لن يُسجل الأول من يونيو 2018 كيوم سعيد في تذكارات أوروبا: في هذا اليوم تدخل التعريفة الجمركية الأميركية حيز التنفيذ على الصلب والألومنيوم القادمين من أوروبا والمكسيك وكندا إلى الولايات المتحدة، مع ارتسام ملامح حرب تجارية عبر الأطلسي من شأنها تهديد العلاقات الأميركية الأوروبية.
وفي نفس هذا اليوم أعلن جوزيبي كونتي (المحامي والأكاديمي المغمور) حكومة إيطالية جديدة بناء على تحالف شعبوي وسيادي ومناهض للهجرة غير الشرعية مؤلف من “حركة خمس نجوم” و”الرابطة”، وهكذا يصل فريق تنفيذي مشكك في الاتحاد الأوروبي إلى سدة السلطة في إيطاليا، إحدى البلدان المؤسسة للعمل الأوروبي المشترك وثالث أكبر اقتصاد في أوروبا.
ويأتي التحوّل الإيطالي المتزامن مع الحرب التجارية التي يطلقها الرئيس الأميركي دونالد ترامب ليسهم في إضعاف الاتحاد الأوروبي الذي سيكون على المحك في سياق اختبار قوة مع الرئيس الأميركي يشمل الملف النووي الإيراني، ولا تبدو فيه أوروبا مؤهلة لمقارعة واشنطن حليفتها وضامنة أمنها الاستراتيجي.
منذ تمركز إدارة دونالد ترامب في البيت الأبيض في يناير 2017، برزت تدريجاً معالم الاستراتيجية الخارجية على الشكل الآتي:
أولاً: “إعادة العظمة لأميركا” و”أميركا أولاً” شعاران يتلازمان في السياسة والاقتصاد تنفيذا للوعود الانتخابية ولكي تعيد واشنطن الإمساك بناصية “الشمولية الاقتصادية” التي كان لها الدور القيادي في بلورتها، وأخذت تفيد الأقطاب الآخرين وخصوصاً الصين والاتحاد الأوروبي من كبار المنافسين الاقتصاديين للولايات المتحدة.
ثانياً: أهمية البعد الآسيوي من ناحية إدارة العلاقة مع الصين التي تتهيأ لتكون في حدود العام 2030 بمثابة الاقتصاد العالمي الأول والقوة العسكرية والتكنولوجية الموازية للقوة الأميركية. وتأتي الحرب التجارية والاقتصادية المقننة مع الصين، والحوار بعد المبارزة مع كوريا الشمالية ضمن سياق ديمومة النفوذ والمصالح الأميركية في هذا المجال الحيوي.
ثالثاً: تحجيم الصعود الروسي عبر العقوبات واستمرار الضغوط على أكثر من محور، والعمل على منع عودة الدفء في العلاقات الروسية – الألمانية، والروسية – الأوروبية. ويعتبر فك الارتباط الاستراتيجي بين موسكو وطهران هدفاً أميركياً زادته موسكو صعوبة نظراً إلى إنجازها في الانفتاح على أنقرة.
رابعاً: إضعاف الاتحاد الأوروبي عبر دعم البريكست والصعود السيادي في بعض الدول لأن التعامل مع الدول الأوروبية منفردة يضمن استمرار نفوذ واشنطن التي خسرت الوجود البريطاني في بروكسل، ولأن أوروبا الـ27 يصعب التحكم بها، كما المجموعة الأوروبية من ست دول التي دعمت أميركا نشأتها بقوة بعد الحرب العالمية الثانية. وعدا التنافس الاقتصادي تشعر واشنطن ترامب أنها لا تأخذ المقابل من المظلة الأمنية التي يوفرها حلف شمال الأطلسي للقارة القديمة حيث لا تدفع الدول الأوروبية مساهماتها ولم تعزز سياساتها الدفاعية. والأدهى أن أسلوب الدبلوماسية متعددة الأطراف لا تعتبره إدارة ترامب ملائماً لمصالحها، من اتفاق مكافحة التغيير المناخي إلى المحكمة الجنائية الدولية وبعض آليات العمل الدولي المشترك.
خامساً: الشرق الأوسط حيث يبرز هدف احتواء إيران ومحو إرث إدارة باراك أوباما، وكذلك التماهي مع إسرائيل، والعودة إلى تعزيز العلاقات الاقتصادية والاستراتيجية مع المملكة العربية السعودية والأطراف العربية الأخرى. وفي هذا السياق يبرز التنافس الاقتصادي الأميركي – الأوروبي، لأن أوروبا كانت تعوّل على السوق الإيرانية بعد الاتفاق النووي لأنها تعتبر باقي اقتصاد المنطقة مرتبط بعجلة المصالح الأميركية.
يمكننا أن نضيف معالم الحرب التكنولوجية والثورة الرقمية والتكنولوجية، وكذلك سباق التسلح على الأرض، ومسعى عسكرة الفضاء واستمرار الهيمنة على البحار، حتى نتلمس كل جوانب الاستراتيجية الأميركية الشاملة التي لا يمكنها منطقياً إلا أن تقيم وزناً لحلفاء خارجيين في عالم التخبط الاستراتيجي، ولأن المصالح الآنية (مثل خلق فرص عمل في ميدان الفولاذ في بعض الولايات الأميركية المهمة في قاعدة الرئيس ترامب الانتخابية) وازدهار الاقتصاد الأميركي، لن تضمن على المدى المتوسط استمرارية الهيمنة الأميركية لجهة التربع على عرش القوة العظمى الأولى عسكرياً واقتصادياً.
على العكس من ذلك تعلمنا التجارب التاريخية أن انفراط عقد العولمة الأولى في العام 1914 قاد نحو الحربين العالميتين في القرن العشرين، ويبدو أن البعض لا يأخذ الحذر الكافي من كون مخاطر انفراط عقد العولمة الثانية منذ سنة 2008 وبشكل تصاعدي يقودنا عملياً اليوم نحو حرب عالمية ثالثة غير معلنة، لكنها تدور عملياً في مناطق نزاع تمتد في قوس الأزمات من الشرق الأوسط إلى أفريقيا في جنوب الصحراء، أو في محاذاة بعض الكبار من شرق أوروبا وبحر الصين الجنوبي، أما الأشكال الأخرى لهذه الحرب فتتمثل في الحرب الإلكترونية والحروب التجارية التي يمكن أن تتحول إلى حروب حقيقية.
ومن أبرز المخاوف انطواء الجميع إلى سياسة الحماية أو بلورة كومنونديوم أميركي – صيني على حساب أوروبا، أو اضطرار أوروبا إلى الانكفاء نحو الحمائية لتتحصن ضد الرسوم الأميركية أو التغلغل الصيني.
خلال الأربعين سنة الماضية روّج أكبر اقتصادين في العالم (الولايات المتحدة والصين) للعولمة استنادا إلى تفاهمات حول كيفية التعامل مع الطرف الآخر. وظن الصينيون أن الولايات المتحدة ستواصل دعم التجارة الحرة، كما اعتقد الأميركيون أن التحرر الاقتصادي في الصين سيفضي في النهاية إلى التحرر السياسي، وهذان الافتراضان لم يعودا قائمين، إذ وافق البرلمان الصيني على مقترح للحزب الشيوعي يلغي تحديد فترات بقاء رئيس البلاد في السلطة، وهو ما يفسح المجال للرئيس شي جين بينغ البقاء في السلطة مدى الحياة. بينما أعلن الرئيس الأميركي دونالد ترامب في تغريدة له في مارس الماضي “الحروب التجارية جيدة ويسهل الفوز فيها”.
بالرغم من التضخيم لن تطال الرسوم الجمركية من أوروبا مقتلاً لأن الحصة الاقتصادية في الواقع صغيرة، بالنسبة للاتحاد الأوروبي كما بالنسبة لفرنسا: 1.5 بالمئة من مبيعات الاتحاد الأوروبي إلى الولايات المتحدة، و1 بالمئة فقط من الصادرات الفرنسية. ومن المحتمل أن يعفى بعض أنواع الفولاذ الخاص لأنه ضروري لإنتاج النفط، وستستفيد الشركة الفرنسية التابعة لشركة Vallourec، التي تصنع الأنابيب المستخدمة في استخراج الغاز الصخري، بشكل عام من الإعفاءات.
لكن بالنسبة للمفوضية الأوروبية ولفرنسا، تدور المواجهة حول بقاء النظام الاقتصادي الدولي وقواعده، ولكن أيضا حول جوهر العلاقة الثنائية عبر الأطلسي. ولذا أعلنت المفوضية الأوروبية، برئاسة جان كلود يونكر عن نيتها في إعادة التوازن إلى شروط التبادل التجاري مع الولايات المتحدة من خلال تطبيق التعريفات الجمركية بنسبة 25 بالمئة على بعض المنتجات الرمزية، في ما يتعدى مسألة التجارة (بالطبع ليست مسألة هامشية) هناك استهتار أميركي أو هجوم على مبـدأ التحالف عبر الأطلسي وعلى المعالم المنظمة للعولمة، وهذا يظهر عمق الفجوة التي اتسعت عبر المحيط الأطلسي، لكنه يبرهن على ضعف بنيوي لأوروبا التي استنفرت للدفاع عن اتفاق نووي مع إيران تحت حجة حماية شركاتها الناشطة هناك، فإذ بها ستستنتج على الأرجح عدم قدرتها على بلورة رد متماسك على حروب تجارية وغير جاهزة لتحدي أو مقارعة واشنطن.