“عائدون”، هذا شعار اصحاب الفضائيات الدينية ومشياخها ودعاتها. فالعلاقة بين السلطة وبينهم متشابكة وتبدو عصية علي الفهم من فرط سهولتها. فالاستغناء عن بعضهم البعض مستحيل بحكم طبيعة الايمان وطبيعة نظام الحكم.
لم يفرض المشايخ تواجدهم بالقوة وبالعسف، لسنوات طويلة، في الاعلام الفضائي المتجاوز للسماوات السبع. إنما السلطة قد فرشت لهم البسط الحمر وربما عزفت لهم الموسيقي وادت ايضا التحية احتراما وتقديرا، بل ودفعت لهم اموالا. خدمت هذه الفضائيات بخطابها التهديدي والوعيدي السلطة بادخال الخوف والرهبة في عقول الناس وتعليمهم عدم الافتئات بشكل عام او النقد بشكل خاص لكل ما يلقي علي اسماع المتلقين. ففي اوقات الراحة من الاجهاد الديني للعقل يمرر السياسي خطابه وقراراته فلا يجد نقدا او اعتراضا اللهم الا من الضالين الخارجين عن طوع المشايخ وحظائر السياسة وما اقلهم رغم كثرة الموعودين بنار جهنم من الضالين والغير منصتين للمشايخ والفقهاء.
تردد السلطات ان المواطن المصري، خاصة والعربي عامة، مواطن صالح. فمواصفات الصلاح عندها ان يكون الفرد مسلوب الارادة، يطيع ولا يعترض، يبرر ولا يفهم، ينفذ ولا يناقش. وإذا سأل فمن أجل معرفه معروفة مسبقا. وهذا اول لغز سهل حله بين السلطة واهل الفضائيات. فالمواطن بفضل الفضائيات الدينية اصبح لحوحا ويطلب الفتوي ليل نهار وفي مستصغر الامور.أصبح المواطن من صناعة المشايخ وليس من تربية السطة السياسية. فالسلطة افقر من ان ترعي مواطنا طالحا. فهل هناك اعظم من الاخضاع الديني عبر المشايخ من اجل صلاحه هذا!!! إنه امر تحتاجة السلطة حاليا بالحاح لأن حجم الفساد والترهل في الاداء للحياة المصرية سيدفع اي مواطن صالح او طالح للانفلات والغضب وليس فقط للسؤال. فمن لا يسال يظل غبيا ابد الدهر. لهذا فان جميع الاسئلة يجب ان تظل حول المعروف من الدين او السياسة بالضرروة، والا تحول الموطن الطالح محليا الي مواطن صالح عالميا. وهو خطر علي الدين والسلطة معا. انه فرط السهولة التي يصعب اكتشافها.
احتاجت الدولة هذا الكم الغث من الفضائيات الدينية لانتاج مواطن بمواصفاتها القياسية للصلاح. لكن ….
عندما آوى السادات نمرا لترويض الشارع السياسي، قتله النمر ثم التهم عقول المطلوب ترويضهم. وتأوي السلطة الحالية حيات وثعابين في فضائياتها التي صرحت بها وأعطتها حق البث من قمر دفع المصريون جميعا ثمنه. لم يستطع السادات ترويض أحد الثدييات من أكلة لحوم البشر، وهو ارقي من الثعابين والحيات في المملكة البيولوجية، التي تنتهي بالإنسان كأرقى مستوياتها. فهل من الممكن ترويض الزواحف؟
بثت الفضائيات الدينية الكراهية الزعاف وروح العنف عبر خطاب ناعم وأملس كجلد الثعبان ومن أناس لا ينتمون الى مصر حضاريا حتى ولو بدا زيهم أزهريا في نادر الأحيان. نقلوا من مجتمعات أخرى كل ما يفتت وحدة الوطن من خارجة الي الداخل وخلقوا جيشا هو وقودا لفتن دينية. وأصبح المواطن عدو نفسه وعدو وطنه وعقله وتاريخه. ببساطة أصبح المواطن صاحب سوابق وينتظر فقط لحظة الضبط والقبض عليه. وهذا هو أصلح مواطن من وجه نظر السلطة. فحيثيات الضبط والإحضار والمحاكمة والحكم عليه بالإدانة مضمونة بسبب مشايخ نناديهم بفضيلة فلان وفضيلة علان. قدم المشايخ والدعاة المواطن جثة عقلية للسلطة وإما متهما بارتكاب الجريمة. كلاهما لا موضع لهم إلا بالاحتجاز في مقبرة أو الاستبعاد في مصحة. فهل تحلم السلطة صاحبة التوكيل الوحيد لتوليها بأفضل من هؤلاء الرجال العظام وأقمارها الفضائية. لم تكن الفضائيات التي أغلقت تبث شيئا جديدا أو ذو قيمة إلا بزرع فكر ديني علي نمط غير وطني و منتهي الصلاحية أو علي الأقل فان حقوق النشر والاستخدام أصبحت مجانية لقدمها بأكثر من 1400 عام. الم تتفق هنا ايضا أهداف الفضائيات وأهداف السلطة؟
الجثة العقلية سهل التعامل معها. فالدفن هو الحل. أما إذا مارس المواطن العدوان بدلا من مواطن فاضل وعاقل وصالح حسب المواصفات العالمية، وهو أمر يبدو مضاد للسياسة العربية فلا يبقي إلا الضبط والإحضار. فلماذا أغلقتها إذن؟
فلنتذكر أن السلطة أغلقت منذ عدة اشهر إحداها “الرحمة” عندما اعترضت إسرائيل وفرنسا علي فحوي ما يقوله شيخ الدعاة الجدد بها. عادت “الرحمة” علي نفس القمر وبتردد آخر، مؤدبة ومسالمة ضد الخارج لكن أكثر شراسة ضد الداخل لتعويض خسائرها. فبدا الأمر واضحا. فضح المشايخ السلطة والعقد المبرم بينهم. بان السلطة باتت تراعي الخارج بأكثر مما تراعي مواطنها. وان الدعاة يخافوا ولا يختشوش حسب المثل المصري الشهير. أليسوا صالحين طبقا لمواصفاتها !!!!!!!!!! واكتشف الناس أن الدولة تحرص علي خاطر الأوروبيين والإسرائيليين بأكثر مما تحرص علي تنوير وحماية عقل مواطنها الصالح طبقا لمواصفات الدعاة والمشايخ والسلطة أيضا. وفي نفس الوقت ازدادت شراسة الدعاة الفضلاء ضد الرعية. فلا مانع طالما الأمر لا يصب لصالح عقل المواطن الرشيد.
لهذا فإن مذبحة الفضائيات الأخيرة تبدو امرأ شاذا، طبقا لما سبق بيانه. فلماذا نبحث عن الأسباب ونحلل السلوكيات؟ انه ظرف مؤقت تمر به السلطة ووعكة يمر بها الشارع؟ ظرف السلطة هو تمديد او تجديد عضوية من يملك السلطة تشريعيا وتنفيذيا. وهو أمر لا يحتاج الا مثل هذه الفضائيات. اما الشارع فالفتن الطائفية والتظاهرات السياسية تملا جنباته. من البرادعي الي المطالبة بتسليم نساء يدعي اسلامهن واصبحن من حرائر الفضائيات. اصبح الشارع ساخنا وهو امر غير محمود نتائجة علي الانتخابات.
لهذين السببين تم المنع مؤقتا حتي يخرج النظام من وعكته ويقوم بغسيل الكلي السياسي. وفي نفس الوقت يمنع الشارع من الانفلات برادعيا او دينيا. فالمطلوب من المواطن الصالح الطاعة وليس العصيان. فلم يبق سوي ايام قليلة علي الانتخابات فرصيد الطاعة والخضوع الذي وفرته الفضائيات يكفي بالكاد حتي تمر تلك الايام القلائل الباقية. لهذا جاء القرار سريعا قبل موعد الواقعة بقليل و ازوف الازفة التي ليس لوقعها كاشفة. مع انحسار الغمة وبدعوات الدعاة ومشايخ الفضائيات سوف تعود الفضائيات كما عادت الرحمة. فمنذ متي استغنت السلطة عن الدين لدعمها؟
الم نبدا المقال بشعار عائدون، ولا تتعجبوا ايها المغفلون. يقول الدعاة والمشايخ سنعود علي اسنة رماح السلطة. فلا استغناء لها عنا طالما هي لا تستطيع التخلص منكم.
لا شفاها الله منها وشفانا نحن منها ومنهم.
elbadry1944@gmail.com
* كاتب مصري