في النهاية، وقّعت ايران إتفاقا مع “الشيطان الأكبر” بمواكبة من “الشيطان الأصغر” الراضي تماما عن الإتفاق على الرغم كلّ ما يصدر عن بنيامين نتانياهو رئيس الوزراء الإيرائيلي من ردود فعل توحي بالعكس تماما.
الهدف من الإتفاق واضح كلّ الوضوح. من جهة، هناك طمأنة اميركية لإسرائيل في شأن الملفّ النووي الإيراني. وهناك من جهة أخرى مليارات الدولارات ستحصل عليها ايران نتيجة الإتفاق. وقّعت ايران الإتفاق بعد مفاوضات طويلة مع مجموعة الخمسة زائد واحد لسبب في غاية البساطة.
تريد إنقاذ إقتصادها من الإنهيار التام لا أكثر ولا أقلّ… وذلك على خلفية هبوط اسعار النفط منذ ما يزيد على تسعة أشهر.
يستطيع الرئيس حسن روحاني وغيره من المسؤولين الإيرانيين الحديث عن إنتصارات وانجازات تحقّقت. كلّ هذا الكلام هو للإستهلاك الداخلي. تماما مثل كلام الرئيس باراك أوباما لذي سيواجه معارضة للإتفاق في الكونغرس. لذلك يحاول أوباما الذي وجد في الإتفاق الإيراني المكان الوحيد الذي يحقّق فيه إنجازا إقناع الكونغرس، من الآن، بأن هذا الإتفاق كان بديلا من حرب جديدة.
يتفاخر الإيرانيون بأنّ لديهم صبرا طويلا. يعطون دائما مثلا على ذلك المدة التي تمضيها عائلة واحدة في العمل من أجل شغل سجّادة. هذا صحيح. لكنّ الصحيح أيضا أن الريراني يبيع السجادة في أقلّ من خمس دقائق…أو لنقل بعد جدال وأخذ ورد ومساومات قد تأخذ نصف ساعة أو أكثر بقليل.
في اللعبة الدائرة مع الولايات المتحدة، لم تكن من حاجة للوصول إلى ما وصلت إليه إيران. أي حال حصار وعقوبات دولية جعلتها ترضخ في نهاية المطاف لشروط “الشيطان الأكبر” المحبوب جدّا من معظم أفراد الشعب الإيراني. بين الشعب الإيراني وأميركا حكاية غرام طويلة وقديمة. لم تكن الولايات المتحدة يوما ضدّ ايران. على العكس من ذلك، كان هناك دعم أميركي لإيران، حتّى إبان الحرب مع العراق بين العامين 1980 و 1988 وفي مرحلة ما قبل الحرب. من يتذكّر قضيّة “ايران غيت”…التي يتجاهل كثيرون أنّها حقيقة؟
في كتابه “الجاسوس الطيّب” الموثّق توثيقا جيدا، يشير الكاتب كاي بيرد إلى أنّ مسؤول الـ”سي. آي. إي” في المنطقة بوب إيمز كان أوّل من حذّر الإيرانيين بعد ثورة آية الله الخميني في العام 1979، إلى إمكان لجوء صدّام حسين إلى شنّ حرب عليهم. بالطبع، لم يأخذ المسؤولون الإيرانيون الجدد بالتحذير الأميركي. لجأوا إلى استفزاز الولايات المتحدة عن طريق احتلال سفارتها في طهران طوال 444 يوما.
كلّ ما في الأمر، أنّ النظام الإيراني اراد دائما استخدام العداء للولايات المتحدة بحثا عن شرعية ما. حارب الولايات المتحدة في كلّ مكان. كانت كلّ حروبه على حساب الإيرانيين ورفاههم وعلى حساب أهل المنطقة من العرب. هل يستأهل لبنان، على سبيل المثال وليس الحصر، ما حلّ به على يد ايران من أجل الوصول إلى الإتفاق الذيم تمّ التوصل إليه مع الولايات المتحدة؟ كم من مرّة فجرت ايران عبر عملائها، أو حاولت تفجير السفارة الأميركية في لبنان؟
طوال ما يزيد على خمسة وثلاثين عاما، إستثمرت ايران في كلّ ما من شأنه إثارة الغرائز المذهبية. فعلت ذلك في كلّ بلد عربي وحتّى في المملكة العربية السعودية التي عرفت باكرا كيف تضع حدا لمحاولات ايران “تسييس الحج”.
كان في استطاعة النظام في ايران التفاهم مع واشنطن منذ اللحظة التي أطيح فيها الشاه بمباركة أميركية. لم تكن من حاجة إلى كلّ هذا الخراب والدمار للوصول إلى النتيجة التي اسمها الإتفاق في شأن الملفّ النووي…لو كان في ايران عقل يسعى إلى البناء بدل التخريب من جهة والإمتناع عن الإستثمار في اثارة الغرائز الطائفية والمذهبية من جهة أخرى.
ماذا جنت ايران في لبنان غير الخراب الذي حلّ بلبنان؟ ما هو المشروع السياسي والإقتصادي لإيران في لبنان؟ هل عزل لبنان عن محيطه العربي هدف بحدّ ذاته؟
ما ينطبق على لبنان ينطبق أيضا على سوريا والعراق والبحرين واليمن وحتّى السودان. ماذا جنت ايران من كلْ استثماراتها في هذه الدول العربية؟ ماذا جنّت من المتاجرة بالقضية الفلسطينية ومن “يوم القدس” الذي ليس سوى وسيلة للمزايدة على العرب بهدف احراجهم؟
بعد كلّ هذا الخراب والدمار، عادت ايران إلى الحضن الأميركي الدافئ بمباركة اسرائيلية. كان في استطاعتها أن تفعل ذلك قبل ستة وثلاثين عاما، لكنّها فضّلت نسج السجادة التي ما لبثت أن باعتها في مرحلة لم يعد امامها سوى الإستسلام للشروط المفروضة عليها.
العالم كلّه، بما في ذلك العرب، يعرف أنّ المشروع النووي الإيراني كان حجة استخدمها المجتمع الدولي، بمباركة اسرائيلية، لتطويع ايران. كان من الأفضل الوصول إلى النتيجة التي أمكن التوصل إليها قبل سنوات عدّة. كان ذلك سيوفّر على المنطقة الكثير من العذابات. ولكن ما العمل عندما يكون في نيّة ايران لعب الدور المطلوب منها أن تلعبه أميركيا واسرائيليا؟
هل كانت اسرائيل يوما ضدّ أن تكون جبهة جنوب لبنان جرحا ينزف…على حساب لبنان واللبنانيين وأهل الجنوب تحديدا؟
صبّ الدور الإيراني ولا يزال يصبّ، للأسف الشديد، في تفتيت المنطقة. أين المشكلة الأميركية والإسرائيلية مع هذا الدور؟ أين المشكلة الأميركية والإسرائيلية في تقسيم العراق بواسطة الميليشيات المذهبية التابعة لأحزاب تتلقى تعليماتها من طهران؟ أين المشكلة في أن لا تقوم لسوريا قيامة في يوم من الأيّام؟
في ضوء الإتفاق النووي،هناك سؤال وحيد مطروح: هل تتغيّر ايران؟ من الصعب الإجابة عن السؤال. لكنّ تجارب الماضي لا تشجّع على التفاؤل، خصوصا أن ليس في طهران من على استعداد للقيام بعملية نقد للذات. تشمل هذه العملية الإعتراف بأنّ سياسة عمرها ستة وثلاثين عاما لم تأت على ايران والإيرانيين وعلى كلّ منطقة الشرق الأوسط سوى بالخراب والبؤس. كان في استطاعة ايران التوصّل إلى ما هو أفضل بكثير من اتفاق فيينا قبل سنوات طويلة، أي قبل متابعة سياسة الإستثمار في كلّ ما من شأنه التخريب ولا شيء آخر غير التخريب. هناك شيء اسمه البناء. تستطيع ايران الإستعاضة عن دورها التخريبي بدور بناء يخدم أوّل ما يخدم شعبها.
لعلّ الشرط الوحيد لحصول عملية الإنتقال هذه، من التخريب إلى البناء، تخلي طهران عن وهم الدور الإقليمي. الحضارة الفارسية حضارة قديمة ومهمّة. لا خلاف في شأن ذلك. لكنها ليست كافية للعب دور مهيمن على الصعيد الإقليمي، خصوصا عندما يكون نصف أهل البلد دون خط الفقر!!!