**
أحد عشر دليلاً على تقرير الإسلام التعددية الدينية
رأينا في القسم الأول من هذا البحث أن إثارة التعصب أو غرس فكرة أن الدين الذي يؤمن به فرد لابد وأنه أفضل الأديان، وإن هذا يعني الإيمان به ورفض غيره، لا يعود في الحقيقة إلى الفرد نفسه، ولا إلى الدين نفسه، وإنما يعود إلى المؤسسة الدينية التي قامت بدور المحامي عن الدين، وطبيعي أن ترى أن دينها هو وحده الحق، وأن غيره هو الباطل، وأنها وحدها التي تمثله وغيرها لا حق له، وضربنا بعض الأمثلة لما قامت به المؤسسة الدينية في اليهودية والمسيحية في هذا الصدد.
فما هو موقف الإسلام؟
إن الإسلام يختلف عن اليهودية والمسيحية في أنه جاء ــ بعدهما ــ وتعين عليه أن يحدد موقف الإسلام منها تحديدًا في القرآن والسُـنة، أي في أصول الإسلام ولم يكن هذا متيسرًا لليهودية أو المسيحية، لأن الإسلام لم يكن قد ظهر بعد، أما موقف العداوة، فهذا ما وقفته المؤسسة الدينية، أما اليهودية والمسيحية نفسها ــ أي الكتب المقدسة ــ فليس فيها نص يعترض على الإسلام الذي لم يكن قد ظهر بعد.
والأمر الثاني الذي يختلف فيه الإسلام عن اليهودية والمسيحية هو أن الإسلام لا يعترف بمؤسسة دينية تقف بين الإنسان وربه ويكون لها سلطة التحليل والتحريم، وتقوم بدور المحامي عن الإسلام، بل إن القرآن ــ كما ذكرنا ــ حمل حملة شعواء على رجال الدين ــ اليهود والمسيحيين ــ وندد بهم واتهمهم بتحريف الكلم عن مواضعه.
وبانتفاء المؤسسة الدينية انتفت الهيئة التي كانت تغرس التفاضل الديني، وأن ديناً معيناً هو وحده المنزل من السماء، وأن غيره أديان مزيفة؟
على أن هذا لم يكن كافيًا، فلم يكن الإسلام يستبعد المؤسسة الدينية إلا لأنه يرى التعددية الدينية، ويقرر التعايش السلمي بينهما ويستبعد فكرة نسخ الإسلام للأديان الأخرى.
ولدينا أحد عشر دليلاً على ذلك، وهي كالآتي:
(1) أن الله تعالى استبعد إيمان الناس جميعًا بالإسلام، واستنكر إكراه الناس على أن يكونوا مؤمنين:
• « وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَنْ فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ * وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ » (يونس: 99ــ 100).
• « وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلاَّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ » (يونس: 118ــ119).
(2) نصت سورة « الكافرون » على أن الكافرين لن يؤمنوا بالإسلام، وأن المؤمنين لن يؤمنوا بالكفر، أي أن الآية أبدت بقاء الكفر والإيمان وأكدت على ذلك بنهاية الآية الأخيرة فيها « لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ ».
وتعبير «الكافرون» الذي يثير غير المسلمين، إنما أريد به الذين لا يعترفون بالإسلام، ولم يكن القرآن ليعدد هؤلاء من مسيحيين أو يهود أو صابئة أو بوذيين.. الخ، فالمسيحيون بالنسبة للمسلمين كفار لأنهم لا يؤمنون بالإسلام، والمسلمون كفار بالنسبة للمسيحيين لأنهم لا يؤمنون بالمسيحية.
إن سورة الكافرون قنّنت وأبدت التعددية الدينية.
وقد يؤكد هذا دعوة القرآن المسيحيين واليهود ليحكموا بكتبهم:
• « وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الإِنجِيلِ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فِيهِ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ » (المائدة: 47).
• « وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمْ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُوْلَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ » (المائدة: 43).
(3) إن الإسلام يؤمن بالرسالات السابقة، وبأنبيائهم، ويصل هذا الإيمان درجة، «لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ » أي من الأنبياء، وهنا لفتة هامة أن الإسلام يؤمن بالأنبياء لأنه يرى أنهم بلغوا رسالة الدين الحقة، ولكن هذه الرسالة تعرضت للتحريف على أيدي المؤسسة الدينية وخلال الترجمات:
• « قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ » (آل عمران: 84).
• « قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ * فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنتُمْ بِهِ فَقَدْ اهْتَدَوا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمْ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ » (البقرة: 136ــ137).
(4) النص على تعدد الشرائع:
• « لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ » (المائدة: 48).
• « وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمْ اللَّهُ جَمِيعاً إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ » (البقرة: 148).
(5) النهي عن التفاضل ما بين الأديان:
• « وَقَالَتْ الْيَهُودُ لَيْسَتْ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتْ النَّصَارَى لَيْسَتْ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ » (البقرة: 113).
• « يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ » (المائدة: 105).
• « وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ » (العنكبوت: 46).
(6) حرية الفكر والاعتقاد:
• « لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنْ الغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدْ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لا انفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ » (البقرة: 256).
• « وَقُلْ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَاراً أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقاً» (الكهف: 29).
ويتبع حرية الاعتقاد أن القرآن ذكر الردة مرارًا ولم يرتب عليها عقوبة دنيوية، كما أن الرسول ارتد في حياته كثيرون فما عاقبهم، إلا إذا اقترنت الردة بقتل وانضمام إلى الأعداء، وما يرتبه الفقهاء، فهو أمر من « المؤسسة الدينية » التي حاول الفقهاء غرسها في الإسلام، وسيأتي الحديث عنها.
كما يجدر الإشارة إلى أن القرآن حرم الرسل من أي سلطة باستثناء مهمة التبليغ، وهي على كل حال ليست سلطة، ولكن رسالة « وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ » (يونس: 41).
gamal_albanna@infinity.com.eg
* القاهرة
الأديان لا ينسخ بعضها بعضًا ولكن يكمل بعضها بعضاً (2)
الى الأستاذ صاحب التعليق الأول:
لا أعتقد أننا في موضع يقبل منا أن نحكم من الذي سيقبل الله منه و من لن يقبل الله منه دينه.
غرض الأستاذ جمال كما فهمته هو كيفية تعاملنا نحن – البشر- مع بعضنا البعض و ليس كيف يقبل منا الله الدين.
قبول الآخر هو الغاية و أرجو أن أكون قد فهمت الرسالة
محمد
الأديان لا ينسخ بعضها بعضًاولكن يكمل بعضها بعضاً (2)السلام عليكم أستاذ جمال …. كل الأدلة التي أوردتها تصب في منحى واحد وهو (حرية الدين والاعتقاد) ولكن هذا لا يعني أن الإسلام لم ينسخ ما قبله من الأديان وأن الله لن يقبل تلك الأديان التي حرفت عن أصلها ، قال تعالى : (ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين ) قد تقول .. إن الإسلام اسم لكل الأديان السماوية ، ولكن أنت قلت في مقالتك ـ من خلال الأدلة ـ أن تلك الأديان لم تعد صافية كما جاءت من عند الله ، وبالتالي : عقلا… قراءة المزيد ..