يتوهم من يتصور ان الحرب “الباردة الشديدة السخونة ” بين امريكا وروسيا قد انتهت بتفكك الاتحاد السوفيتي في عام 1991، وتحوله الى دويلات ضعيفة ما زالت تخضع لأوامر الكرملين في موسكو.
ان كل ما يجري اليوم من معارك سواء كانت براً او بحراً او جواً، او ما يحصل من نزاعات سياسية ودسائس كيدية تُحاك في قصور الرئاسة او بين اروقة البرلمانات او في ردهات المحاكم، في الحقيقة بسبب ذلك الشرخ العميق الممتد بين الايدولوجية الرأسمالية التي تحتضر في غرف الانعاش في دول الاتحاد الاوروبي المنهك اقتصادياً ، وفي الولايات المتحدة المديونة بأموال طائلة حتى النخاع “للشيوعيين” في بكين من جهة ، ومن جهة اخرى بين الأيدولوجية الشيوعية التي اُغتيلت على ايدي اباءها الروس واليوغسلافيين والصينيين خلال سنين الافلاس السياسي في التسعينيات، وهاهي الشيوعية المترهلة تلفظ انفاسها الاخيرة في شمال كوريا المكابرة وعلى شواطئ جزيرة كوبا المعدمة.
ان ما حدث مؤخرا بين امريكا وروسيا من تعنت شيء مثير للدهشة والتوجس في آن واحد، لأن كل ما يجري بين هاتين الدولتين القويتين يؤثر على العالم سلباً او ايجاباً، خاصة على دول الشرق الأوسط ذات الثروات الطبيعية الضخمة.
في 14 ديسمبر وقَع الرئيس الأمريكي باراك أوباما قانونا يدعى “قانون ماغنيتسكي،” الذي يفرض قيودا على الأموال والسفر ضد الروسيين الذين تراهم امريكا منتهكي لحقوق الإنسان في روسيا. خطوة لم يجرؤ الاقدام عليها السياسيون الامريكيون من قبل، حتى عندما كانت الحرب الباردة في اشدها في الخمسينيات والستينيات.
وبالمقابل وبعد اعتماد ذلك القانون الامريكي بإسبوع، أجاز مجلس الدوما الروسي في 21 ديسمبر قانوناً جديداً حيز التنفيذ بعد توقيع الرئيس الروسي”فلاديمير بوتين” عليه، حيث يفرض حظراً على بعض المنظمات غير الحكومية في روسيا التي تمولها امريكا، ويمنع منح تأشيرات بدخول الاراضي الروسية لأمريكيين متهمين بإنتهاك حقوق مواطنين روسيين، ايضاً يفرض تجميد ارصدتهم. اضافة الى ذلك يمنع الامريكيين من تبني اطفال روس، حيث ان روسيا تحتل المرتبة الاولى في قضايا التبني في امريكا حسب ما تشير اليه الاحصائيات.
الآن ماذا يعني هذا القانون لنا نحن صغار القوم المطالبين بتحسين حقوق الانسان في اوطاننا؟ انه يعني كل ما يحدث حالياً في الشرق الاوسط وما ينتظرنا هو اعظم، حيث دول الغرب يغض النظر عما يجري فيها من انتهاكات سافرة لحقوق الانسان منذ قيام ربيع دامي سرق ثماره المتأسلمين في كل دولة ثار شعبها وطالب بحق العيش بكرامة.
ان التاريخ اليوم في شرقنا البائس يجتر نفسه ببلادة وبشكل مقزز وكريه، فكما حصل في ايران في 1979 حيث اُختطفت الثورة من ايدي الثوار الحقيقيين والقوى الوطنية، وسُلمت للمعممين والملتحين الذي ارتدوا مشالح الدين ليواروا عن الناس البسطاء رغباتهم في السلطة وطموحاتهم في الثراء. نرى ذلك يحصل اليوم في كل من تونس ومصر وليبيا وسوريا قادمة لا محالة.
الحرب قد تكون باردة بين امريكا وروسيا، لكنها حارقة وقاتلة في شرقنا ويدفع ثمنها كل يوم الناس البسطاء ودعاة حقوق الانسان الصادقين الذين يجرجرون للمحاكم بتهم ملفقة. لأن دولنا شاء لها القدر ان تنتمي للحلف الغربي، وهذا يعني ان الامم المتحدة مجتمعة، ومجلس الامن ومجلس حقوق الانسان بأغلبيته الساحقة سيركز على دول الحلف الآخر فقط، ويغض الطرف عما يجري في دولنا. فآخر تقرير صدر في 20 ديسمبر من الجمعية العامة للأمم المتحدة ادانَ انتهاكات حقوق الانسان الواسعة النطاق في كل من ايران وسوريا وكوريا الشمالية وصمت، وكأن باقي الشعوب المجاورة لتلك الدول تتمتع بكل الحقوق وتنعم بالحرية والعدالة والمساواة!
لا عزاء .. لا عزاء..لشعوب حكوماتها ليس لديها استقلالية عن كلا الحلفين الامريكي أو الروسي، لكن البؤس..بل كل البؤس لشعوب دول الخليج التي يُطلق عليها اليوم اسم “المحميات الستة”. اليوم صار الرجال في دول الخليج لا يستطيعون فتح افواههم حتى عند طبيب الاسنان، والنساء الخليجيات مهمشات عن الحياة السياسية وبعضهن عن الحياة العامة، ومازال اغلبيتهن يكافحن بشدة من اجل نيل ابسط الحقوق كقيادة السيارة.
مازالت حكومات الخليج تتمحور قممها حول تشديد القبضة الامنية على الناس، كما جرى في قمة الخليج الاخيرة التي عُقدت في المنامة في يوم الثلاثاء 25 ديسمبر، وينسى شيوخ الخليج ان اساس استقرار حكمهم هو العدل واعطاء كل ذي حق حقه، وليس زيادة عدد الثكنات العسكرية ونقط التفتيش المنتشرة في الشوارع والحارات. لكن من يستطع ان يصارح شيوخ الخليج بتلك العبارة من رؤساء العالم الغربي او الشرقي؟ لا احد.. ولا حتى رئيس الامم المتحدة “بان كي مون”.
ان احتدام الحرب البارة بين امريكا وروسيا صارت تفتك بالخليجيين مؤخراً خاصة الحقوقيين والاصلاحيين الذين يُزج بهم في السجون بتهم مفبركة. لذلك صار قوت شعوب الدول الخليجية اليومي هو الصمت والصبر الذي ليس له حدود على انتهاكات حقوق الانسان الصارخة وعلى الفساد المالي والاداري المستشري في كل المؤسسات الحكومية. فقد تعلموا الخليجيون ان يصبروا بصمت، وان لا يتوقعوا شيئا سوى السجن والتنكيل لمن يبدي رأيه حتى لو كان ذلك بقصيدة.
salameyad@hotmail.com
كاتبة من السعودية