعله يتناول الموضوع بأسلوب بسيط يتوافق مدارك عامة القراء.
تُعالج المقالات عددا من الموضوعات مثل الإحتيال المالي على البنوك وانتشار العملات المزورة وغسيل الأموال السوداء والإتجاه الذي اشتد في الآونة الأخيرة في دمج البنوك بعضها ببعض وغيرها التي تتأثر بها الأعمال البنكية سلبيا.
وتاريخ نشأة البنوك في الهند يعود إلى سنة 1770م حيث تم تأسيس أول بنك هندي تحت إسم « بنك هندوستان » (Bank of Hindustan) في “كالكاتا” عاصمة الهند آنذاك. ولكن لم يُوفّق له النجاح، واختتمت أعماله عام 1832م. وقبل الاستقلال من الحكم البريطاني كانت هناك 600 بنك مسجلة في الهند إلا أنه لم يقدر البقاء إلا لعدد قليل منها. خلال فترة الحكم البريطاني قامت «شركة الهند الشرقية » بإنشاء ثلاثة بنوك – « بنك البنغال »، و »بنك بومباي » و »بنك مدراس»، واندمجت تلك البنوك مع بعض تحت اسم “بنك الهند الامبريالي” الذي أصبح فيما بعد « البنك المركزي الهندي » (The State Bank of India) بعد تأميمه عام 1955م. ويُعدّ هذا البنك حاليا أكبر بنك في القطاع العام في الهند. ومن البنوك الرئيسة قبل استقلال الهند بنك إله آباد (1865) وبنك البنجاب الوطني (1894) وبنك “كانارا” (1906) والبنك المركزي الهندي (1911) وبنك بارودا (1908). وجميع هذه البنوك لا تزال على قيد العمل حتى الآن.
يقول المؤلف إن المؤسسات المالية في الهند بما فيها البنوك تتراكم فيها الثروة، وفي نفس الوقت يعاني الشعب من حرمان المصادر المالية كما يعاني البلد من عدم النموّ الاقتصادي الكافي.
ويشير إلى أن السبب وراء هذه الكارثة ليس قلة مصادر مالية في الدولة ولا عدم كفاية الموارد الضرورية بل الخلل وعدم التوازن في توزيع تلك الثروة بين جماهير الشعب. لأنه توجد في البنوك في الهند ودائع من عامة الناس يبلغ قدرها 93 ترليون روبية بالإضافة إلى ما جُمع في البنوك التعاونية. وقد جمعت البنوك التعاونية في « كيرالا » فقط من السكان البسطاء مبلغا قدره أربع ترليون روبية. وهذا القدر من الثروة لا يمكن أن يوجد لها مثيل في أي مكان آخر. ولكن من الذي يستفيد منها؟ لم تصل منافعها إلى الجمهور كما توقعت عند تأميم البنوك في عهد انديرا غاندي عام 1969م. إنما يستفيد منها أصحاب الشركات العملاقة. وفي أصح العبارة يجب أن نقول إن ما يقوم به هؤلاء هو النهب الصريح باحتيالهم على البنوك. واحتيال أثرياء الهنود على البنوك لا ينحصر في الهند فقط بل يتجاوز إلى الدول الخليجية أيضا. ففي نهاية شهر ابريل الماضي قرأنا في الجرائد خبرا يفيد بأن السلطات الإماراتية قررت تجميد حسابات مليادير هندي يُدعى «بي. آر. شيتي »، مؤسس ورئيس مجلس الإدارة السابق لمجموعة “أن أم سي للرعاية الصحية“، نجح المذكور بالهروب من الإمارات بأموال طائلة من بنوكها عقب أخذ قروض منها بمليارات الدولارات. ويقال إنه يواجه الآن خمس قضايا قانونية. وهي أكبر قضية احتيال مالي في تاريخ الإمارات. وتشمل قائمة الدائنين 80 مؤسسة مالية محلية وإقليمية ودولية أقرضت مجموعة أن أم سي للرعاية الصحية، وربما يستثنى منها حسب تقرير صحفي بنك نزوى العماني حيث لا يمتلك أي استثمارات أو أموال مودعة مع مجموعة أن أم سي للرعاية الصحية.
حكاية صعود شيتي السريع ظريفة وغريبة. قبل 43 سنة وصل إلى الإمارات من الهند وهو يحمل شهادة جامعة في الصيدلة وفي جيبه ثمانية دولارات أمريكية فقط. كان في البداية رجل مبيعات يقوم بالتجول على المتاجر والمخازن العامة لتسليم البضائع. كان راتبه في حينه 500 درهم. كان نمو أعماله التجارية بسرعة فائقة. وفي عام 1975نمت على باله فكرة إنشاء عيادة وصيدلية حيث بدأ “المركز الطبي الجديد“، كان فريدا من نوعه. أنشأ في عام 1980 مركز الإمارات للصرافة (U A E Exchange) واحد من أكبر الشركات العاملة في مجال تحويل الأموال في الإمارات. سرعان ما توسعت قاعدة أعماله لتنطلق من الإمارات إلى 15 دولة في العالم. وأصبحت شركته «أن أم سي» مدرجة في بورصة لندن وقيمتها السوقية نحو 2,7 مليار دولار.
ويقال إنه من المقربين من الدوائر الحكومية وقيادات الحزب الحاكم في الهند، وإنه الآن مشغول بتنفيذ مشاريع اسثمارات كبيرة في كشمير بعد رفع الحظر عن حق ملكية الأراضي هناك لغير الكشميريين. ويُلاحظ أن كل من هربوا بالاحتيال على البنوك من الهند إلى الخارج كانت لهم علاقات جيدة مع السلطات الهندية والحزب الحاكم. وقد ازدادت حالات فضائح كثيرة من الاحتيال على البنوك في الهند, على سبييل المثال إن قضية تاجر الماس “نيراف مودي” وأسرته، وقضية مليادير “فيجايا ماليا” صاحب شركة طيران ونائب برلماني ينتمى إلى الحزب الحاكم كانتا من القضايا الشائكة التي أحدثت ضجة كبيرة في الجرائد الهندية. تتوقع إدارة الضرائب في الهند أن الخسائر التي تضررت بها البنوك المحلية ستتجاوز قيمتها الثلاثة مليارات دولار نتيجة لقروض وضمانات قدمتها لشركات ألماس يمتلكها نيراف مودي وعائلته في خضم عملية احتيال ضخمة مزعومة في بنك البنجاب الوطني في القطاع العام. كانت البنوك قدمت قروضا وضمانات بقيمة تصل إلى 176,36 مليار روبية لشركات مرتبطة بمودي وعمه ميهول تشوكسي. ووفقا لشكوى قدمها البنك البنجاب الوطني، فإن أكبر عملية احتيال مصرفي في تاريخ الهند هذه شملت مسؤولين صغيرين بأحد فروع البنك في مومباي أصدرا “خطابات تعهد” لشركات مرتبطة بمودي وتشوكسي لتحصل على ائتمانات من فروع لبنوك هندية أخرى في الخارج. وهذه المعاملات الاحتيالية تمت على مدار سنوات ويبلغ حجمها 1,77 مليار دولار. إن شركة جيتانجالي التي يرأسها تشوكسي وشركاتها الفرعية كانت تتعامل مع 32 مصرفا من بينها بنك الاتحاد الهندي وبنك إله آباد وبنك أكسيس التي أعطت لسلسلة متاجر تابعة لتلك الشركات الممتدة من نيويورك إلى بيجنغ.
كيف يتمكن أمثال نيراف مودي وويجايا ماليا من ممارسة الاحتيال على البنوك هكذا؟ مقدمة هذا الكتاب التي كتبها طوماس آيساك الماركسي والوزير المالي في ولاية كيرالا يكشف عن تفاصيل: عامة الناس لا يستطيعون خداعة البنوك هكذا. لأن البنوك لا تُقرٍض لهم إلا بضمان. ستكون القروض وفقا لحجم الضمان. ومن ثم ستكون لها حدود. أما أمثال نيراف مودي وفيجايا مليا فلا تنطبق عليهم هذه الشروط. لأنهم هوامير لهم نفوذ خاص في أروقة السلطة. الطريقة التي اتخذها نيراف مودي للاحتيال على البنوك بسيطة. تقدم إلى بنك البنجاب للقروض لاشتراء الماس من خارج البلاد. وهو يحتاج لذلك إلى قروض في صورة دولارات في الخارج. ولكن لا يستطيع لهذا الغرض أن يتقدم مباشرة إلى بنوك في الخارج، لأن البنوك خارج البلاد لا يعرفه. فلا تتم هذه العملية إلا بواسطة بنوك موثوق بها. هنا استعد بنك البنجاب أن يكون ضامنا لنيراف مودي لسداد ديونه، وذلك من خلال “خطاب تعهد” موجه للبنك الدائن خارج الهند. إعتمادا على خطاب التفاهم (LoU) هذا أعطى البنك في الخارج قروضا لبنك البنجاب وتسلم منه مودى تلك القروض. في هذه الحالة إذا فشل مودي في تسديد الديون إنما يجب تسديدها على بنك البنجاب صاحب التعهد. فلا بد من أن يأخذ بنك البنجاب ضمانا من مودي قبل تزويده بخطاب التعهد الموجه إلى البنك المعني في الخارج. الموظفون في بنك البنجاب لم يقوموا بهذا الواجب. فكانت النتيجة الحتمية أن يتعرض بنك البنجاب لخسائر فادحة. يشير طوماس في مقدمته إلى أن الإجراءات الإنفتاحية التي بدأت في 1991 ومقترحات اللجان التي عُيِّنت لهذا الغرض هي التي سببت لازدياد الاحتيالات على البنوك. قدمت لجنة “ناراسمهام” (محافظ البنك الاحتياطي السابق) مقترحات لتعديلات لازمة في لوائح تنظيم البنوك الأساسية بموجب سياسات العولمة والانفتاح، اقترحت اللجنة لاجتناب الحكومة السيطرة على البنوك والتخلي عن الاهتمام الذي يختص بالصناعات الصغيرة والزراعة. ونتيجة لذلك أقرضت البنوك مبالغ كبيرة للأفيال الاقتصادية بينما قللت التمويل للخِراف الصغيرة من المستثمرين. أصبح توجه البنوك الرئيسي تحقيق الأرباح في أي شكل كان فأبتعدت عن مساعدة البؤساء من الجمهور. كان من أهم اكتشافات لجنة “ناراسمهام” أن سبب ازدياد الأصول غير المنتجة هو منح القروض لمحدودي الدخل. فغدى اهتمام الحكومة بعد 1990 خصحصة البنوك ووبيع أسهمها لبنوك وأصحاب رأسمال خارج البلاد. هناك مؤسسات خاصة لمراقبة كل مؤسسة من مؤسسات مالية في الهند، فمثلا جميع البنوك تحت مراقبة البنك الاحتياطي (Reserve Bank). وشركات التأمين تراقبها هيئة تنطيم وتنمية التأمين. أما صناديق الاستثمارات المشتركة فلها مجلس الهند للأسواق والأوراق المالية. وبموجب مشروع جديد سوف تتركز مراقبة جميع هذه المؤسسات في سيطرة هيئة واحدة بسلطات واسعة. المؤسسة التي يتم تشكيلها لهذا الغرض سيكون لها الحق للتداخل في شؤون أي مؤسسة مالية وفي اتخاذ القرار في دمج بعضها ببعض. والجدير بالذكر أن هذا الموضوع الهامّ لم يُناقش في البرلمان كما يستحق.
السيل الجارف من الرأسمال العالمي قد ساهم كثيرا في إعادة تشكيل النظام المصرفي في الهند. المقالات في هذا الكتاب تحلل تاريخ وسياسة هذه الظاهرة وتكشف عما يجري وراء كواليس البنوك المعروفة باسم “الجيل الناشئ“. وهي تُعكّس التغييرات الجذرية التي تطورت في أهداف البنوك وطبيعة إدارتها واهتماماتها. يشرح الكاتب كيف أصبحت البنوك في القطاع العام راعية لمصالح شركات عملاقة وكيف تساهم أساليبها المختلفة في استغلال عملائها البسطاء بازدياد رسومات خدمات متنوعة في المعاملات المصرفية ومنها الرسومات الغريبة التي يأخذها البنك المركزي الهندي، أكبر بنك في الهند، من زبونه إذا تجاوزت وديعته المرة الثالثة خلال شهر واحد. وفي مقال تحت عنوان ” الهند غنية جدا“، يحاول الكاتب أن يثبت أن الإصلاحات التي تم أتخاذها بعد 1991 في حقول المصارف كانت متواطئة مع الشركات الكبيرة ومعادية لمصالح الفلاحين والسواد الأعظم. وفي المقال تحت عنوان ” عقدان ونصف من الإصلاحات في مجال الأموال” يذهب الكاتب إلى تفاصيل هذا لإتجاه السلبي بإلقاء الضوء على التقارير التي قدمتها عدد من اللجان بهذا الصدد مثل لجنة “ناراسيمهام” ولجنة “مالهوترا” والتي تتقترح تغييرات هيكلية في الحقول المصرفية. وفي المقال بعنوان ” ما وراء الديون المعدومة” يشير إلى أن هذه الكارثة من “إنجازات” الرأسمالية المحسوبية (Crony Capitalism)، لأن البنوك اعتبرت في منح القروض أصحاب الرأسمال الكبير بدلا من الطبقات المتوسطة. ومن خلال المقال عن دمج البنوك يثبت الكاتب أن الهدف الحقيقي وراء هذا التحرك إنما هو خصخصة البنوك وجذب الرأسمال الخارجي إلى البنوك الوطنية، ويُبرِز فيه المشاكل التي واجه الزبائن بدمج “بنك ترافانكور” أحد البنوك الكبرى في كيرالا مع البنك المركز الهندي. ونتيجة لذلك فقَدَ كثير من العاملين فيه وظيفتهم كما تم إلغاء عدد كثير من فروعها وخاصة التي كانت موجودة في المناطق الريفية. ويقال أن الاجراءات في قدم وساق لبيع 51% من أسهم بنك الكاثوليكية السورية لشركة كندية.
حيث أن الكاتب ناشط في مجال النقابات فمن الطبيعي أن يكون في مواقفه من القضايا المتعلقة بالبنوك توافقا مع مصالح العاملين فيها. مع هذا نجد في مقالاته لسانا ناطقة لعامة الناس الصامتين الذين يعانون من ويلات سياسات النظام غير العادلة في جمهورية زائفة. المقالات التي يحتويها الكتاب مكتوبة في أوقات مختلفة في جرائد، ولكن للأسف لم يهتم الكاتب بتحريرها بحذف التكرار الموجودة في تلك المقالات، و“ماتروبهومي” التي قامت بنشر الكتاب دار نشر عريقة في كيرالا، غريب أن تكون دار نشر مثلها محرومة من محرر يهتم بهذا الجانب.
عنوان الكتاب: الأعمال المصرفية في زمن العولمة
المؤلف: تي. ناريندران، اللغة: مالايالام
عددالصفحات: 109 ، سنة النشر: 2019
الناشر: Grass root – Mathrubhoomi ، كوزيكود