علي مدي الاشهر الثلاث الماضية زارت علي الترتيب كل من المستشارة الالمانية انجيلا ميركل والرئيس بوش والرئيس الفرنسي ساركوزي مقر الكنيست الاسرائيلي والقوا جميعا خطبا عصماء، واقوال تقع في منطقة العمي المعرفي في العقل العربي. تحسس ذلك العقل – علي طريقة بريل – تلك الزيارات لكنه لم يفهم ما قيل بالقدر الكافي والمماثل لهجومه عليها. فحديث الرؤساء خلط الحاضر بالماضي واستشرف المستقبل لاسرائيل وليس لمن حولها. مثلت المستشارة الالمانية ميركل الدولة صاحبة المركز المالي المسيطر في اوروبا اما بوش فيمثل القدرة العسكرية للعالم الراسمالي الصناعي واخيرا رئيس فرنسا معبرا عن الثقافة والتنوير الاوروبي والقائد للنقلة الحضارية المعرفية لعالم كله.
فالقضايا السياسية والمسائل القومية والامن لا تخضع لقواعد الفطرة كما تصورها نصوص العرب، لكن مواجهة التحديات، إذا أن هناك ما هو خطر على منطقة الشرق الاوسط، هو ما يدعونا إلى التفكير الجاد ولو لمرة اخيرة بدلا من اجترارنا الاساطير الغير قابلة للتحقق. فالخطر علينا يكمن في قصور عقلنا المستعرب وعجزه عن الفهم باكثر مما يحسب من فوائض نفطية لا يعرف مدي حجم احتياطياتها للمستقبل، لكن ذلك العقل يعرف كيف يستخدمها افسادا وتدليلا لرغباته الفطرية ايضا.
اعتبرت ميركل ان حق اسرائيل في الوجود قضية التزام دولي، وان أمن أسرائيل جزء من أمن ألمانيا، وأعربت عن رفضها للتهديدات الايرانية ومن ثم تهديدات كتلة الصمود والتصدي ومن تبعهم باحسان باسم المقاومة. كانت ميركل أول مستشارة ألمانية تلقي خطابا أمام الكنيست، وأول مستشارة تزور متحف تخليد ضحايا المحرقة النازية مجدده فكرة التعويض ليس فقط بالمال، بل بضمان أمن اسرائيل ووجودها.
فالهولوكست مشكل السياسة الالمانية في فترة النازية مع اليهود. ومع ذلك هبت جبهة الصمود والتصدي وتوابعها بشجب اعتذار المستشارة كما لو انهم يقولون نحن في انتظار مخلصنا هتلر العربي او الاسلامي لناخذ دورنا في الذبح والقتل. ولم يقل احد عن مدي التعامل العروبي الغير مسؤول والمتهور منذ العام 48 مع ما سمي بقضية العرب الاولي. لكنهم يدافعون عن قضايا الفاشية التي حكم عليها العالم بالخسران بينما المحامي العربي مصمم علي الاستئناف لاعاده الالمان الي سابق نازيتهم.
ثم جاء دور بوش فقال ما لم يجرؤ ان يقوله مالك في الخمر. فتعرض للتاريخ اليهودي تحت مظلة الهيمنة الامبريالية العربية وبادر باصلاح الامر فقال بحق اليهود الطبيعي في ان يكونوا ساده انفسهم بانفسهم وهو غمز ولمز في تاريخ اهل الذمة والولاية التي حكمت الشرق الاوسط لفترات طويلة، باعتبار ان دولة اسرائيل تمثل تحقيقا لما سطرته الاقلام في الكتب السماوية بالوعد الايراهيمي والموسوي واعتذارا من العالم عن سياسة الامبراطورية العربية الاسلامية. ممثل الآلة العسكرية الكبري في العالم هو المتحدث عن الحقوق الالهية المضمونة بالعتاد والقوه طالما ان هناك من يريد عبر العسكرة والجهاد لنشر الدين الحنيف. ربما فات بوش، لعدم المامه بالعربية، ان يقول ” واعدوا لهم ما استطعتم … ” فماذا يملك الشيخ الهلالي – المصري الجنسية – صاحب فتوي لحم النساء العاري والكلاب في استراليا في تصريحه اللاحق بان المسلمين احق باستراليا من اهلها؟
عرج بوش علي موقف العالم من الديموقراطية وانب الامم المتحده علي قراراتها التي تدين اسرائيل في قضايا حقوق الانسان مقارنة بما يجري في محيطها ولم يسمهم باعتبار ان كل لبيب بالاشارة يفهم. واعتبر ان مفهوم الحرية الدينية في الغرب متناقض مع مفهومه في الشرق. فالكرامة والعدالة وعدم التمييز لها جنودها المدعومون بقوة العقل والحقيقة العقلية رغم ان تاسيس اسرائيل كان علي اساس الاسطورة والدين. الا ان تاسيس العالم الحديث باكمله يدين بالكثير لاعمال الفلاسفة والعلماء اليهود باكثر مما هي وعود مقدسة من السماء. وهو اعتراف ضمني مع تانيب تاريخي واعتذار حضاري بان الجميع قد اسسوا مواقفهم علي منظومة كاملة من الاكاذيب وفي قول آخر من الاساطير وفي قول متادب علي الحقوق الدينية. ولم يفطن احد عندنا باننا امام نقلة نوعية جديدة في سياده للعقل والمنطق وحقوق الانسان وتجانس عبر الاندماج جميعا في العولمة حيث المنافسة بقدر المشاركة وبقدر ما يحمله كل طرف من ابداع. فجاء الرد المقابل مباشرة عندما ردد بعض مثقفي العرب في اقامة امبراطورية اسلامية بنفس الاسس الدينية كما في اسرائيل غافلين عن الفارق الكبير الكامن في فقدانهم الكامل للعقل العلمي والمعرفي والحقوقي.
بعد حوالي ثلاث اسابيع التقط ساركوزي الخيط عند هذه النقطة ليعيد الاعتبار لليهود مجددا ومن زاوية اشد قسوه علي العقل العربي. فالرئيس القادم من باريس عاصمة النور والتنوير والنقد ذكر في خطابه ثلاثة – لم يذكر سواهم – وكلهم من اليهود : اسبينوزا وسيجموند فرويد واينشتين. فرغم يهوديتهم الا انهم وضعوا الاسس للخروج من عالم الاديان والاساطير الي حقائق الواقع.
كان سبينوزا الفتى اليهودي مخلصا لحضور دروس الاحد للحاخامات والقساوسة باللغة العبرية لغة الدين والنصوص القديمة والتراث المغلق، وتعرف في نفس الوقت على فرانسيس بيكون، توماس هوبز ورينيه ديكارت، وشاهد مناظرات فكرية خصبة بين أتباع ديكارت وخصومه.
كانت كتابات موسى بن ميمون، وإبن رشد قد منحت العقل الاوروبي ملكات جديدة في كتابه “فصل المقال في ما بين الحكمة والشريعة من اتصال”. وهو الكتاب الذي سبب محنة ابن رشد ومحنة للاسلام السياسي ايضا. فاكمل اسبينوزا المشوار بان فصل بين المجالين فصلا نهائيا، بحيث مهدت أفكاره لفصل الدين عن الدولة.
كتب اسبينوزا ” رسالة في اللاهوت والسياسة ” فحطم كثيرا من اوهام العهد القديم وجعل السياسة هي المحرك وليس العقائد. فلم يغفر رجال الدين له ووصف احدهم الكتاب بانه اشد الكتب كفرا في التاريخ لدرجة نقش الدعوة للبصق عليه علي شاهد قبره. وفي حياته تم عزله وحرمانه من الميراث. لكن جاءت اعاده الاعتبار عندما قال ارنست رينان المؤرخ والمستشرق الفرنسي ان اسبينوزا كان اقرب الي الله من كل رجال عصره.
وقف اسبينوزا موقفا نقديا طويلا امام الاله التوراتي الممتد في الاديان السماوية جميعها ليشرح طبيعة العقل السياسي الجبان والعاجز عن التبدي بعلانية ففضل الالتحاف بالغيبات خوفا من اكتشاف خبث نواياه. فلو صاغ اسبينوزا لفظا يعبر عن التاريخ التوراتي لاسماه اسبينوزا اليهودية السياسية كما هي التسمية الان بالاسلام السياسي. وكان مهموما بالاكثرية من الجهلاء المحتجزين في زنزانات الايمان. فاصبحوا وقودا لعدوانيات الحروب دينية والتي لم تثبت صحة ايا عقيدة او دين. لم يردد الرجل ان الله اعطي اليهود الكتاب والحكمة كما يحلو العرب قولها لانفسهم انما فتح افق العالم الي ثروة العقل النقدية التي لا تجف كلماتها حتي ولو كان البحر مدادا لها.
الحق ساكوزي فرويد باسبينوزا مباشرة حيث جرؤ الاول علي العلاج السيكلوجي للشخصية العدوانية عامة. لكنه كشف عن اسبينوزايته عندما كتب كتابه بعنوان مستقبل وهم. فتاريخ العلم الفرويدي هو تاريخ فك عقدة العدوان في النفس الانسانية بشكل فردي او جماعي فانتهي الي ان الحروب هي طاقة عدوان او طاقة لبيدو جنسية لم تجد الموضوع المناسب للاشباع. فمع تاريخ الكبت الدائم الذي صنعته البشرية في نفسها وجائت الاديان لتسد كل ثغرة ممكنة لمزيد من الكبت والقمع كانت الانفجارات كالحرب مضمونة الحدوث دائما، بل ومباركة باسم الرب يثاب عليها المؤمن اينما جاهد باسمه وتحت رايه كتابه ويصبح بعدها محققا حلمه المكبوت في جنة الخلد حيث الاشباعات الغرائزية اللامتناهية. ورغم ذلك يبدوا ان كثير من مشايخنا خارج تلك التفسيرات الفرويدية رافضين لها ولا يقدمون بديلا معقولا انما تفسير الاحلام بسذاجه مفرطة وادخال الجن والشياطين كلاعبين في الخط الاول في النفس الانسانية المكبوته. مشايخنا لا يشعرون بعجز وقلة حيلة اقوالهم لان الكفاية التي تحققها لهم دولة العلم والايمان تغطي احتياجاتهم دون تطلعات معرفية او مغامرات استكشافية.
تعاملت المحافل اليهودية بقسوة مع اسبينوزا ففصلته منها واخرجته من زمرة الجماعة كمنشق يستحق العقاب اي حكمت بردته علي طريقة الاسلاميين. اما فرويد فلم تكن هناك اي حاجة لتكفيره فالكفر والارتداد وعدم الايمان والشك وكل ما يحلو للعقل الاسلامي ان يصول ويجول به كسيف مسلط كانت متحققة في اوروبا في زمن فرويد الذي هو ايضا زمن اينشتين.
ظل عالم الفيزياء الاول البرت اينشتين علي ايمانه باليهودية لكن موقفه كان سياسيا مدنيا وليس لاهوتيا توراتيا فلم يلتحف باي اله او ردد الايات من تلك الكتب المقدسة ليثبت نظريته كما يفعل الاسلام السياسي عبر فلاسفة العلم والايمان عندنا. فرفض العرض السخي برئاسة دولة اسرائيل. فتاسيسها اسطوري ولاهوتي في زمن العقل العلم بينما الاخيرين لا يقبلا بالخرافة. كان اينشتين متسقا مع ذاته دون كفر او الحاد فقال بان العالم محكوم بقوانين هي اوسع بكثير من تلك الضيقة التي اتي بها نيوتن في زمن مطارة السحرة وتكفير العلماء وصادقة بعكس ما تحكيه الصورة الدينية الضيقة التي جاءت في الكتب المقدسة محتجزه الكثييرين في مصائد الايمان.
علماء ذلك الزمان الفوا كتبا، وكلهم وقفوا ضد الاسطورة والخرافة فصناعة المعرفة والتاريخ والحقيقة لم تعد تتحمل تلقيها من الخارج انما بشجاعة ابداعها من الداخل. وهو ذات السبب الذي اضاع – حقائق الارض – تحت مسمي القضية الفلسطينية بفضل ابنائها وحراسها العرب المدافعين عنها باساطير الدين والعنصر وكتب القبر وما قبل الخلق، فتحولت الي قضيتي الضفة وغزة، بينما تحققت الاسطورة التوراتية إذا ما تاسست علي قاعدة من العلم والمعرفة في كل الميادين علي ارض فلسطين التاريخية. اسطورة متحققة اسمها دولة اسرائيل لها منظرين كلهم من اهل الكتاب العلمانيين. الوحيد من القامات الكبري في تاريخ الانسانية الذي لم ياتي ذكره في الكنيست هو كارل ماركس اليهودي ربما لانه لم يعد هناك من رئيس علي استعداد لزيارة الكنيست يعيد له الاعتبار او دول عظمي تتبني الاشتراكية، ولو الي حين .
elbadryk@gmail.com
القاهرة
اسرائيل بين الدولة والاسطورة للكاتب الصديق محمد البدرى كل التقدير علي عمق رؤيته لأسباب نجاح إسرائيل ، وفشل العرب . والحق أنني معجب جدا ً بقدرته علي ممارسة النقد الذاتي لثقافتنا العربية وإن عاتبته علي قلة عنايته بتصويب اللغة التي يكتب بها هذا الفكر الثاقب .. خذ مثلا إلحاقه الألف واللام بلفظة غير( فالصواب أن يقال غير ال… ) ومثلا إلحاقه الألف بالواو في كلمة( يبدو) كما لو كانت واو الجماعة ! وقوله : لا يقبلا ، والصواب طبعا (لا يقبلان) لكن ذلك كله ليس مما يقلل من قيمة المضمون الفكرى للمقال . أردت بهذا النقد ( الشكلي ) أن… قراءة المزيد ..