لكأن شهر ايلول تخصص في خطف انفاس رجال الدين المتنورين، المعتدلين زوراً، والمتطرفين والمنحازين الى قضايا الانسان والقيم الاخلاقية فعلا وقولا ونهج حياة.
اهي صدفة ان يخطف الموت، قبل ثلاثة عقود، وفي شهر ايلول/سبتمبر، “الخوري الاحمر” طانيوس منعم العربي البتروني الشمالي اللبناني اليساري الفلسطيني الانساني نصير السلم والاديب والشاعر واللغوي، وان يخطف شهر ايلول سبتمبر من العام الجاري، العلامة السيد هاني فحص، الجنوبي السيد المقاوم اليساري الفلسطيني، نصير السلام والاديب والشاعر والفقيه، داعية الحوار وثقافة الوصل وقبول الآخر؟
قبل ثلاثة عقود غيّب الموت بعد صراع مع المرض العضال “الخوري الاحمر”، الاب طانيوس منعم من قرية “اجدبرا” البترونية شمال لبنان، واليوم يغيب الموت، بعد صراع مع المرض، السيد المقاوم العلامة هاني فحص، من قرية جبشيت” الجنوبية”.
قدّر لي ان اعرف الرجلين وان ارتبط بصداقتهما، فالخوري “الاحمر” نسيب وقريب بيولوجياً وتتلمذت على يديه فكرياً، والسيد العلامة المقاوم صديق لطالما كانت صداقته مبعث اعتزازي وعلى يديه تتلمذت.
ولمن يعرف او تعّرف الى الرجلين لا يفوته اوجه التشابه الى تصل الى حد التطابق في سيرة رجل الدين المسيحي الذي غرد خارج فضاء المؤسسة الدينية قبل ان يكتشف “الارشاد الرسولي” ان ما قاله الخوري الاحمر سبق فيه بكثير ما نادى به الارشاد، لجهة الدعوة الى إصلاح الكنيسة وجعلها “كنيسة من بشر لا من حجر”، كما كان يردد الاب طانيوس منعم! وسيرة رجل الدين الشيعي العلامة السيد هاني فحص، الذي تشعبت اهتماماته، فغرد هو الآخر خارج الفضاء الديني الشعبوي فكان جسر عبور الى طوائف لبنان كافة وداعية إصلاح ديني لم ينفك يوما عن الدعوة الى إعادة النظر في النص الديني المحرض على “الارهاب” و “ألعنف”. من دون ان يصل الى مرحلة المطالبة بالغاء النص، بل الى القول بتعليق العمل بهذا النص.
ولمن لم يتعرف الى الرجلين، فكلاهما من منشأ ريفي عاصر ثقافة زراعة التبغ، والبطالة المقنّعة التي نشرتها ومرارة العيش في ظل الاحتكارات التي فرضتها “إدارة حصر التبغ والتنباك” من أجل سرقة عرق جبين مزارعي التبغ. فشارك الاب الاحمر طانيوس منعم والعلامة السيد المقاوم هاني فحص، في انتفاضة عمال التبغ من دون ان يلتقيا او يتفقا على المشاركة في تلك الانتفاضة، يدفعهما حس إنساني قروي لبناني، وإحساس بمرارة عيش المزارعين، كيف لا، وكلاهما من منشأ فقر ومن عائلتين عملتا في زراعة التبغ وذاقتا مرارة زراعته.
ولمن لا يعرف الرجلين، فكلاهما، خرج من بيئته باكرا من دون ان يخرج عليها، فكفروهما واهانوهما من دون ان يستطيعوا النيل من استقامتهما. فالخوري طانيوس منعم عوقب كنسياً على انفتاحه على الطوائف الاخرى، بعد مشاركته في تشييع صديقه من طائفة الروم الارثوذكس، ومُنع من ممارسة طقوس القداس الراعوية. وهو ايضا الخوري الذي كان يبدأ قداسه الالهي بعبارة “باسم الله”، بدلا من “باسم الاب والابن والروح والقدس”، وفي يقينه ان الاله الواحد في ثلاثة أقانيم، الآب والابن والروح القدس، هو نفسه الاله الذي يتبعد له المسلمون، فكانت بداية قداسه مشكلة انفتاح دفع ثمنها الكتير.
اما العلامة الشيعي السيد المقاوم لم يفُته ان يصلي “الأبانا” في كنيسة قريتنا في “اجدبرا” أثناء مشاركته في تشييع كل من شقيقي ووالدي، وعلى فراش المرض كما أسّر لي قبل ايام من دخوله في غيبوبته القسرية. وقال لي إنه متصالح مع نفسه ومع دينه، وان صلاة الابانا ليست امتيازاُ مسيحياُ، بل هي انسانية فيها مناجاة للخالق وسؤال.
ولمن لا يعرف الرجلين، فكلاهما برع في بحور اللغة العربية خطابة وقولا وكتابة نثر وشعر، فابدعا في التأليف في مجالات الادب والاجتماع والسياسة والدين.
ولمن لا يعرف الرجلين، فكلاهما انتميا الى اليسار نهج حياة وفكر من دون التزام ضيق بحزب. وكلاهما ناضلا الى جانب اليسار اللبناني، وكلاهما ناضلا في صفوف الثورة الفلسطينية من دون ان يفوتهما انتقاد ما عايشاه من شوائب. فكانا الى جانب قضية الشعب الفلسطيني من دون ان ينغمسا في تجاوزات المسلحين المسلحين الفلسطيين.
ولمن لا يعرف الرجلين، فكلاهما كانا من انصار السلم والسلام وعكسا مواقفهما كتابات ومؤلفات منها، “وعلى الارض السلام” للاب طانيوس منعم وكتابات لا تنتهي للسيد المقاوم.
هل هي صدفة ان يعيش رجلا دين من مشريبن مختلفين مسيحي ماروني، وشيعي، ومن جغرافيا متناقضة شمال لبنان وجنوبه تطابقا فكريا لان منشأهما ريفي ولانهما عاشا عصر زراعة التبغ، ونهوض الافكار القومية والعصر الذهبي للثورة الفلسطينية ولكمال جنبلاط، وياسر عرفات وجورج حاوي؟ فكان كل من الاب منعم والعلامة السيد هاني فحص أصدقاء جنبلاط وحاوي وعرفات وكل من نادى بالسلم ورفع الظلم بكل اشكاله، عن كاهل الفقراء والمقهورين، خصوصا الظلم الديني، ربما لانهما يعرفان ماهية وخطورة هذا الظلم الذي قال فيه السيد هاني، “الظالم الآخر عندما يظلم يكون عنده شك ولو للحظة، اما الذي يظلم تحت ستار الدين، فهو على يقين، واحيانا يشعر انه يمّن على من يظلمه”.
من يعرف سيرة حياة السيد العلامة والاب الاحمر يفهم تماما ماهية لاهوت التحرير الذي اطلقه المطران كاميليو توريس في اميركا اللاتينية حين يؤنسن رجال الدين المتنورين الدين، ليكون في خدمة الانسانية، ولا تكون الانسانية جمعاء في خدمة رجال الدين.