هذه الحلقة الثالثة والأخيرة من النص الكامل للمحاضرة التي ألقاها المفكر السوري الدكتور عبد الرزاق عيد في باريس بدعوة من لجنة إعلان دمشق في فرنسا تحت عنوان عوائق الديموقراطية في العالم العربي (سوريا نموذجا) (3)
لقد كان يترافق مع لفظية خطاب البيان اللفظي البلاغي الشعاري والشعائري الذي أشاعه الخطاب البعثي متجاورا ومزاحما ومنافسا للخطاب الناصري، والمؤسس بدوره على لفظية يسارية شعبوية ستالينية (جماهيروية –دهماوية)، نقول: لقد كان يترافق -مع ذلك الخطاب القوموي الشعبوي -انسحاب للخطاب المدني الليبرالي الديموقراطي الدستوري العقلاني الحديث، وذلك بالتوازي مع انسحاب ثقافة دينية قائمة على تدين أخلاقي مشبع بالوجدانية التصوفية والتسامح، ومستندة إلى الوسطية المدينية الدمشقية القاعدة التاريخية لإسلام كوني امتد على مساحة بشرية هائلة للتعدد الديني والثقافي والحضاري لأمم شتى وحضارات شتى، حيث ازدهرت في ظله وفي أنحائه وعلى ضفافه عوالم لثراء الشخصية الفردية وقد اتصلت حضاريا وتثاقفت عقليا ووجدانيا وسلوكيا مع فردانية روحانية تصوفية غدت ثمرة الروح المصفى للحضارة الإسلامية، وذلك قبل أن تصرعها ثقافة الفقه، ومن ثم أن تلقى نكالا لاحقا مع الحركات السلفية (الوهابية- المهدية…)، حيث رغم كل محاولات الإمام محمد عبده لإنقاذ فيض أنوارها، فإن الحركات السلفية بخشونتها الصحراوية أفقرت عالم فيض الداخل لصالح تقشف نصوصي خشبي، فأرادوا أن يقوضوا الطقوس لكنهم جمدوا وأفقروا النصوص، وفي المآل صحّروا النفوس…ّ
وأتت اليقظة التراثية المحدثة لتحيي هذه التقشفية الفقهية الخشنة باسم رفع راية العقل والعقلانية ليتجدد الحديث عن الموروث الثقافي الفقهي الذي صاغته (الأشعرية)، المتزاوجة والمتعاضدة مع الصوفية، لكي يشكل كلا العنصرين (الأشعرية والصوفية) مخزونا نفسيا عربيا إسلاميا استسلاميا حسب توصيفات حسن حنفي، أولا شعورا ثقافيا حسب قراءات الجابري، حيث لن يروا في الضراعة والنشوة الصوفية القائمة على المعنى القرآني عن تلازم (الخفية عن الظاهر والخيفة من الله) سوى مخزونا لثقافة الطاعة والاحتساب والتسليم والاستسلام في انتظار حسن الختام… هذا المخزون القطيعي-حسب الجابري وحنفي- سينتج مصفوفة تأسيسية للفرز والتفاضل تواصلا وتفاصلا مع الآخر، عنوانها (التكفير والولاء والبراء)، تأسيسا على أطروحة “الفرقة الناجية”، حيث الجميع ما عداها في النار، وحيث الآخر لدى الإسلام الولايتي الشيعي هو عدو الله ورسوله الذي يحكم بالقتل يوميا في إيران… وذلك لتحويل الدين إلى دين سلطاني في خدمة حاكم مستبد يقتل ويسجن باسم الله فقهيا، أو باسم الأمة قوميا (بعثيا)، أو باسم الطبقة والفقراء طبقيا (شيوعيا ستالينيا)، أي لتحقيق نقلة كاملة على مستوى جميع تيارات الفكر العربي باتجاه التوحد حول (الشمولية)…
إذن سيبني الفكر العربي بكل تياراته على هذه القاعدة (الفرقة الناجية) منظومته التواصلية: فالآخر وفق الخطاب القوموي: إما استعمار خارجي، أو داخلي مندس خائن، أو جاسوس موهن لنفسية الأمة، مضعف للشعور القومي في خدمة إسرائيل ومشاريع ما وراء البحار…
وفي الخطاب اليساري: فإن الآخر في الخارج: هو عدو طبقي امبريالي، وفي الداخل: خائن طبقي، انتهازي، بورجوازي صغير متردد وعاجز وقلق وساقط على طريق النضال… والمآل هيمنة ثقافة الكراهية وتحطيم الآخر أو رميه في السجن، بل وحتى خوض المجازر الأهلية ضد ابن الوطن والبلد الواحد وتدمير المباني والأحياء فوق أهلها مما لم يفعله الأعداء، في حين أن هذه الجيوش القومية لم تستطع أن تهدم عمارة واحدة خارج حدودها الوطنية، بينما كان على ابن الوطن أن يحتمل التدمير الخارجي (الإسرائيلي) والوطني والقومي الداخلي (من نماذج: غزوة حماة وغزوة تل الزعتر…. ولاحقا ثقافة غزوات الداخل على ذات الغرار: غزوة بيروت….).
وعلى هذا لم يتح للتجربة الديموقراطية الليبرالية العربية زخما تاريخيا ثقافيا يؤهلها لتشكيل مخزون نفسي أو لاشعور ثقافي مضاد، ولذا لم تصمد الديموقرطيات المدنيات الليبراليات الحديثة أمام العسكر والترييف والتطييف، وهكذا كان على منطق المدنية الدستورية الديموقراطية التي ترفض على لسان خالد العظم أن تسمي حتى مدرسة باسمها، وفق موقف خالد العظم الرافض حينها لتسمية مرفأ اللاذقية باسمه بعد أن كان بناء هذا المرفأ ثمرة أفكاره وتوجهاته الاقتصادية وجهوده السياسية والعمرانية والتنموية بل وغادر الرجل الحياة السياسية دون أن يخلف اسمه حتى على زقاق…
لقد كان على هذا المنطق المدني الدستوري الديموقراطي أن ينسحب بتواضع ونبل وترفع وسمو، لصالح الأوباش والحثالات والرعاع الذين راحوا يطلقون أسماءهم (الأسدية) على المدن والطرق والبحيرات والجسور والمكتبات بل حتى على الماء والهواء، لتسمى الأوطان باسم طغاتها ومدمريها ومخربيها الهمج، الذين دمروها ماديا وقانونيا وحقوقيا وسياسيا وثقافيا وروحيا وأخلاقيا مستبدلة (الأسدية بالذئبية) بالمعنى القائل أنك مهما أطعمت الذئب فإنه لا يشبع ويظل يحن إلى الغابة…
وفي المآل الصك الولايتي الإلهي بتغيير اسم البلاد إلى (سوريا الأسد) بفتوى من وكيل ولي الفقيه السيد نصر الله…
هذه الفضاءات –حسب وجهة النظر الثقافية- مضادة حدا وتعريفا لكل ما من شأنه صلة بثقافة الديموقراطية والحداثة وحقوق الإنسان، ومن ثم قيم التسامح والحوار والتعدد والتغاير والاختلاف والاعتراف بالآخر…
وعلى هذا فإن هذه العوامل الثقافية المشار لها سابقا، ربما هي التي ستفسر لنا سهولة تقويض المرحلة الليبرالية عربيا، سيما وأن التجارب الليبرالية العربية تجاورت متحايثة ومتثاقفة تاريخيا مع الآخر الغربي الكولونيالي في مصر وسوريا والعراق، مما سهل –شعبويا: يساريا وقوميا و إسلاميا- على الربط بين الديموقراطية والاستعمار، إذ منذ هذه اللحظة ستتشكل (الغربوفوبيا) كمعادل للإيديولوجيا الشعبويةبشتى تياراتها العلمانية أو الدينية، حيث ستتبدى كل القيم الديموقراطية الحداثية المتصلة بالعقل النقدي والحواري وثقافة حقوق الإنسان وكأنها ثقافة الآخر (الغربي) الاستعماري، ولهذا فإن كل الانقلابات العسكرية ذات الجذور الفلاحية وفي سوريا الرعاعية (الفئات الدنيا من الفلاحين)، عزفت على أوتار (الغربوفوبيا) من أجل اعتبار القيم المدنية والديموقراطية بوصفها قيما استعمارية، وسيأتي الخطاب اليساري الشيوعي (المسفيت) ليدججها بخطاب الكراهية الطبقية، حيث سيسميها بالقيم البورجوازية الإمبرالية، وسيأتي الخطاب الإسلامي التكفيري على أنقاض الإسلام الإصلاحي، ليتوج هذه (الغربوفوبيا ) بثقافة الكراهية الدينية التي تدفع بتوسع موجة (الإسلاموفوبيا) في الغرب، إذ سينقسم العالم إلى فسطاطين: فسطاط الكفر والإيمان وفسطاط الحرب والإسلام، حيث ستستمر هذه الايدولوجيا (الشعبوية) لتوحد الجميع (القومي واليساري والإسلامي) حول كراهية الديموقراطية بوصفها منتوجا غربيا استعماريا…
كما وسيعزز ذلك الهزائم المتوالية المتلاحقة، حيث إبادة المرحلة الليبرالية العربية(والسورية بخاصة في نموذجها خالد العظم)، تحت شبهة التبعية للغرب، لدفع الهزيمة عن الذات المهزومة، فهزيمة حزيران 1967 كانت الهزيمة الأولى للقومية للناصرية والبعثية المغطاة بالمشروعية الايديولوجية للشيوعية السوفياتية، بوصفها قوى تقدمية لم تتمكن إسرائيل والامبريالية الغربية من إسقاطهما، هذا من جهة، ومن جهة أخرى بدأ نهوض الإسلام السياسي على أنقاض هزيمة (القوميين واليساريين) ومن ثم تصفية الليبراليين، بوصفه هو البديل لليسار القومي والشيوعي من جهة واليمين الغربي الرأسمالي الاستعماري من جهة أخرى، فكانت النتيجة توحد الجميع (القومي واليسار والإسلامي) ضد الميراث الليبرالي تحت راية (الغربوفوبيا) التي كان ترجمتها معاداة الليبرالية والديموقراطية استطرادا، وتصفية الميراث الدستوري الديموقراطي المدني لما اصطلحنا على ترميزة بالمرحلة (العظمية: خالد العظم)، وبما يعزز ويعمق استئصال التيار الوطني المدني والمديني التقني والاحترافي في الجيش السوري، الذي كان عليه أن يدخل حرب حزيران بقيادة ضباط (الشعارات) بعد أن هيمن الاحتراف الايديولوجي والعقائدي على حساب تصفية الاحتراف العسكري، من خلال التصفية البعثية ومن ثم الطائفية الريفية للكوادر التقنية العليا التي تكونت في حواضر الغرب وفق المعايير الأوربية لمفهوم الاحتراف التقني الاختصاصي العسكري الوطني البعيد عن الحزبية والتحزب ومن ثم التدخل في الشأن السياسي.
كما أن استعادة الخيار الديموقراطي مع تقوض الأنظمة الشمولية عالميا شابه ما بدا انتصارا أمريكيا فيما سمي بقيام عالم القطب الواحد الأمريكي، وسيرافق ذلك على المستوى العربي بترافق انبعاث الديموقراطية على أنقاض الشمولية عالميا بصورة انتصار النظام العالمي الجديد بقيادة الولايات المتحدة عبر هزيمة النظام العراقي الساحقة وإخراجه من الكويت، بعد أن بدا بطل البوابة الشرقية عبر استحضار مثالات استعادة الناصرية، سيما إثر ما بدا انتصارا على إيران، فألحق برمزية هزيمة القومية الناصرية هزيمة ثانية بصورة الهزيمة (الصدامية) البعثية بعد طرده من الكويت في حرب الخليج الأولى..
ورغم أن الهزيمة الثانية للمنظومة (الصدامية) الشعبوية الشمولية بعد الاحتلال الأمريكي لبغداد، كان ينبغي قراءتها على أنها آخر مثال على استحالة إمكانية انتصار الشموليات على الديموقراطيات، منذ معركة قاديش التي انهزمت فيها الاستبدادية الفارسية أمام الديموقراطية اليونانية وفق قراءات طه حسين لتاريخ صراع الشمولية الواحدية الاستبدادية مع التعددية الديموقراطية، مرورا بالحرب العالمية الثانية وصولا لهزيمة الديكتاتوريات العربية أمام الديموقراطية الإسرائيلية الخاصة، تتويجا بالسقوط السهل للنظام البعثي الفاشي في العراق بعد حرب الخليج الثانية…
فبدلا من هذه القراءة التي توميء إلى استحالة انتصار أنظمة الاستبداد على الأنظمة الديموقراطية، فقد نجحت قراءة النظام السوري القائل: إن بديله هو صورة الخراب العراقي، وأن نظامه الأمني أفضل من فقدان الأمان في العراق، بعد أن كان النظام السوري المقاتل الأول في العراق دفاعا عن نظامه البعثي الطائفي الموازي بنيويا لجاره العراقي، مستندا إلى خبراته الأمنية-وليس العسكرية- في صناعة الإرهاب والمفخخات… مما أعطى درسا موازيا مضادا للدرس الديموقراطي، وهو الدرس الذي سيتغلب فيه خطاب الاستبداد على الخطاب الديموقراطي، حيث تم إظهار الديموقراطية بوصفها عمالة لأمريكا، وقد وقف الإعلام السوري والعربي وقفة رجل واحد في خندق المواجهة ضد (الديموقراطية الإمبريالية)، حيث أظهرت الديموقراطية وكأنها هي المسؤولة عن الطائفية واقتتال الطوائف والحرب الأهلية، وليس النظام الديكتاتوري المقبور الذي أعدم الحياة السياسية فكان المآل بعث الحياة الطائفية بالضرورة.
لقد تم تجاهل وتغييب أن الطائفية التي كانت مكتومة قمعيا، فانفجرت مع انفجار النظام البعثي الصدامي الذي أنتجها تحت مظلة الشعار القومي للبعث، تماما كما يفعل صنوه البعثي السوري في استخدام البعث كأداة تمويه طائفي للواقع الطائفي الذي أنتجه كبديل للواقع السياسي، أي الاستخدام الطائفي للإيديولوجيا الحزبية… إذ أن إلغاء الأحزاب هو دعوة موضوعية لإحياء الطوائف، بل إن قيام الطوائف ليس إلا تعبيرا عن إلغاء الأحزاب بل ونتاجا لها، ولكن كل ذلك يتم من خلال رطانة قومية لم تجد حليفا قوميا لها سوى التشيع الفارسي…
طبعا في هذا السياق عن الشرط الثقافي للممارسة الديموقرطية، يجري التشكيك بالديموقراطية الإجرائية، وبالديموقراطية التوافقية بوصفها نظاما للمحاصصة…بل لا يتردد وريث الطغيان الأسدي (الصغير (الابن) أن يعطي دروسا للبنانيين في كيفية بناء الدولة، ويفترض أن نظامه يمكن أن يكون نموذجا يحتذى من قبل الشعب اللبناني، بوصف النظام اللبناني نظام المحاصصة…. دون أن يرف للشاب الوريث جفن، وهو أن هذه المحاصصة-التي تعترف على الأقل بواقعية التكوينات الأهلية للمجتمع ما قبل المدني الحديث- أنهاها أبوه منذ أربعين سنة لصالح نظام الاستئثار والتسلط والاحتكار الحزبي فالطائفي فالعائلي، وأن الطائفية في لبنان-رغم كل ذلك- يحكمها منطق الحفاظ على التوازن واستحالة استفراد طائفة ما بالسلطة والمال والسلاح والقوة كما يحدث لدى الشقيق السوري وكما يراد له أن يعمم من خلال حزب الله الإيراني، وعلى هذا فإن الديموقراطية الإجرائية تمثل حلما لاستعادة توازنات المجتمع الأهلي على الأقل، وذلك على طريق إنتاج توازنات المجتمع المدني المدمر من أجل إحيائها، فإذا كان نظام الطواريء لا يسمح للإستقطابات أن تقوم على أسس سوسيولوجية طبقية أو سياسية حزبية أو نقابية، بل حتى لا يسمح للجمعيات الثقافية والمهنية، فكيف يكمن أن يكون هناك مسار على طريق الديموقراطية المواطنية الحديثة المؤسسة على الوعي النسبي وكونيته في آن واحد، ومن ثم توازيها الضروري نظريا وممارسة مع ثقافة حقوق الإنسان بوصفها الوسيلة الوحيد اليوم لدخولنا عصر الديموقراطية.
كل ذلك يحتم الإقرار بالمشروعية الكونية والعالمية لطريق مبدأ البسط العالمي للديموقراطية دون عقد المرض بالغرب، ومن ثم السير الشعبوي (السلطوي والمعارض) في طريق الدفع باتجاه تفعيل متضادات المواجهة المرضية (الإسلاموفوبيا والغربوفوبيا)، إذ أن الطريق الوحيد المتاح للتحرر من النزعتين السابقتين بالنسبة للإسلاميين هو طريق الإسلام السياسي التركي الذي يقف على يسار الجميع في موقفه المعافى عقليا وسياسيا من المرض بالغرب، إذ هو داعية الوحدة الأوربية أكثر من العلمانيين أنفسهم الذين يفترض أنهم الأقرب للنموذج الغربي العلماني…
وعلى هذا لا يسعنا في سياق معاورة سؤال عوائق الديموقراطية عربيا (وفق النموذج السوري) سوى العودة إلى المربع الأول، وهو مربع حقيقة أن (السلطة صنم) في عوالم الاستبداد العربي حسب قراءة سمير أمين الرهيفة، بوصف السلطة هي العائق الرئيسي-عربيا- أمام بسط أو بعث أو تفعيل الديموقراطية، سيما إذا أخذنا في عين الاعتبار الملاحظة السوسيولوجية الثاقبة لماكس فيبر: عن تقدم الإيديولوجيا -في مجتمعات ما قبل الحداثة الرأسمالية- على السياسة، ومن ثم تقدم البنية السياسية على البنية الاقتصادية، أي تقدم البناء الفوقي على البناء التحتي، ومن ثم تأثيره الفاعل في البناء التحتي الذي يفترض علميا ومنطقيا وعقليا-مع الحداثة- أن يكون البناء التحتي هو الفاعل والمؤثر في البنى الفوقية بعد قيام الرأسمالية كما هو معروف ومقر حتى لدى فيبر الذي يقر بمصفوفة ماركس عن جدل العلاقة المعروف بين البنيتين، وذلك بالتوازي مع مصفوفة بنية المجتمع الغربي الذي يقوم نظامه الرأسمالي على ما سماه ماركس في الفصل الأول من كتاب (رأس المال)،”السلعة صنم “، وهو ما سيبني عليه نظريته عن الاستلاب الروحي والاغتراب العقلي الفلسفي للفرد في العالم الرأسمالي، وبناء على هذا التأويل سيقوم سمير أمين بتقديم قراءته لواقع السلطة في العالم العربي بوصف (السلطة صنم) مستعيرا هذه الصيغة من ماركس، حيث ستتطابق صيغة السلعة مع صيغة السلطة بوصفها المنتج العربي الوحيد المميز، بل والمنتج السوري الخاص المصدر) بما فيها لـ(تونس) التي يصدر لها ذات الخطاب البعثي المتحدث دائما عن التعرض للتآمر الأجنبي، لكن المستورد التونسي للسلعة (الوثنية السورية) لا يعرف كيف يمكن أن يكون أن يستورد سلعة (جولانية) جيدة للنجاح في المساومة..!
غير أن صنمية السلطة في سوريا ستتميز بتوشحها بظلال غيبية (ميثية) ما بعد واقعية، حيث بنت نموذجا ميثولوجيا للصنمية الأسدية، إذ يتخالط فيها الواقعي والسحري من خلال مثالات النبوة التي تحدث عنها (باتريك سيل) وهي تنتج صورة الطاغية المؤسس (حافظ أسد) الذي راح الإعلام يصعد صورته نحو الأعلى ما فوق البشر، وراح المرتزقة والطامعون ينبشون الذاكرة عن كل إيحاءات الجلالة والصفات الإلهية لإسباغها على صنمه، ولعل جلسة البيعة البرلمانية الاستفتائية للطاغية المؤسس للسلالة (الأسدية) المسجلة تلفزيونيا، ستبقى ذكرى مشهد سيركي لأجيال المستقبل، يرون من خلالها كيف كان بين أجدادهم مسوخ بشرية تتنافس طقسيا بالتعبير عن روح العبودية التأليهية لصنم عسكري جاهل غبي محشو بالقش…حيث سيشاهدون كيف كان على وزير الثقافة الحالي-مثلا- للحصول على وزارته هذه أن يتضرع نشوانا بتهيج ايروتيكي عبر استحضار ميثولوجي لحضرة الذات الأسدية المتوثنة ليضيف لها صفات تفوق الصفات الإلهية ثمنا لـ(تبرلمه ومن ثم توزره) لاحقا…
هذا التأليه للغباء والقماءة والتخلف والعنف والإرهاب والرياء والفساد في مملكة الخوف السورية، ما كان له أن ينتج وفق قانون حركة نفي النفي إلا مجتمعا يهبط إلى قعر الانحطاط على مستوى الدولة والمجتمع سياسة وثقافة وقيما للوصول إلى ثفالة النفايات، أي حركة نفي النفي الذي يغوص باتجاه نفاية النفاية، على المستوى الروحي والوجداني القيمي والأخلاقي للتعيش على (زبل التناقضات) العضوية الأهلية ما قبل المدنية استنادا إلى أطروحتنا سابقا: إن كل تناقض لا ينتج عنه كلية نوعية جديدة، أي إنتاج “الفكرة “، فإنه تناقض لن ينتج عنه سوى كلية عضوية جديدة “الزبلة “، التي هي ثمرة التفاعل العضوي في الأمعاء وليس في الدماغ….!
فإذا كانت تناقضات مسار التاريخ السوري الحديث أفضت في ذروة تراكمات المنتصف الأول للقرن العشرين إلى كلية نوعية يمكن تعيينها نوعيا بصورة (خالد العظم) المجسد الرمزي لفكرة الشرعية “الوطنية الدستورية البرلمانية” التي تعينت بسيرته وممارساته كما أسلفنا، أي بمثابته (الحرية تمتطي حصان سوريا) كما كان نابليون هو (العقل يركب حصانا) حسب هيغل، فإن تراكمات جدل العضوية الغريزية العنفية لـ (الشرعيات الثورية الإنقلابية: الناصرية التي أنتجت نزاهة مع ذلك)، والبعثية التي أنتجت عضويا” زبلا لا فكرا”، فإنها لذلك لم ولن تتمخض سوى عن همجيات شمولية بربرية توجتها الأسدية بمثابتها نتاجا عضويا لـ(زبل التناقضات) التي أخرجت سوريا عن مسار تطورها النوعي مدنيا وديموقراطيا، باتجاه الانحدار العمودي العضوي الدموي المؤسس لنظام القرابة والدم والعشيرة والطائفة، أي بوصفها نفاية نفاياتها (زبل حصان سوريا: الحرية والمدنية والديموقراطية)، أي حصان خالد العظم، مثلما كان نابليون الثالث زبل الحصان الذي حمل عقل نابليون الأول….!!!
mr_glory@hotmail.com
كاتب سوري – فرنسا