تمهيد: يجدر التذكير أن إيران ما كان لها أن تتسلل إلى العالم العربي كي تعيث به فساداً لولا تخاذل الأنظمة العربية، وفشلها في التنمية، وتغطية الاستبداد والفساد؛ ولولا اضطهادها للأقليات كافة، سواء الدينية منها أو العرقية، وخصوصاً الشيعة العرب الذين اضطهدوا في بلدانهم ، ولم يتم الاعتراف بهم كمواطنين متساوين في الحقوق كما في الواجبات. كما يتحمل العرب مسؤولية خراب العراق، لتخليهم عنه وعدم وقوفهم في وجه التخريب الأميركي مصحباً معه الإيرانيين ومن خلفهم إسرائيل.
والآن، لا يمكن أن ينجح الدفاع عن الأمن القومي العربي في التصدي للتدخل الخارجي، وخصوصاً الإيراني، اذا لم يترافق في الوقت ذاته مع عملية إصلاح جذري تنموي والاعتراف بحقوق جميع المواطنين من مختلف الاديان والأعراق، من دون تلكؤ، من أجل حماية الأمن الوطني الداخلي.
حول دور الدين والعلاقة بالآخر
لنتفق منذ البداية أن الأمر لا يتعلق بالدين، بل بالبشر وسياساتهم في كل ما له صلة بالممارسات التي تعلق على مشجب الأديان. هذا من دون التقليل من أهمية النقد، وضرورة مراجعة التأويلات والأدبيات المتطرفة السائدة للدين، عبر حركة إصلاح ديني صارت أكثر من ضرورية.
فالتطرف (ومثله الاعتدال بالإذن من ياسين الحاج صالح) هو توصيف لعلاقة بين الناس، تقوم على الاستبعاد أو التقارب، وينعكس على صوغ العلاقة بين الأطراف باستنادهم إلى العقائد، لإضفاء الشرعية على موقفهم الذي يلغي أطرافا أخرى.
فحتى الإمام علي نفسه كان يعتبر القرآن «حمّال أوجه». فكل حزب يستطيع أن يجد في القرآن ما يؤيد رأيه. ومن هذا المنطلق لا يمكن للنصوص مهما كانت، أن نحمّلها المسؤولية عن العلاقة بالآخر، أو عن العنف والإرهاب الممارسَيْن باسم الدين.هذا من دون أن نغفل عن ان الارهاب والعنف باسم الدين طالما مارسته الجماعات المأزومة، أو التي تملك مشروعاً سياسياً ترغب بفرضه. ولا يغيب عن بالنا أنّه تمّ اضطهاد أعداد من النساء والرجال أو استعبادهم أو قتلهم ببساطة باسم المسيح على مرّ القرون. تماماً كما يفعل إرهابيو اللحظة الراهنة وعلى أنواعهم باسم الإسلام. سواء إرهاب الحركات الأصولية أو الإرهاب الملتحف بلحاف «شرعيات» سواء دولة ما أو حكومة.
والأرجح أن الأمور تتم كالتالي: عند حصول تغيرات كبرى بسبب الحروب أو تبدل الدول أو السلالات تتغير خريطة الولاء الديني، بما يتماشى مع انتماء السلطة الحاكمة. فتحصل حركتان في الوقت ذاته، حركة تغيير أماكن الانتشار وحركة تغيير الولاء. وبين هاتين الحركتين تحصل إعادة توزيع للانتشار الديني والمذهبي الجيوسياسي.
الصراع السني ـ الشيعي
الإمام علي الأب الروحي للتشيع، المكانة الخاصة
لم تختلف أمة في رجل بمثل ما اختلفت في علي بن ابي طالب. آمن الكثير من المسلمين بألوهية الإمام علي مع أن أحداً لم يقل بألوهية محمد. كما أن التاريخ الإسلامي لم يشهد رجلاً تفرقت الجماعة، من أجله، مثله.
علي الوردي: من يدرس تاريخ العلويين (بمعنى شيعة علي) يجدهم ثوارا من طراز عجيب. ولم يمر في تاريخ الإسلام جيل، من دون ان يسمع الناس بخبر ثورة جامحة قام بها رجل من العلويين أو من ينتسب اليهم.
ويبدو أن علياً كان لا يهتم بطقوس الدين بقدر اهتمامه بالعدل الاجتماعي، فهو كان يدعو إلى مبدأ المساواة والعدالة الاجتماعية بين الناس جميعاً، لا فرق بين شريف ومشروف، أو بين عربي ومولى. ولما أخذ يطبق هذا المبدأ في العرب كرهوه.
قُتل علي في المسجد غيلة. يقال أن علياً هتف عندما أحس بلذع السيف في رأسه وقال: «فزت ورب الكعبة». وهذه الجملة تشير إلى مدى الألم النفسي الذي كان علي يشعر به في أواخر أيامه.
ملّ علي الناس وملّوه، وملأوا قلبه قيحاً – كما كان يقول. فجاءت ضربة ابن ملجم على رأسه بمثابة الانقاذ.
أخفق علي في ميدان السياسة، ونجح في ميدان آخر هو ميدان الثورة الاجتماعية، التي لا يخمد لها أوار.
الصراع قبلي بامتياز
تعود أصول الصراع بين المذهبين السني والشيعي إلى الخلاف على خلافة الرسول. فهو صراع سياسي بامتياز يدور حول السلطة. ولنقل باختصار، ان الشيعة بمجملهم يعتقدون ان الخلافة كان يجب ان تؤول إلى علي، ابن عم الرسول وصهره، زوج ابنته فاطمة. أي انهم كانوا يميلون إلى إرساء شرعية سلالية، معتبرين ان الخلفاء يجب ان يُختاروا من عائلة النبي. وبالعكس، نجد أن أهل السنّة يؤمنون بأن النبي لم يوصِ ِ لأحد بالخلافة بل تركها شورى يختار الناس لها ما يشاؤون.
جاء عباس العقاد برأي حاول عبره أن يتوسط بين عقيدة الشيعة وعقيدة أهل السنّة في قضية الخلافة. فهو يعتقد ان النبي كان يحب عليا ويحببه إلى الناس لكي يمهد له سبل الخلافة من بعده. والنبي برأي العقاد لم يرد ان يفرض رغبته هذه على الناس، إنما أراد أن يختاره الناس طواعية وحباً.
لكن هذا الرأي لا يرضي الطرفين.
إن رجال الدين من الشيعة والسنة يتنازعون على أساس قبلي كما يتنازع البدو في الصحراء. فكل فريق ينظر إلى مساوئ خصمه ويرفضه، وكل حزب بما لديهم فرحون. قد يستغرب القارئ اذا علم بان كلتا الطائفتين كانتا في أول الأمر من حزب واحد، وان الذين فرقوا بينهم هم السلاطين ووعاظ السلاطين.
في عهد الدولة الأموية كان الشيعة وأهل السنة يؤلفون حزب الثورة. إذ كان الشيعة يثورون على الدولة بسيوفهم، بينما أهل السنة يثورون عليهم بأحاديثهم النبوية- هؤلاء كانوا ينهون عن المنكر بألسنتهم، وأولئك كانوا ينهون عنه بأيديهم.
ومما تجدر الإشارة إليه أن مصطلح «أهل السنة والجماعة» لم يظهر في التاريخ إلا أيام المتوكل في العصر العباسي. وكانوا قبل ذلك يدعون «أهل الحديث». و»الحديث» و»السنة» لفظتان مترادفتان من بعض الوجوه.
ومن يدرس سيرة أهل الحديث أثناء الحكم الأموي يجدهم كانوا على عداء مستحكم ضد الحكم الطاغي (فلهاوزن)… أيد أهل الحديث الدولة فترة قصيرة، سنتان، أثناء حكم عمر عبد العزيز، الذي لم يكن أموياً بل راشديا متأثرا بسيرة جده من أمه….
اننا لا نبعد عن الصواب إذا قلنا بأن أهل الحديث لم يكونوا أقل من الشيعة عداء للأمويين ومعارضة لهم. انما كانوا يختلفون عن الشيعة بشيء واحد: هو أنهم لجأوا إلى سلاح الحديث يجمعونه ويصقلونه ليحاربوا الظلم والترف والطغيان، الذي كان سائداً في ذلك العهد.
إيران قبل الثورة، مسيرة الاستحواذ على التشيع
الصفويون والتشيع
ظل الفرس يحملون راية التسنن في الإسلام حتى ظهر الصفويون، وقد استخدموا شتى الوسائل لإكراه الفرس على دخول مذهب التشيع. ولجأوا إلى الاضطهاد والقتل والتعذيب في هذا السبيل. المفارقة أن شعارهم في ذلك كان :»يا عليّ!».
ويشبه هذا الاضطهاد المذهبي الذي قام به الصفويون في إيران ما قام به الايوبيون قبل ذلك في مصر من اضطهاد للتشيع، اثر قضائهم على دولة الفاطميين هنالك.
افتراضات متعددة حاولت شرح تشيع الصفويين الذين كانوا قديما من البدو الشيعة الذين اضطهدتهم الامبراطورية العثمانية، حاولوا أن يوجدوا سلطة موازية للسنة المسيطرين على العالم الإسلامي في تلك المرحلة.
لكن فرضه بالقوة على المجتمع الفارسي في تلك الفترة كان بداية تحول دمج الشيعة الاثني عشرية بالإيرانية، أي الهوية الألفية لدولة متعددة الأعراق. .. ولم يصبح التماثل بين الشيعة والإيرانية واقعا الا مع السلالة القاجارية في أواخر القرن الثامن عشر، لتدوم حتى العام 1924. يشهد على ذلك الوضع المتقلقل للشيعة في القرن الثامن عشر، عندما حاول الشاه نادر أن يعيد إرساء المذهب السني في إيران على أثر التهديدات التي جابهه بها الأفغان، لكن مقاومة رجال الدين الشيعة أحبطت هذه المحاولة. من هنا يمكن الحديث عن اهتداء ثان إلى الشيعية: الأول كان عن طريق السلطة السياسية، أما الثاني فكان من فعل رجال الدين.
وهكذا فإن سلطة مضادة – من رجال الدين – بدأت تتركز في البلاد، وهي سلطة قوية بمقدار ما هي مستقلة مادياً.
عندما صار التشيع في عهد الصفويين مذهبا قوميا في إيران، اصطبغ من جراء ذلك بصبغة الغرور القومي وأمسى عقيدة سلطانية خامدة – لا تختلف – عن أي عقيدة أخرى من عقائد السلاطين. و النزاع الطائفي بين الشيعة والسنة لم يتخذ شكلاً صارخاً إلا أثناء التنافس بين العثمانيين والصفويين على العراق.
كان للصفويين دور كبير في تاريخ التشيع. وقد يصح القول – كما يرى علي الوردي – هنا بأن الصفويين خدّروا مذهب التشيّع وروّضوه. فأزالوا عنه النزعة الثورية، التي كانت لاصقة به في العهود السابقة، وجعلوه مذهباً رسمياً لا يختلف عن غيره من المذاهب الدينية الأخرى.
وبهذا دخل التشيع في طاحونة السلاطين، فاختفت منه تلك الروح الوثابة، التي بعثها فيه علي وأولاده على توالي الأجيال.
كان علي بن أبي طالب أنشودة الثورة في تاريخ الإسلام كله، لكنه أصبح على يد الصفويين، ألعوبة تمثّل في المسارح.
شتان ما بين ممارسة التشيع على أيدي الإيرانيين وما بين الشعار القديم الذي اتخذه زيد بن علي وأبو حنيفة، أي شعار الثورة على الظلم في شتى صوره… تحولت ممارسة التشيع من قبل الدولة – الدينية الإيرانية إلى ممارسة للظلم والطغيان والاحتلال والوقوف إلى جانب المعتدي. وهنا لا فرق بين الظالم الشيعي أو الظالم السني.
إن هدف الدين هو العدل الاجتماعي. فكيف لمن يزعم انتماءه إلى مذهب علي أن يمارس الظلم والطغيان؟
من هنا بروز علي شريعتي قبل الثورة وتمييزه بين شيعيتين: شيعة الدولة الصفوية – مع رجال دين فاسدين وغير نافعين – وشيعة علي، صهر النبي، حيث يتجسد الصراع من أجل العدالة والحقيقة. لكن بقيت الثورة على مسافة من علي شريعتي الذي توفي قبل انتصارها. والآن صارت أكثر ابتعاداً عنه.
دور خاص لرجال الدين يسميهم البعض اكليروس
ابتداء من المرحلة القاجارية بدأ رجال الدين يتمتعون باستقلالية تامة عن الدولة، وأخذت هبات الشيعة وإرثهم تذهب إلى رجال الدين من دون المرور بالدولة. وهكذا نال رجال الدين في القرن التاسع عشر حظوة فائقة، لأن هذه الأموال والأوقاف كانت توزع على المحرومين وتستعمل لإنشاء المدارس القرآنية…. ومع هيكلة الهيئة الدينية وتأطيرها وتحديد مسؤولياتها ودورها في العمل الاجتماعي، وجدت نفسها في موقع قوة؛ وشكلت إكليروس منظم وقوي ومستقل.
لم يشكل رجال الدين طيلة تلك المرحلة سلطة سياسية مضادة، لكن امتيازاتهم الاجتماعية لم تمس، واستقلاليتهم المالية – وهي القاعدة الحقيقية في مواجهة دولة آل بهلوي العصرية- بقيت قائمة. اما سياسة التحديث التي اتبعها الشاه محمد رضا فكانت تزيد من الظلم الاجتماعي. وللجم الاستياء منها كان القمع يطال مختلف طبقات المجتمع، بمزيد من القسوة شملت رجال الدين المعارضين الذين كانوا ينفون إلى الخارج – وبخاصة الخميني الذي وجد ملجأ في العراق. وقامت الثورة كما نعلم، وللمرة الأولى في التاريخ أصبحت الشيعية في إيران دين دولة. كان رجال الدين الشيعة، الواثقين من سلطتهم وأهمية رسالتهم، سيستولون على دولة مهمة ويحكمون مجتمعا أكثريته شيعية. وهذا لم يحصل أبداً في الماضي. وهو الحدث الأهم في تاريخ الشيعة وفي الصحوة الشيعية.
بعد الثورة: ازدواجية السياسة
منذ 1979 تتبع إيران، كقوة اقليمية، سياسة خاصة. فعلى الصعيد الإقليمي تندرج سياستها الخارجية في استمرارية السياسة التقليدية الإيرانية، اي المحافظة على النفوذ وتدارك أي تهديد من جانب منافسيها التقليديين: روسيا وتركيا والعربية السعودية وباكستان. فديبلوماسيتها حذرة تضعها في خدمة بلد فريد ومعزول، وهذا ما يفسر الاحتراس الذي يبقى هدفه الأول الأمن الداخلي والخارجي للبلاد، والاستقرار على حدودها، لأن إيران تقوم على نواة شيعية يحيط بها طوق من الأقليات الوطنية غير الشيعية وذات ميول انفصالية غير معلنة صراحة، قد تشكل نقاطاً واهية ومناطق اختراق لأعداء محتملين. (وحراك الأحوازيين العرب الشيعة في إيران دليل على ذلك).
نقطة الارتكاز الثانية تبدو معكوسة، فإيران تطمح لأن تؤدي دور قائد عالمي للثورة الإسلامية، باسم «الجامعة الشيعية» التي تهدف لا إلى التنسيق بين الطوائف الشيعية، بعد الاستحواذ عليها، وحدها بل إلى إرساء إسلام شيعي شامل هدفه أسلمة العالم. لا شك في أن هنالك صلة أكيدة بين نقطتي الإرتكاز هاتين: «الجامعة الشيعية» تعزز مواقع الدولة الإيرانية كعامل اقليمي، ووجود ملاذ للشيعة الاثني عشرية يقوي الرابطة الشيعية، ويشجع من دون شك إرادة هداية العالم الإسلامي إلى الشيعية، أو بالأحرى تعزيز موقعها العالمي كما تشهد التطورات.
ونجدها هنا كالاتحاد السوفياتي في مرحلة «الاشتراكية في بلد واحد». هذه المقارنة بالاتحاد السوفياتي لا تعني المحتوى الأيديولوجي، بل وجود قطاع مزدوج من الحوافز في الحالين، أحدهما سياسي، سلطوي، والآخر أيديولوجي. من هنا سياسة المزج والفصل في وسائل العمل، في آن واحد. فلا فرق بين دولة دينية ودولة ذات أيديولوجية.
فديبلوماسية الدولة تجهل أو تتجاهل وسائل التخريب والارهاب التي قد تضطر أجهزة المخابرات الإيرانية خصوصاً لاعتمادها خدمة لأهدافها في الشرق الأوسط، في أوروبا أو في أجزاء أخرى من العالم. وفي الوقت نفسه يندمج الجهازان على مستوى القرار. أما ما يمكن تعديله، فالتوقيت ودرجة التواتر في هذا القطاع أو ذاك.
هنا نعود إلى الاتحاد السوفياتي، حيث لم يكن فيه الا سلطة واحدة مسؤولة هي الحزب، الذي كان قادرا على اقامة علاقات ديبلوماسية سليمة بأسوأ أعداء الشيوعية (هذا ما تجهد إيران في إرسائه مؤخراً)، كما كان في وسعه أن يقوم بالتجسس والتخريب وإنشاء خلايا لهذه الغاية في البلدان الرأسمالية. وفي إيران يبدو الوضع مشابها مع تعقيد اضافي كون المرجع ليس حزباً بل رجل دين مقدس ويُعدّ ظل الله على الأرض. رسميا هناك إدارة واحدة رسمية برعاية روحاني المنتخب «بديموقراطية»؟، لكنها تأتمر بأمر السلطة المطلقة للولي الفقيه. هذا التقسيم يجعلها قادرة على أن تقيم، بواسطة الدولة، شبكة علاقات ديبلوماسية مع أكثرية بلدان العالم، لكن ديبلوماسييها لن يترددوا في حث الأقليات الشيعية، حيث وجدت، على القيام بأي عمل تخريبي. فإيران لا تتصرف كدولة، بل كدولة وكحزب في آن معاً، وكمرجعية مقدسة من الملزم الخضوع المطلق لها.
وكالاتحاد السوفياتي الذي اتبع خلال 70 عاماً من عمره، سياسة يدفعها محرك بثلاث سرعات:
الأولى تقضي باعتماد الوسائل الدبلوماسية التقليدية، باعتبار أن الإتحاد كما يعرّف نفسه، هو في خدمة الثورة العالمية، وهذا حتى بعد التراجع الستاليني عن «الاشتراكية في بلد واحد». (مباحثاتها حول النووي مع 5+1).
السرعة الثانية تعمل على تشجيع قيام نظام حكم شيوعي كلما كان ذلك ممكنا، أو الانقلابات بواسطة الأجهزة العسكرية والديبلوماسية. (فإيران تطالب علناً بتصدير ثورتها- بواسطة التخريب، والمال السياسي وتشجع المعارضات الشيعية: لبنان، البحرين، اليمن وسوريا وضع خاص)
اما السرعة الثالثة ففي تحصيل فوائد الانتصار في البلد المعني لتقوية الدولة ونظامها وهيمنتها، إذا لم نقل محاولتها الاستعمارية. (استخدامها لهذا النفوذ كأوراق ضغط ومساومة مع الغرب).
هذا المنهج، المتبع ضمن «دائرة جدلية» يتنوع بتنوع اهمية الاوضاع واولويتها بحسب المراحل. يظهر ان دولة مؤسسة على الأيديولوجيا، علمانية كانت أو دينية، لا تقود سياستها الخارجية كسائر الدول. فالأيديولوجيا – والدين في حالة إيران- هي دائما حاضرة كسبب أو كنتيجة، كهدف أو كحجة.
ومنذ العام 1979 عززت إيران في البداية الخريطة الشيعية مقابل الخريطة عبر – الإيرانية ، لأنها تفضل الاعتماد على الطوائف الشيعية غير الإيرانية – الهزارة في أفغانستان والشيعة في جنوب لبنان والعلويين في سوريا والحوثيين في اليمن – أكثر منها على جماعات إيرانية عرقياً – كالأكراد والطاجيك. هذه الجامعة الشيعية، كغاية ووسيلة للدبلوماسية الإيرانية، هي في الوقت عينه تعبير أساسي عن الحركة الثوروية التي تسعى إيران آيات الله لتعميمها على مجمل أرض الإسلام.
وعلى غرار الاتحاد السوفياتي الذي كان في امكانه الاعتماد على دعم الأحزاب الشيوعية في مختلف مناطق العالم، فان إيران أوجدت لها جماعات شيعية تدعمها تحت مسميات عدة، ركيزتها الأولى التي نجحت «حزب الله«. ومن ثم تكاثرت الأحزاب اللهية والأنصار وأنواع الحشود وغيرهم…
إن تعقيدات نقطة الارتكاز الأيديولوجية هذه كبيرة. فمع أن المذهب الشيعي لا يركن إلى مفهوم الأمة التي تحمل خطر تقسيم الإسلام، والمفكرون المسلمون الشيعة حذّروا دائما من الواقع الوطني أو المدني. لكن المفارقة، ونقطة الضعف هنا، أن إيران نفسها دمجت بين شيعيتها وقوميتها الإيرانية وجعلتهما أمرا واحداً. فعندما تدعو إلى تبعية الشيعة للجامعة الشيعية ومركزها الدولة \الأمة الإيرانية فإنها تطرح عليهم التحدي الصعب بالتخلي عن انتمائهم القومي، أي عروبتهم. فكيف يمكنهم ذلك على خلفية الصراع التاريخي، وحمولة العداء الذي أججته ممارسات إيران نفسها واعتداءاتها بوجه مفضوح منذ الثورة السورية! وأضافت اليها التبجح والاستفزاز مؤخراً؟
لقد فقدت آخر ادعاءاتها بدفاعها عن المظلومية والمظلومين وتحولت إلى الظلم والاستبداد. ودائما تحت شعارات براقة، آخرها تصريح قال فيه روحاني إن «دينهم هو دين الكتاب وثورتهم هي ثورة الكتاب وانتشرت مع الكتاب، وإن الرسالة والمسؤولية الجسيمة الملقاة على عاتق النظام الإيراني اليوم هي نشر ثقافة الأخلاق».
العراق نموذجاً:
الوقائع العراقية كانت ضد هذه الجدلية في البداية، وخلال الحرب التي شنها صدام على إيران. ردة فعل إيران الوطنية كانت تأمين الدفاع عن نفسها لرد المحتل. وفي مرحلة ثانية كان الإيرانيون يأملون بأن ينتفض الشيعة العراقيون ضد صدام حسين، وأن يتحول هذا الاعتداء إلى تقدم للشيعية في الشرق الأوسط. لكن هذه التوقعات لم تصح حينها، وفشل امتداد الثورة الإيرانية في حال الحرب الدفاعية ضد العراق.
هدف إيران في العراق، منذ الأساس، إضعاف العروبة. ولقد عبر أحد مسؤوليها عن ذلك علناً مؤخراً. وهي ساعدت لذلك على إنشاء «حزب الدعوة« الموجه ضد الشيوعية وضد حزب البعث. لكن قوة الهوية الوطنية شكلت عائقاً ضد المذهبية، وعنى التعاطف مع إيران الشيعية تعاطفاً مع مذهب الأعداء. الشيعة العراقيون كانوا ينظرون اليهم كأعداء تاريخيين للعرب، ومن هنا تفضيل العراقيين في الحرب الإيرانية انتماءهم الوطني والعربي. لكن للأسف لم يتم تقدير ذلك من العرب وظلوا يخضعون للتمييز والتنكيل. وكان من عواقب حرب صدام على الكويت أن أدت إلى انتفاضة شيعية قُمعت، ورمت بالشيعة إلى أحضان إيران، وتخلى العرب عن العراق، وتُرك بين أيدي الأميركيين المتواطئين مع إيران.
لماذا تتغافل إيران عن هذه المسألة القومية الحساسة؟ ذلك ان المسؤولين في طهران يعتبرون شيعة المنطقة في خدمة إيران، لأن إيران هي في خدمة الشيعية، لكنها تنسى أن تضيف الإيرانية! أي ما تزعم أنه الإسلام الحقيقي. إنها حركة دائمة في الاتجاهين تظهر من خلال التصرفات والحوافز ذات الطابع المزدوج، الأيديولوجي والسياسي. وهذه السياسات التسلطية تحت غطاء من البراغماتية بقيادة رجل دين هو الولي الفقيه خامنئي!!
إن الرؤيوية الشيعية، وان كانت غالبا مضمرة، فهي تبقى مع ذلك من مرتكزات الدولة الإيرانية وطموحاتها. لكن هذه الشيعية، كملهم للمواقف الجيوسياسية في إيران، تبقى عاملاً أقل أهمية مما نتصور! بدليل تعاملها مع مكونات سنية مثل «حماس« أو «الإخوان« أو غيرهم … إنها سياسة فئوية لفئة أو نظام حاكم، يحافظ على مصالحه باسم الدين. وهذا ما يختلط بالأذهان عند تقويم أداء إيران فتوصف «بالدولة البراغماتية».
قبل أن ننهي هذه النقطة يجب التشديد على أن أي أيديولوجية لا تموت بسهولة عندما تستند إلى سلطة دولة.
ما تغير الآن
الحذر الذي اتسمت به الديبلوماسية الإيرانية، حتى ما قبل الثورة في سوريا، كي تحد من نفوذ أخصامها أكثر من إظهارها إرادة التوسع الذي تبخر مؤخراً. ذلك ان نجاح سياساتها الهجومية وسلسلة اعتداءاتها وتخريبها في المنطقة العربية أورثها التبجح والغرور وفقدان الاتزان. وتؤكد الأحداث أنها تعد ما يدور الآن بوصفه مرحلة للوصول إلى الامبراطورية الإيرانية \ الشيعية.. جميع المظاهر تدل على ان الدولة الإسلامية تحولت إلى وريثة للإمبراطورية الفارسية على جميع الصعد، مع مسحة قداسة افتقدتها الأخيرة.
الخلفية المساعدة للهجمة الإيرانية: الاستبعاد والتهميش للشيعة العرب
هناك مشكلة تسمى الأقليات في العالم العربي. وبعيدا عن المغالاة لا شك أن الشيعة العرب كانوا دائماً أقلية مستبعدة، اجتماعيا وسياسيا؛ وبروز الإسلام الشيعي بقوة في إيران عزّز طموح هذه الجماعات وتسبب تاليا بقلق حكومات المنطقة. فهل يفترض، تبعا لذلك التفكير بأن هؤلاء الشيعة يشكلون «طابورا خامسا» لطهران؟ سيكون ذلك من باب التبسيط، لانهم أيضا عرب ، حتى لو كانت أصول البعض منهم إيرانية. والعروبة تحديدا تطرح عليهم مشكلة اختيار الهوية.
أيكونون شيعة قبل كل شيء، ما يفترض فيهم أن يديروا وجوههم نحو الوطن الجديد للشيعية، الذي تجسده إيران آيات الله؟ أم هم عرب أولاً، يمارسون مذهبا مختلفا في الإسلام؟ ويحصل الإعتراف بهم كعرب وكمسلمين متساوين في المواطنية والحقوق؟ على الجواب عن هذه التساؤلات يتوقف نجاح السياسة الشيعية التي تتبعها إيران أو فشلها. كما يتوقف الأمر على نجاح الدول والحكومات العربية في مراجعة سياساتها جذرياً، فيما يتعلق بالأقليات على أنواعها، وخصوصاً الشيعية منها.
إن أزمة هوية العرب الشيعة في بلادنا تقودنا إلى تساؤلات تتخطى المجال الطائفي لتطال اندماج هذه الجماعات في أنظمة ومجتمعات ذات أكثرية. وهذه المسألة ليست بسيطة تطرح للبحث والنقاش فحسب، بل يتوقف على حلها استقرار واحدة من أهم مناطق العالم.
ان شيعة الخليج، من حدود العراق إلى تخوم عُمان، يراكمون التحديات: التوازن بين الطوائف على الصعيد الديني، الاستبعاد الاجتماعي، وتذرع إيران بمطالبهم للضغط على جيرانها. حتى لو بقيت المطالب الشيعية منفصلة عن المسألة الإيرانية، فستبقى عاملاً مؤثرا في استقرار دول المنطقة. فكيف مع التغول الإيراني؟
لبنان واليقظة الشيعية
تحرك مزدوج: ديموغرافي وهوياتي
عانى الشيعة اللبنانيين من التهميش والاستبعاد والقمع تحت الحكم العثماني ولم يتم الاعتراف بمذهبهم. لكن منذ الاعتراف بلبنان وباستقلال الدولة اللبنانية تغيرت وضعيتهم القانونية والاجتماعية وتحولوا إلى مواطنين متساوين مع سائر اللبنانيين. لكن للتهميش والقمع المزمنين منذ حقبة السلطنة ذيول وآثار اجتماعية بالطبع لا تزول بين يوم وليلة. إلى جانب أنهم عانوا من التهميش والإهمال الذي عانت منه الأطراف الريفية لسائر الطوائف. خصوصية الشيعة اللبنانيين تكمن في مسألتين، علاقتهم بالإقطاع السياسي الذي خضعوا له ولم يساهم جدياً في تحسين ظروفهم في الدولة الناشئة ونظامها المحاصصاتي في ظل المارونية السياسية. لكن الظروف الموضوعية التي ساهمت في تفاقم وضعهم مصدره محاذاتهم لفلسطين فكانوا تبعاً لذلك أول المتضررين من الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين على وجهين: الأول انقطاعهم عن المجال الحيوي الاقتصادي والاجتماعي التي كانت تشكله لهم فلسطين؛ وثانياً اللجوء الفلسطيني الذي شكل عاملاً منافساً اقتصادياً وثقلاً ديموغرافياً. فحصلت هجرة أولى مكثفة للشيعة، الذين انقطعت أبواب رزقهم، نحو مناطق العاصمة. أما الهجرة الثانية فكانت بعد الاعتداءات الإسرائيلية المتمادية على الجنوب، في ظل عجز وإهمال الدولة اللبنانية. لكن أن يوضع تهميش الشيعة و»اضطهادهم» في لبنان على قدم المساواة مع ما يحصل في بلدان الخليج، ففي هذا مبالغة وتزوير للوقائع وجحود!
تميزت الستينات من القرن المنصرم إذن بتكاثر سكاني ونزوح إلى بيروت، مع تحسن في وضعية الشيعة الاجتماعية تبعاً لسياسات الشهابية التنموية . وبرز في الوقت نفسه رجل الدين الشيعي الآتي من طهران، اي موسى الصدر، الذي بعث روحاً جديدة فيهم فالتفوا حول خطابه السياسي الشيعي الواضح وتحت شعار «حركة المحرومين». وانطلقت في تلك الفترة ظاهرة إنبعاث شيعية أو عودة إلى الشيعية تحت قيادة الصدر.
صعود القوة الديموغرافية وتثبيت هوية الطائفة ترافق مع انطلاق الثورة الإيرانية… هذه العودة كان لا بد من أن تشد الأواصر بين شيعة إيران ولبنان.
هذا التحرك المزدوج، على صعيد الديموغرافيا والهوية، لم يتأخر ليجد تعبيره السياسي. وكانت المناسبة انطلاق الحرب. أضيف الاجتياح الإسرائيلي إلى الحرب، مقدماً الفرصة الذهبية للثورة الإيرانية الصاعدة لكي تضع يدها على القضية الفلسطينية، عبر شيعة لبنان، فأوجدت «حزب الله« الذي التفّت حوله الفئات المحرومة بما فيها بعض جمهور «حركة أمل« الشيعية. وأكثر من ذلك، التف حوله المسلمون العرب في أول تخطي للصراع السني الشيعي بعد تحرير الجنوب في العالم 2000 . وكانت أول مرة يكون فيها للعرب بطل شيعي من دون منازع هو نصرالله. لكنه، ومن خلفه إيران، قضى على مشروع مصالحة تاريخي بين السنة والشيعة العرب، في الفترة التي كان لا يزال يقاوم فيها ضد إسرائيل، عبر ارتداده إلى الداخل من حرب تموز إلى 7 أيار إلى القمصان السود والانقلاب على الحكومة الشرعية، كما على نتائج الانتخابات، مع منع اجرائها، إلى منع انتخاب رئيس وذلك وصولاً إلى دخول سوريا، دفاعاً عن النظام السوري وصولاً إلى اليمن.
وتم احتكار «حزب الله« للمقاومة وللطائفة جاعلاً منها كتلة متراصة جامدة، محولاً الشيعة من أتباعه في لبنان إلى جنود منتشرين في الأوطان العربية، في خدمة إيران.
بعد أن كانت طائفة حيوية تحتوي تيارات فكرية وسياسية متعددة وتعبر عن تناقضاتها بحرية: عبر التعارض الذي عرفته على مستوى مسؤوليها بين رجال الدين من جهة، والعلمانيين من جهة أخرى، وتنافسهم فيما مضى على قيادة الطائفة، كما بين شيعة اليسار وشيعة الأكثر تدينا من جهة، واليمين من جهة أخرى. توحدت الطائفة خلف سيد واحد للطائفة وحزبها المسلح كدولة.
الخلفية التي سمحت باستمرارية الظاهرة، كان المنطق الذي تستبطنه في جميع هذه المواجهات وهو الارادة الصلبة لدى مختلف التنظيمات الشيعية بالخروج نهائياً من وضعهم كطائفة من درجة ثانية. الشيعة على مختلف درجاتهم كانوا يسعون إلى الاعتراف بهم سياسيا بنسبة ما هم ديموغرافياً. الديموغرافيا تغذي دائما الطموح لإدارة شؤون لبنان السياسية. المشكلة أن كل طائفة عندما تشعر بالاستقواء ترغب بالسيطرة منفردة. الأكيد الآن ان الشيعة لن يكتفوا بأن يكونوا إحدى الطوائف الرئيسية في لبنان، بل يريدون المشاركة في السلطة. لكن ذلك يعني في الممارسة الحالية محاولة مصادرتها و الهيمنة عليها.
هل يمكن الخروج من مأزق الصراع المذهبي لصالح الأمن القومي العربي؟
اذا كان الأمر كذلك فان المواطنية الصحيحة وحكم القانون والمساواة هي الحل، وهوما يتفق حالياً على تسميته بالدولة المدنية. والشعار الذي يرفعه «حزب الله«: دولة قوية وعادلة، شعار محق؛ ولكن لا يمكن ان يتحقق في ظل تبعية الحزب الديني \ المذهبي، الواضع يده على السلطة، لصالح حكم أجنبي وغريب ألا وهو إيران.
التحديات كبيرة: هل سيتمكن شيعة لبنان من ان يستعيدوا حرية قرارهم وانتماءهم إلى وطنهم؟ بحيث يبقوا على مسافة من حماتهم ؟ أم الإيرانيين (بعد زوال نفوذ السوريين) سيمنعونهم من اي استقلالية؟
وفيما عدا انتظار التغيرات في إيران نفسها، والتي تعاني من غليان داخلي، ما الذي يساعدهم على ذلك؟
صراع الهويات هذا، سبق ان عانت أوروبا من صراعات أكثر دموية منه، واستطاعت أن تتخطى مشاكلها عندما اعتمدت القانون مرجعاً وحيداً للعلاقات بين الناس كمواطنين متساوين وعندما اعترفت بحرية العقيدة المطلقة، وفصلت بين الدين والدولة، وعندما نمّت الانسان، وحسّنت ظروفه على جميع الصعد، الرمزي منها والاجتماعي والاقتصادي، وأعطته تربية متوازنة ومنسجمة مع أهداف المواطنية.
وعندما تعاني بلداننا مما تعاني منه، من تمزق وتشرذم وهجمة قوى ذات أطماع تاريخية لا بد من ممارسة سياسة التمييز الايجابي بأفضل صوره. إن الخروج من الوضعية التي نطلق فيها على سمة التعدد التي نتمتع بها أسماء من مثل «أقليات» مقابل «أكثريات«، فذلك يتطلب في مرحلة أولى أكثر من المساواة، «يتطلب ممارسة «التمييز الايجابي» (على شاكلة الكوتا للنساء) وعلى جميع الصعد لهذه «الأقليات» كي تحصل على حقوق متساوية، وكي تشعر أنها تعيش في وطنها، وليست مضطرة للجوء إلى أوطان أخرى، لتحصيل بعض الحقوق المرفوضة في وطنها. كما يتطلب حركة إصلاح ديني جذرية.
تجربة لبنان التي يمكن أن تنجح مع الاصلاحات الضرورية وإعادة التوازن، كما تجربة تونس، التجربتان تصلحان للاسترشاد بالنسبة للدول العربية للتعامل مع أقلياتها.
monafayad@hotmail.com
المستقبل