كما هي عادته في تسعة أعشار الخطابات التي ألقاها داخل سورية وخارجها، يكشف بشار الأسد في حال الخروج عن النصّ الكثير من الأفكار الأقرب إلى دخيلة نفسه، التي لا تتوفر بالضرورة في النصّ المكتوب، أو هي غير مصاغة على نحو مماثل تماماً للصياغات الإرتجالية كما تأتي على لسانه (بينها، بالطبع ما هو زلات لسان، وبينها ما هو أدهى في الواقع).
وجرياً على هذا المنوال، في خطاب أداء القسم أمام مجلس الشعب لدورة رئاسية ثانية، أفصح الأسد عن جملة أفكار، وأماط اللثام عن جملة أخرى من الحقائق، بينها مثلاً أنه لم يجد الوقت الكافي للتفرّغ للإصلاحات الداخلية (حتى تلك الإدارية والإقتصادية الأثيرة على قلبه، التي كان حتى وقت قريب يردّد أنّ لها عنده الأولوية على الإصلاح السياسي). ولقد قال، مرتجلاً بالطبع (وننقل عن النصّ الرسمي كما نشرته وكالة الأنباء السورية، سانا، بالحرف وبعلامات الوقف ذاتها): ” لم يكن لدينا الوقت حتى لمناقشة أية فكرة لا بالنسبة لقانون الأحزاب ولا لغيرها.. وحتى فى مرحلة من المراحل.. حتى الأولوية كانت الإقتصاد.. لم يكن لدينا الوقت لمتابعة الوضع الإقتصادى.. كنا نخوض معركة مصيرية.. وكان لابد من أن ننجح فى هذه المعركة.. لم يكن هناك خيار أمامنا”.
عرفنا، كذلك، أنّ أياً من أيّ إصلاح لن يرى النور في ما تبقى من هذا العام، رغم أنه يدشن الولاية الثانية: “طبعاً هذا العام أيضا.. عام 2007 .. هو عام مصيرى ..نحن طبعاً فى النصف الثانى وبقى منه بضعة أشهر.. هذا العام وربما أشهر من هذا العام ستحدد مصير ومستقبل المنطقة وربما العالم كله”؛ وهكذا فإنّ الرئاسة ستكون منشغلة بما هو مصيري، والإصلاح استطراداً مسائل هامشية ولا تُصنّف في أيّ مستوى مصيري. بل يلوح، كذلك، أنّ أي توقيت إصلاحي هو رهن بعلم الغيب ما دامت الإصلاحات ـ مجتمعة أو متفرّقة، ذات أولوية أولى أو خامسة أو عاشرة، سيّان…) مرتبطة بمعارك النظام الخارجية في العراق ولبنان وفلسطين وما هو أبعد (حسب الترتيب الرئاسي: “نحن لسنا منعزلين.. ولا نعيش فى جزيرة.. نحن نتأثر بكل ما حولنا.. نتأثر بالعراق ونتأثر بلبنان ونتأثر بفلسطين.. وبأشياء أخرى.. ربما تكون أبعد”).
غير أنّ ما كان أشدّ وضوحاً، وبالتالي أقلّ ديماغوجية، في الارتجالات الرئاسية تمحور حول ملفّين: الأوّل هو التدخلات السياسية الخارجية التي ينخرط النظام فيها بدأب، وبشيء من الأنفة وحسّ الظفر (وليس غريباً، بالتالي، أن تكون هذه موضوع اهتمام مراقبين سوريين عُرف عنهم نقد النظام عموماً، وإنْ بتهذيب وانضباط، وهم اليوم يجرّدون سياساته الخارجية عن بنياتها الداخلية الإستبدادية والعائلية والمافيوزية، وكأنّ معضلة النظام الوحيدة هي تدخلاته الإقليمية البسماركية فقط!). عن هذا الملفّ خرج الأسد على العالم بالمكاشفة التالية، الدراماتيكية للإنصاف: “تسمعون من وقت لآخر بياناً لمجلس الأمن يطلب من سورية عدم التدخل فى قضية ما.. ومن ثم تجتمع مجموعة الدول الثماني لتطلب من سورية عدم التدخل فى قضية أخرى. تفاجأون بأنّ كل المسؤولين الذين زارونا من الغرب مؤخراً كانوا يأتون ليضغطوا علينا لنتدخل.. تماماً عكس ما يحصل.. عكس ما نسمع فى البيان.. فنقول لهم.. غريب.. نحن قررنا أن نلتزم ببياناتكم.. لماذا أنتم لا تلتزمون بها.. نحن قررنا الا نتدخل. هم يضغطون علينا”. ويصعب أن يدفع المرء ضغط السؤال الإستطرادي البسيط: هل يتدخّل النظام هنا وهناك بطلب، إذاً، من المسؤولين الغربيين؟ وهل ما يُعرف بـ “الممانعة السورية” هو ببساطة انقياد النظام إلى ما يُملى عليه، وليس البتة امتناعه أو ممانعته أو حتى تمنّعه؟
الملفّ الثاني هو استئناف المفاوضات السورية ـ الإسرائيلية، ونبش حكاية “وديعة رابين”، وفيها قال الأسد، مرتجلاً دائماً: “المطلوب بالحدّ الأدنى تقديم وديعة على طريقة وديعة رابين أو شىء مكتوب.. لكى نضمن بأنّ الحديث هو ليس حول الأرض التى ستعود.. لأن الارض ستعود كاملة. نحن نفاوض على أمور أخرى.. نحن نحدد هذا الخط.. خط الرابع من حزيران على الخارطة.. يتم النقاش حول موضوع الترتيبات الأمنية.. العلاقات.. كما حصل فى التسعينيات أيام رابين”. وفي الأمر غرابة أولى هي ثقة الأسد المدهشة في أنّ الأرض ستعود على يديه وفي عصر نظامه، ولا يدري أحد سواه بأيّ الوسائل سيجترح هذه المعجزة، وكيف سيفعل وهو عاجز حتى عن إصدار قانون بسيط حول الصحافة، أو حول تنظيم الأحزاب…
الغرابة الثانية هي أنّ الأسد الابن ينبش من ركام متهالك ما كان الأسد الأب قد رحل وفي نفسه حسرة شديدة على فقدانه، مرّة وإلى الأبد في واقع الأمر: وديعة رابين الشهيرة، دون سواها. فما الذي حصل في التسعينيات أيام رابين، ويتحمس له بشار الأسد اليوم؟ مفيد أن نتذكّر هنا أنّ حكاية تلك الوديعة اقترنت منذ البدء بخطأ من نوع ما، ارتكبته الأطراف الثلاثة في آن معاً. رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق اسحق رابين أخطأ حين حمّل وزير الخارجية الأمريكي الأسبق وارن كريستوفر رسالة «غير مدوّنة»، أو «لا ـ رسالة» Non-Letter كما استطاب البعض وصفها، ليست ملزمة للإسرائيليين من الناحية القانونية ولكنها انقلبت إلى «زلّة تفاوض» إسرائيلية تمسّك بها الأسد الأب وحوّلها على الفور إلى وثيقة مدوّنة ملزمة. وكريستوفر أخطأ حين نكث بوعده لرابين (أن يبقي الرسالة في جيبه فقط، وأن يضعها في خلفية التفكير والمناورة ليس أكثر)، فباح بها أو ببعض عناصرها الأخرى (التي لا نعرف عنها الكثير حتى الآن) إلى الأسد، ظانّاً أنه بذلك سوف يساعد في دفع الأمور وخلق الزخم المطلوب لإطلاق المفاوضات. والرئيس السوري أخطأ حين تلكأ في اغتنام الفرصة، ربما لأنّ حساباته كانت تقوده آنذاك إلى اعتماد التريّث بدل الإقبال، ثم عاد لينقضّ عليها، ولكن بعد فوات الأوان.
فإذا جاز الافتراض بأنّ «وديعة رابين» دُفنت مرّة وإلى الأبد، فإنّ القناة السورية ـ الإسرائيلية صارت بعد الدفن أمام خيارات جديدة، كأن ينفض الإسرائيليون الغبار عن خرائط ما قبل عام 1949، فيحاججون بأنّ القوات السورية احتلت بالقوّة أجزاء واسعة من الأراضي الفلسطينية (التي أصبحت فيما بعد «إسرائيلية»!)، واحتفظت بها سورية (تحت “الإحتلال السوري”، كما ذكّرنا المعلّق الإسرائيلي زئيف شيف آنذاك، بصفاقة باردة) حتى العام 1967 حين «حرّرتها» القوّات الإسرائيلية! فإذا كانت سورية تزعم شرعية سيادتها على هذه الأراضي لأنها احتفظت بها طيلة 18 عاماً، فلماذا لا يحقّ للدولة العبرية أن تزعم شرعية السيادة على الأراضي ذاتها التي تواصل الاحتفاظ بها منذ عام 1967؟
كذلك من المفيد أن نسترجع طبيعة ميزان الأرباح والخسائر بين الطرفين، النظام السوري والدولة العبرية، عشية تسليم وديعة رابين، وكما تكشفت لنا بفضيلة الحرّيات التي تتمتّع بها الصحافة الإسرائيلية تحديداً، ولم يجر ايّ تفنيد لها أو نفي أو مراجعة من جانب أهل النظام في دمشق. عرفنا، مثلاً، أنّ جدول أعمال مفاوضات شبردزتاون الشهيرة سار وفق الأولويات الإسرائيلية، وليس السورية: العلاقات السلمية الطبيعية (التطبيعية، في العبارة الرجيمة الأوضح)، الترتيبات الأمنية (ما ستحصل عليه الدولة العبرية من الولايات المتحدة لقاء الإنسحاب من كلّ أو معظم أراضي الجولان)، المياه (تحكّم الإسرائيليين المطلق أو الشراكة التي لا تمسّ التحكّم المطلق، بمنابع نهر بانياس، والضفة الشرقية من نهر الأردن، والضفة الشمالية ـ الشرقية من بحيرة طبرية، والضفة الشمالية من نهر اليرموك)، والحدود الدولية (في إطار الفارق بين حدود الإنتداب التي رُسمت في العام 1923 وحدود 1967 كما رسمتها الحرب. والفارق هذا ليس أكثر من 16 كيلومتراً مربعاً كانت تحت السيادة السورية في عام !)^&، مقابل 50 كيلومتراً مربعاً من المنطقة منزوعة السلاح قضمتها الدولة العبرية على دفعات بعد حرب 1948).
وعرفنا أيضاً أنّ ما طلبته الدولة العبرية لم يكن أقلّ من إحياء الأفكار القديمة ذاتها، حول اتفاقية دفاع مشترك أمريكية ـ إسرائيلية، يفرضها اعتباران استراتيجيان حاسمان:
1 ـ صحيح أنّ الجيش السوري ضعيف ومتدنّي العدّة والتدريب، وأنه لم يعد يشكّل خطراً عسكرياً كبيراً على الدولة العبرية، وأنّ الإنسحاب الإسرائيلي من الجولان لن يقوّي شوكة هذا الجيش في أيّة حال. ولكن من الصحيح أيضاً أنّ الجيش السوري ما يزال يملك صواريخ بعيدة المدى، مؤهلة لحمل رؤوس كيماوية، وأنّ وصول هذه الصواريخ إلى حيفا ويافا وتل أبيب لا علاقة له بالإنسحاب من الجولان. المطلوب، تالياً، الذهاب بالقدرة الردعية الإسرائيلية إلى مداها الأقصى، وإلى النقطة التي يقول فيها رئيس الأركان الإسرائيلي إنه في وضعية تتيح له ضمان أمن الدولة العبرية بالمطلق.
2 ـ صحيح، ثانياً، أنّ الدولة العبرية تحتكر اليوم السلاح النووي في المنطقة، ولكنّ هذا الإحتكار لن يدوم إلى الأبد، والمنطقة مرشحة في العقود القادمة من هذا القرن لامتلاك السلاح النووي (في إيران أوّلاً، وأساساً). ذلك يقلب كامل المعادلة الإستراتيجية، ويحتّم على الولايات المتحدة اتخاذ كلّ (نعم: كلّ!) الإجراءات التي تكفل أمن الدولة العبرية إزاء الأخطار النووية.
وأمّا اللائحة الإسرائيلية لضمان ذلك الأمن، فقد تضمّنت ما يلي: مساعدة أمريكية (عسكرية) طويلة الأمد إلى إسرائيل، ينبغي أن تزداد من 1,29 إلى 2,4 مليار دولار في العام 2010؛ ضمانات أمريكية قصوى حول فعالية أنظمة التفتيش عن الأسلحة المحظورة في الشرق الأوسط (باستثناء الدولة العبرية!)؛ ضمانات لتقديم مساعدات طارئة فورية في حال وقوع أزمة تهدّد الدولة العبرية، على غرار ما جرى في حرب تشرين وحرب الخليج الثانية؛ زيادة التعاون الإستخباري في شؤون «مكافحة الإرهاب»؛ تمكين الدولة العبرية من الإطلاع على التكنولوجيا العسكرية الأمريكية المتقدّمة، بما في ذلك تلك الأسلحة التي لا تقدّمها أمريكا حتّي لحلفائها في الناتو؛ ضمان تدفّق النفط إلى الدولة العبرية في حال وقوع أزمة.
تلك اللائحة لم تكن من نسج الخيال، ولا الوجه الآخر من عملة ألعاب الحواة التي اعتمدها المطبّلون لبراعة المفاوض السوري وقدرته على إلحاق هزيمة نكراء بالمفاوض الإسرائيلي. لقد قدّمها، بالفعل، الجنرال عاموس يارون الأمين العام لوزارة الدفاع الإسرائيلية آنذاك، في اجتماع رسمي مع فرنكلين كرامر مساعد وزير الدفاع الأمريكي لشؤون الأمن الدولي في حينه، على ذمّة صحيفة «هآرتز». فهل هذه هي مغانم “وديعة رابين” التي قد يكون الأسد الابن طامحاً إلى استئناف التفاوض حولها؟
المرء، هنا، يتذكّر عبارة صقيعية كتبها زئيف شيف بعد انهيار قمّة بيل كلينتون ـ حافظ الأسد في جنيف، مطلع 2000 وقبل أشهر قليلة على رحيل الأخير: «لقد بلغنا مفترق طرق: ينبغي أن يكون الأمريكيون أكثر وضوحاً حول هذه المسألة الحساسة [وديعة رابين]، أو أن يقدّموا مخرجاً خلاّقاً يتيح استئناف المفاوضات. وإلاّ فليس أمامنا سوى أن ننتظر وصول خليفة الأسد إلى السلطة»!
وها هو الفتى في السطة!
s.hadidi@libertysurf.fr