«استضعفوك فوصفوك»، تعبير لا ينطبق بالضرورة على المملكة الاردنية الهاشمية، البلد الذي تصوروه حلقة ضعيفة في الإقليم، فإذ بوظيفته الجيوسياسية كحاجز بين إسرائيل وعمق المشرق، وبين العراق وسوريا، وكمتناغم مع مصالح الغرب بالخط العريض، تمنحه مظلة حماية أميركية (كانت انجليزية عند التأسيس) وتُحصّنه بالتالي من مخاطر عواصف الجوار وهشاشة تركيبته الداخلية.
ما بين العرش الهاشمي في الأردن وآل الأسد في سوريا، حكاية متنوعة الفصول والتعرجات، بدأت حينما قصف سلاح الجو الاردني رتل دبابات سورية دخل الأردن تحت عنوان نجدة الفلسطينيين إثر أيلول الأسود في عام 1970، وحينها لم يحرك وزير الدفاع السوري حافظ الأسد طائراته ومهّد ذلك لقيامه بما سُمّي الحركة التصحيحية واستيلائه على السلطة.
وخلال ثلاثة عقود من الزمن كان العاهل الهاشمي الملك حسين والرئيس حافظ الاسد من أركان النظام العربي الرسمي وتراوحت علاقاتهما بين العداء والتنسيق، لكنّ النظام السوري الذي كان يسعى إلى مسك كل الأوراق في سوريا الكبرى من لبنان إلى فلسطين، لم يتمكن يوما من التأثير على القرار الأردني، على رغم مساعيه في تحريك الجبهة الداخلية وبناء شبكة مصالح فيها. أما علاقات الوريثَين الملك عبدالله الثاني والرئيس بشار الاسد فلم تكن أفضل وتميزت بالتعامل الواقعي الممزوج بعدم الثقة.
في وقت لا يزال فيه الكثير من اللاعبين الإقليميين والدوليين ينظرون الى الأردن ككيان قيد الدرس أو مشروع للوطن الفلسطيني البديل، أو جزء من كونفيدرالية مع الفلسطينيين، أخَذ العاهل الهاشمي الحالي يُتقن نهج والده في لعبة السير على الحبال المشدودة في الداخل والخارج.
خلال الحشد الدولي ضدّ العراق عامي 1990 و1991 اختار الملك حسين لمرة واحدة أنّ يخالف رغبات الغرب بصورة حادة، لأنه كان يخشى سقوط العراق وأثّر ذلك على بلده والوزن العربي في المنطقة. وعبدالله الثاني كان أول زعيم عربي يحذر من قيام “القوس الشيعي” أي هلال النفوذ الإيراني من طهران إلى بيروت مروراً ببغداد ودمشق. والمجاهرة بهذا التوجس لم تعجب بالطبع حاكم دمشق. لكن الحاجة المتبادلة والعلاقات المتشابكة فرضت علاقات طبيعية ومقبولة بين الطرفين.
منذ احتدام الوضع في سوريا، بدا الملك الأردني متردّداً في اتخاذ موقف مباشر واعتمد النأي بالنفس على طريقته، إذ إنه اختار فتح حدود بلاده أمام اللاجئين السوريين، لكنه لم يدعم المعارضة المسلحة للنظام كما فعلت تركيا منذ خريف 2011.
بيدَ أنّ تدهور الوضع والتزامات الاردن الدولية دفعته إلى استضافة مناورات “الأسد المتأهب” الأميركية – الأطلسية – العربية في أيار 2012 للتدرب على تنفيذ تدخل عسكري محدود في سوريا في حال الضرورة القصوى وخصوصاً إذا ما استخدم النظام السوري الأسلحة الكيميائية لديه، أو في حال خطر وقوع مخازن الأسلحة الكيماوية او البيولوجية في يد مجموعات مثل “حزب الله” أو “القاعدة”. لكن ذلك لم يعنِ انحيازاً أردنياً للمعارضة السورية وبقيت الخطوات محسوبة على رغم ضخامة حجم ملف اللاجئين وتردي الوضع الاقتصادي.
لكنّ الحذر الإردني التقليدي أخذ يتراجع لأنّ البلاط الهاشمي أخذ يرى في الأزمة السورية التهديد الأكبر للأردن وأمنه ومستقبله، لأن مخاطر الاهتراء والتقسيم وصعود التطرف تصيب الأردن مقتلاً بسبب التداخل الأمني والاجتماعي بين البلدين.
وبناء على هذه القراءة وليس بسبب الدعم الخليجي لوحده، غيّر الملك عبد الله الثاني من موقفه وأخذ يقتنع بإمكان فرض منطقة عازلة على حدوده مع سوريا مما يشكل حلاً جزئياً لمشكلة اللاجئين، وربما يفتح الباب أمام انطلاق قوى توصف بالمعتدلة لكسب المعركة في دمشق بفضل الممر الأردني والإمكانات العسكرية التي ستوضع بتصرفها.
سيُوفّر التموضع الأردني المستجد فرصة أفضل (لإسقاط نظام الأسد) وإقامة نظام معتدل في دمشق عبر قطع الطريق على التنظيمات المرتبطة بـ”القاعدة” مثل “جبهة النصرة” لصالح القوى المسلحة المعتدلة التي يسلحها الغرب والمملكة العربية السعودية.
نتيجة هذا التحول أتى تهديد الرئيس السوري للأردن بالويل والثبور، ولا يمكن الاستخفاف بذلك. وفي هذا الصدد يقول متابع للشؤون الاردنية: “شكّل النظام السوري تهديداً استراتيجياً للوجود الأردني ودعماً لتنظيمات إرهابية وخلايا نائمة بهدف ضرب الاستقرار”. يمكن لهذا النقد أن يكون حادّاً لأنّ عمان كان لها أيضاً أنيابها ولم تقف مكتوفة الأيدي في صراعاتها مع دمشق.
بالفعل، لا يملك الأردن ثروات طبيعية مهمة واقتصاده ضعيف، ولذا فإنّ رأسماله الحقيقي هو الاستقرار الامني وتفاهم مكوناته، وأي خطأ أو أي تدخل يزعزع ذلك سيعرض الأردن الى أخطار عديدة. ومن هنا هبّت واشنطن لإرسال المزيد من الجنود ولا يستبعد إرسال منظومات من صواريخ الباتريوت في إشارة إضافية للتحذير من أي ردّ على الأردن.
تنزلق المملكة الهاشمية في النزاع السوري، وبات من الصعب عليها مراقبة الانهيار عند الجار الكبير بدون السعي إلى تحقيق اختراق او تعديل في ميزان القوى. يصل الامر بالبعض في الاردن للقول إنّ سقوط النظام السوري هو مصلحة استراتيجية أردنية، لأن استمرار المحنة السورية يهدد المشرق بمجمله وقد يطيح بكيان الاردن في حال إعادة تركيب خريطة المنطقة.
khattarwahid@yahoo.fr
جامعي وإعلامي لبناني- باريس
الجمهورية