بشار الأسد، جالساً إلى يمين الرئيس التركي عبد الله غول، سبق ـ أو لعلّه استبق، عامداً ـ جميع ملوك وسلاطين وأمراء ورؤساء الأنظمة العربية في الإعراب عن تأييده لأيّ توغل عسكري تركي في الأراضي العراقية، بذريعة ردع “حزب العمّال الكردستاني”، PKK. ورغم إسراع عدد من نطاسيي النظام، وعلى رأسهم وزير الإعلام، إلى تنقيح أقوال الأسد أو تلطيفها قليلاً، فإنّ التصريح كان واضحاً لا يقبل الكثير من ليّ المعنى أو الإفتاء في دلالته: “نحن نؤيد القرارات المطروحة على جدول أعمال الحكومة التركية في ما يتعلق بمحاربة الإرهاب والنشاطات الإرهابية”. وهذا الجزء من التصريح لا يقتصر على تأييد أيّ عمل عسكري تركي داخل الأراضي العراقية (حتى قبل أن يصوّت البرلمان التركي على تخويل الحكومة القيام بهذه الخطوة الخطيرة، لأنّ الاسد ربما ساوى في الفطرة بين هذا البرلمان ومجلس الشعب السوري، من حيث البصم الميكانيكي على مشاريع قرارات الحكومة!)، فحسب، بل يصنّف “حزب العمّال الكردستاني” في خانة الإرهاب والإرهابيين.
ثمة جزء أوضح، وأكثر طرافة في الواقع: “القوات التي تحتل العراق مسؤولة بالدرجة الأولى عن النشاطات الإرهابية التي تمارس فيه لأنها هي التي تسيطر على البلاد”. ولكي يصادق مجدداً على التوصيف الذي اعتمده في لقائه مع الـ BBC قبل أيام معدودات، حين ألصق صفة “الإرهابيين” بجميع مرتكبي أعمال العنف في العراق (وهي الصفة التي سارعت وكالة الأنباء الرسمية، سانا، إلى تلطيفها في الترجمة العربية لأقوال الأسد، بحيث صار الإرهابيون أولئك مجرّد “أشخاص”!)، دعا إلى “تعرية المجموعات المسلحة” في العراق، التي “تدعم وتحمي النشاطات الإرهابية”.
معروف، بالطبع، سبب إحجام نظام الأسد عن المشاركة في مهامّ التعرية هذه، لكي لا نقول الكفّ عن دعم بعضها وحمايتها بعد تصنيعها استخباراتياً، ثمّ ردم آبار أسرارها عن طريق التصفية الجسدية إذا اقتضى الأمر (كما في مثال اغتيال الشيخ محمود قول آغاسي، “أبو القعقاع”، في حلب قبل أسابيع قليلة). ما يبقى جديراً بالتأمّل في هذه التصريحات، وعلى نحو زماني مزدوج يشمل الراهن والحال قبل عقد من السنين ليس أكثر، هو موقف الأسد من “حزب العمال الكردستاني” تحديداً، الذي لا يقوم بأعمال عنف في العراق، بل في داخل الأراضي التركية.
الراهن هو هذا الاختزال المريع لقضية الحزب، وتقزيم المسألة الكردية في تركيا بصفة عامة، إلى تصنيفات أمنية صرفة، تحت مسمّى “الإرهاب” الفضفاض الذي سبق للأسد نفسه أن نافح ضدّ تعميمه (كما في تفريقه، مثلاً، بين إرهاب ومقاومة مشروعة). وأمّا ارتباط الحال الراهنة بالماضي القريب، فإنه مدعاة إلى الكثير من العجب إذا تذكّر المرء طبيعة العلاقات الوثيقة التي جمعت النظام السوري و”حزب العمال الكردستاني” حتى صيف 1998، أي قبل أن يتلقى حافظ الأسد تلك الرسالة القاطعة من الحكومة التركية: إمّا رفع الغطاء عن عبد الله أوجلان، الزعيم التاريخي لـ”حزب العمال الكردستاني”، ثمّ طرده من جميع الأراضي السورية ومن مناطق النفوذ السوري في البقاع اللبناني، وإغلاق جميع معسكراته، وإيقاف أيّ وكلّ دعم لوجستي وعسكري واستخباراتي من جانب الأجهزة السورية؛ ثمّ، لكي لا ننسى، اتخاذ الإجراءات ذاتها مع منظمة «الجيش السرّي لتحرير أرمينيا» ASALA، الذي كان يحظى برعاية أمنية سورية في لبنان؛ وإمّا… الحرب العسكرية المباشرة الشاملة.
ولكي تسبغ الحكومة التركية المقدار الضروري من الجدّية على رسالتها تلك، سارعت إلى نشر فرقة عسكرية كاملة، تساندها قوّات أخرى مختلفة التسليح، على طول الحدود مع سورية، البالغة 1347 كم. كذلك رفعت التصعيد اللفظي إلى مستوى اتهام نظام الأسد بالرغبة في «استخدام مياه نهر الفرات لغسل يديه من دماء الأتراك الأبرياء»، الذين قُتلوا هنا وهناك في عمليات الـ PKK حسب الزعم الرسمي التركي. ولقد بدا واضحاً للأسد الأب ـ كلّ الوضوح في الواقع، وعلى غير عادته في إيثار الغموض وانتهاج التباطؤ حتى تتعفّن السخونة من تلقاء ذاتها ـ أنّ الرسالة لم تكن لعبة دبلوماسية، وأنّ أنقرة لا تمزح هذه المرّة، وأنّ نظامه لا يملك الكثير من الخيارات. الأحرى القول أنه لم يكن يملك أيّ خيار آخر سوى تنفيذ ما يطلبه الأتراك، فانحنى دون إبطاء. وللمفارقة: في مثل هذه الأيام بالذات، ولكن سنة 1998، غادر أوجلان الأراضي السورية واللبنانية إلى غير رجعة، أو بالأحرى غادرها إلى أوديسة طويلة معقدة انتهت به إلى حيث يقيم الآن بالضبط: في المعتقل التركي!
والحال أنّ الأسد الأب انحنى مضطراً، وصاغراً بالمعنى الذي يقفز إلى الذهن عند استذكار التوتر العسكري الشديد آنذاك (بلغ الأمر، كما أشارت التقارير آنذاك، درجة قيام مقاتلات تركية بالتصدّي لطائرتين سوريتين من طراز “ميغ ـ 21” كانتا تقومان بمهامّ استطلاعية من داخل الأراضي السورية). ولقد خسر، بذلك، ورقة أساسية كانت الوحيدة بين يديه في إدارة توازن من أيّ نوع مع الأتراك، أو على الأقلّ في حيازة هامش مناورة كان محتماً أن يحتاج إليه إذا استدعت تطورات المستقبل أن يقايض الأسد أنقرة على أيّ شيء.
الأرجح، في جانب آخر، أنّ سلسلة العوامل التربوية والثقافية الفردية والعائلية التي كوّنت شخصية الأسد الأب كانت تجعله يميل غريزياً إلى الإرتياب في الأتراك، بوصفهم أحفاد العثمانيين في المحصّلة. كذلك كانت تركيا قد ذهبت أبعد ممّا ينبغي في احتكار مياه نهر الفرات، وباشرت سلسلة من السدود التي تهدّد الأمن المائي السوري في الصميم، وهذا خطر ستراتيجي داهم لم يكن في وسع الأسد الأب مجابهته عن طريق أجهزة الأمن أو تشديد قبضة الاستبداد.
لكنّ الأسد الابن، وفي العودة إلى الراهن، ليس في هذا الوارد: لا احتساب الأوراق لأيّ احتياج مستقبلي مع تركيا، ولا الاكتراث باستمرار نضوب مياه الفرات وحال التردّي الفظيعة التي تشهدها صناعة الكهرباء جرّاء مشكلات التخزين وطاقة الاشتغال الهيدروليكي لسدّ الفرات، ولا الارتياب الغريزي في أحفاد الإنكشارية. وأوّل البراهين (الجديدة العتيقة في آن) هي صمت النظام الرسمي عن لواء الإسكندرون (الواقع شمال سورية، ويضمّ مدينتَي أنطاكية على ضفّة نهر العاصي، والإسكندرون على شواطىء المتوسط، وتعادل مساحته مساحة إنكلترا)، والذي كانت سلطات الانتداب الفرنسية قد سلخته عن الوطن السوري، ومنحته هبة خالصة إلى تركيا على دفعتين، في عام 1921 ثمّ 1939.
ولقد شهدنا تكرار فصول هذا الصمت خلال زيارة بشار الأسد الأولى إلى تركيا أواخر العام 2004، حين اختصر سلخ لواء الإسكندرون في هذه العبارة: «إنها مشكلة تحتاج إلى حلّ»! كذلك شهدناه خلال زيارات مختلف المسؤولين الأتراك، وعلى رأسهم رئيس الوزراء رجب طيب أردوغان، حين اكتفى وزير الخارجية السوري، وليد المعلم، بالقول إنّ العلاقات السورية ـ التركية تقتضي «الابتعاد عن القضايا الخلافية» والتركيز على «عوامل التقارب والمصالح المشتركة»! وبالطبع، الحمقى وحدهم هم الذين يمكن أن يطالبوا هذا النظام تحديداً (بطل خسران الجولان، وإعلان سقوط مدينة القنيطرة قبل أكثر من يوم على اقتراب أوّل جندي إسرائيلي واحد من محيطها) بتحرير لواء الإسكندرون. والغلاة، وحدهم، هم الذين قد يطالبون بقطع العلاقات مع تركيا، أو عدم تطويرها، أو شطب تركيا الدولة والشعب والتاريخ، لأنها تحتلّ أرضاً سورية بغير حقّ. ولكنّ الخيانة الوطنية هي وحدها التوصيف اللائق بنظام لا يكتفي بالتزام صمت القبور تجاه التذكير ـ أضعف الإيمان! ـ بالحقّ في أرض الوطن، بل يلجأ عامداً إلى إزالة تلك الأرض من الخرائط الوطنية الرسمية، على نحو لا يمكن أن تكون عاقبته المباشرة أقلّ من اقتلاع اللواء السليب من الذاكرة الوطنية، خصوصاً في وجدان اليافعة. وكيف لإجراء كهذا أن لا يكون تنازلاً خيانياً، وقرباناً على مذبح استرضاء النظام للجارة تركيا، الآن وقد أخذت دوائر علاقات النظام تضيق تدريجياً، يوماً بعد يوم؟
وفي الحساب التكتيكي البسيط، أي ميزان الربح والخسارة، ما الذي يمكن أن يجنيه نظام الأسد الابن من هذا الارتماء الفاضح في الأحضان التركية؟ وهل يمكن لدولة عضو في الحلف الأطلسي، وعلى أرضها (غير بعيد عن الحدود السورية!) واحدة من أضخم القواعد العسكرية الأمريكية، وتجهد ما وسعها الجهد كي تكسب رضا الغرب لقبول عضويتها في الإتحاد الأوروبي، كما تقيم علاقات عسكرية وثيقة رفيعة (حتى إذا كانت العلاقات السياسية أقلّ حرارة هذه الأيام) مع الدولة العبرية… كيف لهذه الدولة أن تضحّي بكلّ هذه الاعتبارات الجيو ـ سياسية الكبرى، كرمى لمصالح النظام السوري؟ وإذا لم تكن هذه حال تركيا، إستناداً إلى أيّ منطق بسيط وإلى كلّ المؤشرات الظاهرة للعيان، فما الذي يرنو إليه بشار الأسد إذاً؟ وسوى اللعب ضمن قواعد سادت ذات يوم، ثمّ بادت وصارت في ذمّة الزمن الضائع، ما الذي يبحث عنه؟
إجابة أولى، تصبّ في الشكل أساساً، سبق أن اتضحت في زيارة الأسد الأولى إلى تركيا أواخر العام 2004، وقال فيها إعلام النظام الكثير، وأطنب في امتداح نجاحها، وأنها بدّلت جوهرياً طبيعة العلاقات السورية ـ التركية، فانتقلت بها من معادلة المواجهة والاحتقان والتوتر إلى الصداقة والتعاون والتكامل. ما اتضح، جوهرياً، كان ابتهاج الأسد الشديد لأنّ الجيران لأتراك اتفقوا معه في أنّ قيام دولة كردية شمال العراق هو بمثابة «خطّ أحمر» لا تسمح أنقرة ودمشق بتجاوزه، وكأنّ هذه هي أمّ مشكلات المنطقة، وعقدة الاستعصاء في تاريخ العلاقات بين دمشق وأنقرة! إجابة ثانية، تصبّ في المحتوى هذه المرّة، تمثّلت في حرص النظام السوري على تنفيذ حصّته من الاتفاق الأمني الثنائي، وبحماس منقطع النظير أو زائد عن الحاجة في الواقع، لأنّ أجهزة الأمن السورية سلّمت إلى الأتراك 22 «مشبوهاً» ـ حسب التعبير السوري الرسمي ـ كانوا يقيمون في سورية. الطريف، الذي يشكّل أيضاً وصمة عار إضافية للأجهزة السورية، هو أنّ السلطات التركية سرعان ما أطلقت سراح هؤلاء المواطنين الأتراك، لعدم وجود أدلة على تورّطهم في أيّ أعمال إرهابية!
وأمّا الإجابة الثالثة، التي توحّد الشكل والمضمون على النحو الجدلي المكين، وتأخذ في الآن ذاته صيغة المفارقة، فقد أتت من المقاتلات الإسرائيلية التي نفّذت الغارة في العمق السوري يوم 6 أيلول (سبتمبر) الماضي، واختارت التحليق فوق الأراضي التركية (بعلم قيادة الأركان العسكرية التركية، على الأرجح) ليس لاستعراض العضلات بالطبع، بل لكي ترمي خزانات الوقود الفارغة في حمى الحليفة الأطلسية، تركيا! هل حالت الإتفاقية الأمنية السورية ـ التركية دون موافقة أركان الجيش التركي على استقبال خزانات الوقود الإسرائيلية؟ وفي صيغة أخرى للسؤال: هل يمكن للجارة تركيا أن تمنع المقاتلات الإسرائيلية من إلقاء المزيد من الخزانات، إذا نفّذت أية غارة جديدة في العمق السوري، حتى بعد زيارة الأسد الثانية إلى أنقرة؟
.. أو حتى بعد استباقه جميع ملوك وسلاطين وأمراء ورؤساء الأنظمة العربية في التهليل لأيّة ضربة عسكرية تركية ضدّ أكراد الـ PKK، في عمق أراضي العراق… الشقيق؟
s.hadidi@libertysurf.fr
* كاتب سوري – باريس
الأسد في تركيا: بحث عن الزمن الضائع؟ والله احترنا معكن بدكن نرجع اللواء ونرجع فلسطين ونرجع الجزر الاماراتيه وندعم استرجاع سبته ومليله اي ماضل غيرنا في الوطن العرباني ………… هل زرت اللواء لااعتقد لقد تم تفريغه من سكانه ولم يبق الا القليل من العائلات التي يتكلم مسنيها فقط اللغه السوريه ….. لو تحالفنا مع تركيا اليس من الافضل ان نقف متفرجين على التامر السعودي الامريكي الاسرائيلي على سوريا بتاييد من بعض الدول العربانيه اما المشكله الكرديه في سوريا فسكان سوريا ادرى بها وانا من شمال سوريا وغالبية الاكراد يتعايشون ويملكون ومنهم الاغوات وملاك الاراضي اتمنى فقط ان تكون مصلحة سوريا… قراءة المزيد ..