هناك رابحان وخاسرون في اتفاق الدوحة. الرابح الأكبر هو مشروع الدولة. فقد آلت الأمور، في أعقاب الحوادث الدامية في بيروت والجبل والشمال والبقاع، إلى احتلال مشروع الدولة الأولوية على جدول عمل الأزمة، وتقدمه على مشروع الفوضى الدستورية، أو التعطيل الدستوري الذي تمثل بإقفال المجلس النيابي وشل الحكومة ومؤسساتها والتهديد بالعصيان المدني، الخ. نأخذ في الاعتبار أن مشروع الدولة، كفكرة ومفهوم وطموح، هو غيره كممارسة وتجسيد من جانب أهل السلطة، الذين لم تكن خطتهم لبناء الدولة ترمي إلى تطوير بنية النظام بقدر ما كانت تهدف إلى توظيف حصتهم من السلطة في مواجهة خصومهم من جماعة 8آذار ومن ورائهم سوريا وإيران.
تثبيت هذا الربح يقتضي، بعد انتخاب رئيس الجمهورية، أن يصدق فريق 8 آذار القول بالفعل، فيعمل على تثبيت سلطة الدولة، استنادا إلى الدستور وإلى اتفاق الدوحة وإلى أبسط المبادئ في قيام دولة القانون، بدءا بقانون السير وانتهاء بقانون الضرائب مثلا، وأن يكف الموقعون على اتفاق الدوحة جميعهم عن التعامل مع الدولة كحقل سياسي مالي واقتصادي وإداري وأمني وتنموي يتحاصصونه على طريقة الإقطاعات القديمة ومالكيها وفلاحيها، بالمرابعة والمخامسة والمزارعة، الخ. ( على غرار ما فعلوا بقانون الانتخاب مثلا )، وإلا فإن الربح الوطني، في هذا المجال يكون، من دون أدنى شك، منقوصا.
الرابح الثاني هو شخص رئيس الحكومة الذي ظهر بقامته السياسية العالية، رجل دولة من طراز رفيع، على اللبنانيين الآن، وعلى التاريخ لاحقا، أن ينصفوه فهو الذي حمى، بموقفه الصلب والثابت والعنيد، آخر مواقع الشرعية الدستورية، شرعية الدولة، التي حوصرت على مدى عامين، متعاليا على ما رمي به من أنواع التهديد والوعيد والويل والثبور، ومن صنوف التخوين، فحافظ، رغم كل شيء، على هدوء رصين لا يتقنه إلا رجال الدولة الكبار، وعلى خطاب صان فيه آداب التخاطب وحمى فيه القيم السياسية والاجتماعية والأخلاقية، وأسس فيه مدرسة في القول والكتابة ينبغي أن يتعلم منها سياسيو لبنان، لا سيما أولئك الذي انتهكوا حرمة التخاطب وآداب السجال، واستسهلوا تناول الكلام إسفافا وقلة تهذيب.
أما فريق الأكثرية،، مع أنه أثبت حرصا رفيع المستوى على الوطن ووحدته وعلى الحؤول دون زجه في حرب اهلية طائفية أو مذهبية فقد ارتكب أخطاء تكتيكية فادحة، ربما لأنه تشدد حيث الحاجة إلى اللين وتراخى حيث الحاجة إلى التشدد، ما أوقع الفريق مجتمعا في خسارة معنوية على يد أمل حزب الله وبعض ملحقاتهما، من خلال استعراض القوة في بيروت، والهجوم غير الناجح في الجبل.
على أن الرابح الأكبر هو لبنان والشعب اللبناني.
أما فريق الثامن من آذار، فقد خسر بالجملة وبالمفرق، لأن أطرافه، بعد أن لم “يبقوا للصلح مطرحا”، بالتهديد والوعيد والتخوين والتخييم، بالسبابات وبالبنادق، بالتشبيح على القانون والمنطق وعلى الشركاء في الوطن، الخ. وبعد أن فضلوا “الوفاء لسوريا” على التضامن مع الضحايا اللبنانيين، رحوا يعانقون “الخونة واللصوص والمتآمرين والمتأمركين ومغتصبي السلطة وأنصار الحكومة اللاشرعية واللاميثاقية واللادستورية، الخ.” ويوقعون معهم صلحا واتفاقا، كأن شيئا لم يكن، ولا “براءة الأطفال”.
خسروا بالجملة، مع أن بعض المواقف التفصيلية التي ترافقت مع معركة بيروت والجبل، على إيجابيتها النسبية، وهي كلها مواقف أطراف غير أساسيين في المعارضة، لا تعدل في منحى النتائج النهائية للمعركة وللاتفاق،لأن هؤلاء خسروا جميعا ما لا يمكن تعويضه باتفاق وبغير اتفاق.
بإمكان الخاسرين التعويض على جمهورهم وإقناعه بالحديث عن انتزاعهم “الثلث الضامن”، فضلا عما “أنجزوه” قبل الدوحة، بمنعهم الحكومة من الحكم، وبقدرتهم المادية على إقفال البلد وتعطيل الاقتصاد، وقدرتهم على الانتشار العسكري على رقعة تغطي ما يفوق المربعات الأمنية الشيعية وضواحيها القريبة، وقدرتهم على محاصرة الخصوم حصارا غير مسبوق، لم يكن ينقصه سوى القبض عليهم أسرى، والعفة عند المقدرة، غير أن الذي وصلوا إليه لم يكن أبدا ما كانوا يطمحون إلى الوصول إليه. فقد عاد رئيس الحكومة ثابت الخطى من غير أن يقدم استقالته لغير رئيس الجمهورية، ورفع الاعتصام من الساحتين بسرعة مذهلة، كأن لقاء الدوحة جاء ليحل مأزقأ غير مرئي للمعتصمين، أو بعبارة أخرى، كأن المعتصمين كانوا أكثر حاجة لفك الاعتصام من حاجة الآخرين إليه.
الخاسرالأكبر هو الجنرال عون، ويليه الرئيس بري.
خسارة الأول متعددة الأوجه.فهو خاض من البداية إلى النهاية معركة داخل الصف المسيحي لمنافسة الكتائب والقوات على تمثيل الشارع المسيحي، ولم يستطع أن يضفي على معركته أي طابع وطني، بالرغم من توقيعه ورقة التفاهم مع حزب الله. وقد فعل المستحيل ليلغي شرعية الحكومة المتهمة، من قبله، بأنها تعبير عن تمثيل مزور للإرادة الشعبية وبأنها تشكل غطاء غير شرعي أيضا لممثلي الطائفة المسيحية داخل الحكومة، وكان مطلبه الأساسي طيلة مراحل الأزمة الاحتكام إلى انتخابات مسبقة وإلى حل المجلس النيابي، وكانت هذه نقطة التقاء أساسية مع دور رئيس المجلس النيابي، من أجل إلغاء شرعية المجلس من غير انتخابات.
وهو قدم نفسه لمواطنيه ولناخبيه بعباءة علمانية، لكنه لم يستطع أن يخطو ولو خطوة واحدة في نهج المواجهة الذي اختاره، خاصة وأن معركته مع تيار الحريري تغلفت بغلاف الدفاع عن مصالح المسيحيين الذي ” انتهك ” الطائف والحريري حقوقهم، أي حصتهم في السلطة، وهي حصة كان ينبغي أن تؤول، من وجهة نظره، إلى الأكثر تمثيلا بين المسيحيين، أي التيار العوني. بذلك سقط قناع العلمانية، وزاد في الطين بلة تفاهمه مع حزب الله، الذي قد يجد وجوه فائدة فيه، إلا وجه العلمنة.
وهو كافح من أجل الوصول إلى الرئاسة الأولى حتى باتت هذه الرغبة الجامحة طاغية على كل سلوكه السياسي، وجعلته على الدوام مضطربا قلقا متوترا مع من حوله، وخصوصا مع وسائل الإعلام، حتى باتت هدفا في حد ذاتها عطل عليه البروز في صورة رجل الدولة المتعالي على المصالح الشخصية.
وهو قدم نفسه مدافعا عن السيادة والحرية والاستقلال، مستفيدا من سيرة ومسيرة أنصاره الذين دفعوا ثمنا غاليا في فترة غيابه القسري في فرنسا، من خلال المواجهات مع النظام الأمني اللبناني السوري. قد يكون فريق الأكثرية أخطأ تقدير قوته، بعد عودته من المنفى، فاستفاد من هذا الخطأ في تعزيز دوره ممثلا قويا في الشارع المسيحي، غير أنه بدد المكاسب التي جناها حين حاول أن “يثأر” من منافسيه بالتحالف مع خصمه وخصمهم، أي النظام الأمني المشترك، والانحياز عمليا، ولو أنكر هو ذلك، للموقف السوري ذي المصلحة في تعطيل المؤسسات الدستورية، رئاسة جمهورية ومجلسا نيابيا وحكومة.
أخيرا، إذا كان كل طرف من الموقعين على اتفاق الدوحة قد وجد في الاتفاق ما يعتبره مكسبا له، فإن الجنرال لن يجد نفسه معنيا بأي شيء منه، لأنه لم يمنح حصة في أي بند من بنوده.حتى قبل التوقيع لم يمنح من صلاحيات النطق باسم المعارضة سوى إدارة تقطيع الوقت، حتى إذا ما نضجت ظروف الحل استعيدت منه هذه الصلاحية اللفظية علنا، من خلال دعوة الرئيس بري إلى الحوار متخليا عن شروط من غير التشاور، على ما رشح، مع العماد عون…
لهذا كله يمكن القول إن الجنرال كان ضيفا على مؤتمر الحوار، ولم تؤخذ مواقفه ولا مصالحه بعين الاعتبار، فخرج منه خالي الوفاض.
خسارة الرئيس بري أقل انكشافا. ذلك أنه كان طرفا في الهجوم العسكري على بيروت الغربية، حيث ارتفعت أعلام حركة أمل، ونسبت أعمال التخريب إلى محازبيه، وفسرتها بعض الأوساط من باب توريط حزب الله في أعمال منافية لمناقبية الحزبيين، وذلك لغاية في نفس يعقوب. وهو كان كذلك طرفا رئيسيا في الحوار الذي دار قبيل مؤتمر الدوحة وخلاله، خصوصا من خلال مسعاه التوفيقي، وغير الموفق، بين السعودية وسوريا، وظل ناطقا باسم المعارضة، وهو الذي بشر برفع المخيم، وهو الذي أمر مستشاره السياسي بتغيير مضمون تصريحه الشهير ضد الاقتراحين القطريين… باختصار، ظل الرئيس بري، حتى ما بعد انتهاء المؤتمر، وتحديدا حتى انتخاب رئيس الجمهورية، طرفا أساسيا في الأزمة وطرفا أساسيا في حلها.
لكل هذه الأسباب لا يمكن إجراء حساب ربحه وخسارته بطريقة تبسيطية بل بطريقة مركبة.
الرئيس بري مثل الجنرال لبس عباءة العروبة والعلمانية في مواجهة النزوع الفارسي والأصولي لدى حزب الله، فجاءت المعارك الأخيرة لتخلع عنه هذه العباءة، لأن تنافسه مع حزب الله على الشارع الشيعي يشبه تنافس الجنرال مع القوات على الشارع المسيحي. إنه تنافس على الطائفة من داخل الآليات الطائفية والمذهبية، وليس بالوسائل العلمانية. كما أن المسافة بين العروبة والتفريس قد تبددت في سياسة التحالف السوري الإيراني، ما انعكس سلبا على تمايزه النظري والعملي عن حزب الله.
من ناحية أخرى، نشأت حركة أمل على نهج قوامه الدفاع عن الشرعية في مواجهة من وقفوا ضد الشرعية، أي منظمة التحرير الفلسطينية وحلفائها في الحركة الوطنية اللبنانية، لا سيما منهم الشيوعيين، وذلك في معارك مكلفة في الجنوب اللبناني والضاحية الجنوبية، قبل الاجتياح الاسرائيلي في حزيران 1982. وما أن وصلت حركة أمل إلى السلطة حتى جسدت موقفا مغايرا تماما، فاعتمدت في بداية الأمر موقف الدفاع عن امتيازات مزعومة أنها شيعية، وإذا صح أنها كذلك، فهي دفاع عن دولة المحاصصة لا عن دولة القانون، أي عن دولة كان طابع التحاصص فيها هو الذي دفع بها، فضلا عن أسباب أخرى طبعا، إلى لجة حرب أهلية طاحنة.أيا يكن أمر تلك المرحلة، فموقف حركة أمل تماهى كليا، خلال الأحداث الأخيرة، بموقف حزب الله، بحيث لم يعد هناك ما يميزه لا في علمانيته ولا في عروبته، ولا في دفاعه عن الشرعية، وهو المتهم من قبل فريق من اللبنانيين بتعطيل المؤسسسة الدستورية الأم التي يرئسها، والمتهم بموقف ملتبس من الحكومة وشرعيتها، حيث كان وزراؤه معلقين بين الاستقالة وعدمها.
من ناحية ثالثة، انتقل موقف الرئيس بري من الاعتدال الذي كان قد وفر له موقعا مقبولا بين المتخاصمين، إلى الانحياز الذي حرمه الغطاء الوطني الجامع وجعله طرفا في الصراع حول المقاومة كجهاز لا كقضية. فهو جزء من قضية المقاومة لكنه ليس جزءا من جهازها، والدفاع عنها في الأحداث الأخيرة كان دفاعا عن جهازها وسلاحها لا عن قضيتها. فإذا كان حزب الله ارتضى لنفسه، دفاعا عن نفسه وعن جهازه وعن أمنه (بصرف النظر عن صحة موقفه أو عدم صحته)، أن يخوض معركة مصيرية بالنسبة إليه، فالمعركة بالنسبة إلى الرئيس بري لم تكن مصيرية إلا بمقدار ما كان يشعر بالخوف من خسارة قواعده الشعبية الشيعية، في ظل ارتفاع منسوب الشحن المذهبي إلى حده الأقصى. غير أن الخوف من خسائر سياسية شيعية أوقعه، على ما نظن، في خسائر طالت موقعه الوطني، كنقطة التقاء بين متنازعين يعلقون الأمل عليه كطرف محايد، الأمر الذي جعله غير مقبول في الوساطة الداخلية، وجعل قطر تبادر إلى لعب دور الوساطة، بعد أن صار لبنان مفتقرا إلى وسيط داخلي.
من ناحية رابعة، لم يقدم اتفاق الدوحة للمعارضة شيئا غير الثلث ( الضامن أو المعطل) وهو مكسب متأخر، أفقده التأخر صفة المكسب. وبهذا المعنى فإن الرئيس بري نال من المعارك غرمها دون غنمها، لأن الغنم، فضلا عن كونه لا يؤخذ إلا غلابا، أي بقوة موازين القوى، فهو غنم من حصة المقاومة وتمثل بإرجاء البحث في مسألة سلاحها إلى ما بعد انتخاب رئيس الجمهورية. إلا إذا كان الرئيس بري يعتقد أن طرح مسألة السلاح والمربعات الأمنية على جدول عمل الحل يمهد أمامه السبيل إلى استعادة بعض من شعبيته التي صادرها حزب الله بقوة موقعه ونفوذه وإمكاناته بين الشيعة ولدى سوريا وإيران؟
كان أجدى للرئيس بري لو تشدد في الموقف من قانون الانتخاب على أساس النسبية والدائرة الواحدة، أو على الأقل المحافظة، احتراما للطائف، بدل الاستعجال في إقرار قانون القضاء الذي سيجعله في موقف لا يحسد عليه في الانتخابات المقبلة، إلا إذا كانت حسابات الأفرقاء جميعا، في المعارضة كما في الموالاة، مبنية على احتمال دخول الاتفاق في نفق العرقلة، بانتظار ما ستستقر عليه المفاوضات الإقليمية ؟ أما إذا ما وضع الاتفاق موضع التنفيذ، فإن التسابق على الحصص سوف يكون محصورا داخل كل طائفة لا بين الطوائف، وهو في حالة الرئيس بري، تنافس بين حركة أمل وحزب الله، لن تكون هي الرابحة منه.
حسابات الربح والخسارة لدى حزب الله أكثر تعقيدا وتركيبا. نكتفي بتكرار اعتقادنا بإن حزب الله كان جادا في البحث عن مخرج من مأزق المخيم، أي مأزق التنازع بين انتمائه الوطني اللبناني وتحالفه مع سوريا وإيران، وقد يكون موقف الأكثرية المتشدد حيال سياسة هاتين الدولتين في لبنان قد ساهم في دفع الأمور إلى حيث اندفعت، بحيث صار ” وقع السهام ونزعهن أليم ” على ما قال الشاعر ؛ كما نكتفي أيضا بتكرار مناشدتنا حزب الله أن يوظف إمكاناته الكبيرة في خدمة بناء دولة القانون التي لا خلاص للبنانيين من خارجها، لأن البديل عن ذلك هو تعريض ما يعتبره أنجازه التاريخي في التحرير لخظر التوظيف من جانب قوى خارجية، ولو على حساب حزب الله ومقاومته وعلى حساب الوحدة الوطنية اللبنانية.
moukaled47@hotmail.com
* كاتب لبناني