هناك رجال تتعرّف عليهم. منهم من يبهرك، ومنهم من لا يعني شيئا، كما لا يمكن أن يعني لك شيئا، لا اليوم ولا غدا ولا في يوم من الأيّام. هناك في المقابل من يزداد الإعجاب به كلّما زادت معرفتك بالشخص وبتواضعه وشهامته وأخلاقه ووفائه وحبّه للآخر وقدرته على العطاء والتعالي على السخافات والسخفاء في الوقت ذاته. كلّما اكتشفت هذا النوع من الرجال اكثر، زاد اعجابك بهم.
بين هؤلاء، بين رجال الرجال، محمّد خلف المزروعي (ابو خلف) الذي فقدناه قبل أيّام. كان رجلا مختلفا. لم يكن كريم النفس أوّلا في كلّ شيء فحسب، بل كان ايضا وطنيا صادقا على استعداد لبذل حياته من اجل دولة الإمارات وما تمثّله من ارث حضاري في منطقة ندر فيها الأوفياء من الذين انتموا إلى مدرسة الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، رحمه الله، وساروا على خطاه وعلى خطى ابنائه.
كان “ابو خلف” ينتمي إلى اولئك الذين وضعوا الوفاء والشهامة فوق كلّ اعتبار. كان بكل بساطة من مدرسة الشيخ زايد الذي لم يكن شيء يحدّ من عطائه ووفائه وحبّه لبلده. كان من مدرسة ابناء الشيخ زايد ايضا، من مدرسة تجمع بين البساطة والتواضع والإيمان بالإماراتيين والقدرة على الإعتماد عليهم في بناء الدولة ومؤسساتها.
تتعلّق بـ”ابو خلف” الذي يبهرك انضباطه وطريقة عمله والتنظيم الدقيق الذي يرافق كلّ مشروع يتولاه ويؤمن به، خصوصا اذا كان مشروعا ثقافيا او مرتبطا بالتراث أو الإعلام. الرجل كان بين القلائل الذين جمعوا بين حبّ التراث ومعرفة كيف تكون المحافظة عليه وتنميته من جهة وبين كلّ ما هو عصري من جهة أخرى.
يبدأ الإنضباط عند “ابو خلف”، بـ”ابوخلف ” نفسه. يبدأ ببساطة الرجل وتهذيبه ومواعيد الأكل في بيته المفتوح. الغداء عند الظهر تماما. العشاء في الثامنة مساء. في أبو ظبي، في استطاعة أي شخص دخول المنزل الأنيق والمتواضع في الوقت ذاته والتوجه مباشرة إلى غرفة الطعام أو إلى المجلس. في استطاعة أي شخص اكتشاف مدى تعلّق “ابو خلف” ببلده والتأكّد من ذلك، من خلال اللوحات التي تزين غرفة الإستقبال الكبرى في المنزل.
كان “ابو خلف” منفتحا على الجميع. كان مجلسه يجسّد هذا الإنفتاح. تجد العراقي واللبناني والسعودي والسوري… وتجد بين حين وآخر شخصيات عالمية على علاقة بالثقافة والسينما والإعلام. كان الرجل اشخاصا عدّة في شخص واحد. كان قادرا على الدخول في حوار مع البدوي البسيط “مربوع” الموجود دائما في مجلسه، ومع كبار رجالات صناعة السينما في هوليوود.
كان ابن بيئته وكان في الوقت ذاته ينتمي الى العالم. كان يتنقل مرتاحا في البادية، كما كان يتنقل مرتاحا في بيروت وباريس ولندن وجنوب فرنسا أو في هذه المدينة الأميركية أو تلك. كان في كلّ مكان يحلّ فيه مع رفاقه الشخص ذاته، خصوصا متى تعلّق الأمر بالتهذيب والبساطة والتواضع والإنفتاح على الآخر والإستماع اليه.
ما ميّز محمد خلف المزروعي في كلّ وقت ومكان كانت تلك القدرة على صنع النجاح. في النهاية، لا شيء ينجح مثل النجاح. كان نجاحه يزداد نجاحا عندما كان يُوظّف في مصلحة بلده. وقد كافأه بلده عندما سمّي “رجل العام” في الدولة. لم يكن يعتقد في أيّ لحظة أن النجاح نجاحا لشخصه. كان يفكّر في كلّ لحظة كيف يمكن توظيف هذا النجاح في خدمة الإمارات.
انتمى “ابو خلف” إلى ذلك الجيل من الشباب الإماراتي الذي آمن بالعلم والكدّ والعمل. لم تخدعه مظاهر الثروة. كان يؤمن، من خلال الحديث معه، بأنّ العمل المنتظم والمنضبط للشاب الإماراتي المتعلّم هو الثروة الحقيقية للبلد. فأي ثروة طبيعية يمكن ان تنضب يوما. ما يبقى هو ثروة الإنسان. كان يعمل يوميا على تنمية الثروة الإنسانية عن طريق العلم والعمل. اكثر من ذلك، كان يحضّ الإنسان الإماراتي على الرياضة. كان معظم الذين في مجلسه من الشباب من ذوي الأجسام الرياضية. كانوا يسعون دائما إلى السير على خطاه في مجال ممارسة الرياضة، بما في ذلك اللحاق به عندما يركب درّاجته.
غياب “ابو خلف” خسارة لا تعوّض. الخسارة ليست للثقافة فقط ولمن كان وراء “شاعر المليون” الذي جسّد بالملموس عملية احياء التراث الشعبي في الخليج. الخسارة هي خسارة رجل كان يمتلك رؤية سياسية مبنية على خبرة طويلة. لم يتردّد يوما في الدفاع عمّا كان يؤمن به، ولكن بهدوء وتعقّل كبيرين.
لكنّ اكثر ما كان يعرفه ويدركه يتمثّل في أن دولة الإمارات التي اسّسها الشيخ زايد، هي دولة الإعتدال قبل أي شيء آخر. إنّها دولة حضارية تستثمر في شبابها وفي تطوير البرامج التعليمية. تستثمر في تعليم الشاب وتثقيفه وجعله يتقن اللغات العالمية، على رأسها الإنكليزية. الأهمّ من ذلك، أنّه كان يحثّ على التخلي عن الإتكالية والتزام دوام العمل بدقّة، بغض النظر عن المغريات. وما اكثر المغريات لمواطن اماراتي…
يصعب العثور على صديق مثل “ابو خلف”. كان رجلا محبّا بكلّ معنى الكلمة. كان يشرف بنفسه على الإهتمام بتفاصيل التفاصيل. يسألك هل اكلت جيدا؟ هل انت مرتاح؟ هل هناك ما ينقصك؟
لم يعرف الكره. كان يحتقر الكره والحقد والنميمة. من غاب عن مجلسه من الإنتهازيين، سرعان ما عاد اليه. كان العائد يُستقبل بالطريقة نفسها، أي بالترحاب. لم يكن هناك من يريد اشعاره بأنّه كان لغيابه أي اثر من أيّ نوع كان.
ليس غياب “ابو خلف” مجرّد غياب لصديق عزيز يذكّرك كلما جلست إلى جانبه بأن هناك من تستطيع الإعتماد عليه. “ابو خلف” الذي غاب كان اكثر من صديق. كان الوفاء في عالم صارت فيه هذه الصفة عملة نادرة.
من غاب كان رجلا ليس كبقية الرجال. كان بين القلائل الذين يستطيعون أن يكونوا الشخص المتواضع ذاته في حضرة الملوك والأمراء والشيوخ وكبار الشخصيات العالمية… ومن خلال التعامل مع الشخص البسيط الذي يخدم ضيوفه في منزله. كان بالنسبة إلى معظم الذين عرفوه، الأخ والصديق. كان فوق ذلك كلّه رمزا للوفاء والوطنية والنجاح. إنّه رجل العام وكلّ عام آت…في عالم قلّ فيه الرجال الرجال.
“ابو خلف” رجل لا يعوّض. كان يختم حديثه معك بعبارة “الله لا يحرمنا منك”. حرمنا الله منه. لا ظلم لنا، نحن اصدقاؤه، اكبر من هذا الظلم!!!