قبل 5 سنوات من قضية إيمان العبيدي كانت “هيومان رايتس ووتش” قد نشرت تقريراً حول مصير ضحايا الإغتصاب في ليبيا. وكشفت المنظمة الدولية المصير المفجع لـ”الضحايا” اللواتي يتحوّلن إلى “مُذنبات” في نظر أهلهنّ الذين “يتخلّصون” من الضحيّة بوضعها في “مأوى” لا يختلف كثيراً عن مأوى الكلاب الشاردة. صفحة من “البربرية” نأمل أن تُطوى مع انبثاق فجر جديد على ليبيا:
“الشفّاف”
*
طرابلس الغرب، الذي يعج بالصحافيين والاجانب ورجال الامن، تطلّ فجأة فتاة حسناء، ترتدي عباءة سوداء، في حالة من الانفعال والارهاق الشديدَين، والبكاء المتواصل، تصرخ بكل ما تبقى لها من قوة، قائلة انها اغتُصبت وعُذّبت من قبل 15 رجلا من كتائب القذافي. عاملات في الفندق، من ذوات البنية المتينة، ليست معروفة تماماً وظائفهن، يحاولن، بما يمتلكن من فظاظة، تغطيتها بقماش أسود سميك. انهن ربما «نساء الأمن» في البهو. لكن الغضب الذي يملأ الفتاة يمنحها قوة تسهّل عليها التفلّت من قبضاتهنّ؛ وأثناء محاولتها هذه، ينْزاح طرف عباءتها السوداء، فنرى جروحاً وندوباً ودماء. تهرع الفتاة نحو الصحافيين، حيث يمكن تصويرها بدقة أكبر. ثم تعود وتروي قصتها: إغتصاب تعذيب إحتجاز… ولمدة يومين متواصلين. الصحافيون الأجانب يقتربون منها، يحاولون التحدّث اليها، لكن هذه المرة يتدخّل رجال الامن، يدفعون هؤلاء بشراسة، يجرّونها بعنف الى الخارج، يستعجلون وضعها في سيارة تبدو كأنها تنتظرها… وينطلقون بها الى جهة مجهولة… وهي تصرخ وتبكي وتحاول التفلّت ايضا، ولكن هنا أيضا من دون جدوى، فقبضة رجال الأمن أقوى من قبضة نسائه…
كل هذا شاهدناه على اليوتيوب، وقد بثّته بعض الفضائيات، لمرات. التصوير لم يكن احترافياً. ربما صودرت كاميرات المراسلين الاجانب، ربما منعوا من التصوير، ربما لم يحلقوا؛ لا نعرف بالضبط، فالواقعة دامت لحظات وكانت مباغتة، والتدافع على أشدّه.
نعلم بعد ذلك ان الفتاة اسمها إيمان العبيدي، عمرها 28 سنة، محامية، تسكن تبوك، أي شرق ليبيا، وكانت آتية الى طرابلس الغرب لمتابعة دراسة لها في معهد القضاء. وان الصحافيين الاجانب الذين حاولوا انقاذها من أيدي رجال الأمن طُردوا من ليبيا على عجَل.
التلفزيون الليبي لا يتأخر بتوصيف كل هذا الذي حدث: إيمان العبيدي، «مخبولة»، «بنت هوى»، «سكّيرة عربيدة»… وان «الحكومة» الليبية سوف تقاضيها بتهمة الإفتراء على أبطال القذافي «الشرفاء«…
ولا تمضي أيام على الواقعة، حتى تعود إيمان فتظهر على شاشة الـ»سي ان ان». الى جانبها ساعدي القذافي، الإبن الأصغير للقذافي: تؤكد في هذه المقابلة على الاغتصاب والتعذيب والخطف بحقها، وتعلن انها تريد احترام حقوقها واستعادة كرامتها، وتتابع ان الاشخاص الذي ارتكبوا هذه الجريمة «ما زالوا طليقين». وتناشد أهلها لمواصلة العمل على عودتها الى ديارها. بعد ذلك تختفي ايمان العبيدي، ويبقى مكانها مجهولاً…
ردّة الفعل على الضفة الاخرى من ليبيا، حيث يسيطر الثوار، هي ايضاً غير مسبوقة: أهلها أولاً، الذين يعتزون بها وبشجاعتها، يكشفون عن وجوههم بفخر، ويعلنون على الشاشات إدانتهم للقذافي ورجالاته. «المجلس الوطني الانتقالي»، ثانياً، يناشد المجتمع الدولي ومنظمات حقوق الانسان إجراء تحقيق في قضيتها، فيما يطالب الناطق باسمه، ونيس الدرسي، بتعقّب القذافي ومعاقبته على ما اقترفته كتائبه تجاه إيمان العبيدي. ثم يضيف أن ثورة 17 فبراير لن تتنازل عن حقوقها مهما كان الموقف، وانها ستعلن عن متابعة «كل المتورطين في قضية هذه الفتاة وشرفها». ويختم كلامه بالتوجّه إلى كل امرأة في العالم طالباً منها «تسجيل تاريخ الاعتداء على إيمان العبيدي ليكون يوماً لحرية المرأة في كل زمان ومكان«.
اما الجهة الثالثة صاحبة ردّة الفعل على الواقعة، فهي العدد الغفير من الشباب العرب الذين تقدّموا لخطبة إيمان، منهم ليبيون ومنهم غير ليبيين. والمحظوظ من بينهم، شاب من بنغازي، اسمه المنبي (34 عاما) أعلنت إيمان العبيدي موافقتها على طلبه الزواج منها، يروي المنبي رحلة بحثه عن «خطيبته»، يقول: «سألت عن عائلتها وأهلها حتى توصلت إلى أنها تسكن مدينة طبرق … وشعرت بفرحة كبيرة بعدما علمتُ بأنها غير مرتبطة، وسارعتُ لخطبتها لأنني أردتها زوجة لي بسبب موقفها البطولي المشرّف». وأضاف «إن صرخة إيمان من معقل الغول ومن داخل بطن الحوت ومشهد الصحافي الأجنبي الذي كان يدافع عنها أثّر فيّ وولّد لديّ القهر والألم». هذا وقد عقدت حفلة الخطوبة بعد موافقة ايمان بساحة الشهداء في طبرق، بحضور أهالي المدينة والأهل والأعيان.
اما على الفايس بوك، فقد أنشئت صفحة «كلنا أهل ايمان العبيدي»، تحولت مع الوقت الى ما يشبه صفحة «كلنا خالد سعيد» المصرية التي كانت واحدة من
شرارات ثورة 25 يناير (كانون الثاني) المصرية: وعاء يتابع ذيول الجريمة التي كانت ضحيتها، ويرصد كافة الجرائم القذافية الباقية بيومياتها ودقائقها.
إيمان العبيدي قامت بفعل غير مسبوق: لم تكتفِ بالإعلان عن جريمة تسكت عنها الغالبية العظمى من النساء العربيات اللواتي يتعرّضن لها. بل سبقت الجميع بأنها حرصت على ان تصل أخبار هذه الجريمة الى العالم بأسره. ناضلت بكل ما ملكت من قوة الغضب لتفلت من أيدي الصمت الحديدية، لكي توصل رسالتها: انا ايمان العبيدي، كنت ذاهبة الى طرابلس، واذا بحاجز لكتائب القذافي…(بين الدمعة والاخرى). كيف استطاعت ان تتكلم، وجروحها ما زالت مفتوحة؟ من أين اتتها هذه الشجاعة؟ هذه القوة؟ كيف نطقت بهذه بالكلمات، هي ابنة البيئة المحافظة، الأشد محافظة من بلدان عربية اخرى تخرس نساؤها وتنزوي وتكره الدنيا، والدنيا تكرهها، لو تعرّضت لهكذا اعتداء؟
غير المسبوق أيضا: كل ردود الفعل على الجريمة التي كادت ان تكون ضحيتها… مجرّد ضحية، لا اسم لها ولا وجه. خصوصا ردّة الفعل الآتية من العرسان المفترضين: في «العرف» ان التي تتعرض للإغتصاب، يسعى أهلها لستر فضيحتها بتزويجها من المغتصب، وفي غالب الاحيان تحت الضغط وبالنفوذ المُتاح. فتكون رحلة اضافية لتجديد الإغتصاب الزوجي الذي لا يُعترف به قانوننا… رحلة جهنمية، تدمَّر خلالها حياة امرأة لم تقترف غير ذنب وقوعها، في لحظة من لحظات القدر، بين يديّ مجرم جنسي.
في الأساس الاغتصاب سلاح طرف ضد خصم هانت قواه، فكانت نساؤه عرْضة لاستباحة جسدهن، هي الدليل الساطع على الانتصار. هكذا كانت الجيوش تتصرف في الزمن القديم، من دون ان يكون لهذا العالم أية فكرة عن معنى حرمة جسد المرأة وسلامته. الانتصار في حرب هو انتصار على جسد نساء المهزوم… وحتى العصور الحديثة التي بلْورت فكرتها عن النساء وصارت تعتبر الاغتصاب جريمة، فان الجيوش، او الزمر المنتصرة، تمارس الاغتصاب على نطاق معلوم ولكن غير دقيق. ربما بسبب صمت المغتصبات في مجتمع مهزوم. هكذا قرأنا عن افراد من الجيش الاميركي في العراق يغتصبون عراقيات، وكذلك جيوش الصربي ميلوسفتش ضد البوسنيات، او قبل ذلك عن الجيش الأحمر السوفياتي ضد نساء برلين الخ.
اذن الاغتصاب هو برهان الانتصار على الخصم العدو. أما ان تمارسه كتائب القذافي تجاه بنات شعبه، فهو أقوى البراهين على العداء الذي نصبه بينه وبين هذا الشعب، وعلى نسائه خصوصاً. فايمان ليست مقاتلة ولا تحمل بندقية، ولكن بمجرد انها آتية من بنغازي، أي من اراضي «الخصم»، فهي من أهله، ويقع عليها حكم الاغتصاب.
لكن المجتمع الليبي في حالة ثورة، لا في حالة هزيمة. أي ان الشعب في سبيله الى التغيير: ما كان عاراً يطْبق عليه الصمت، صار مدعاة اعتزاز على الشجاعة والاصرار على نيل الحق، الحق بالاعلان الواضح الصريح والحق الجنائي… حتى أمام ساعدي القذافي؛ لا تؤخذ ايمان بالخجل من «لطفه» و»تواضعه«. تلك هي ثورة من عيار جديد أصابت الليبيين: ثورة على معاني الشرف القديمة ونبل الشجاعة.
أُدخلوا الى صفحة «كلنا اهل ايمان العبيدي» على الفايس بوك وسوف تلاحظون بأن مجريات العقول قد تكون اكثر جذرية من مجريات المعارك الميدانية.
dalal.elbizri@gmail.com
المستقبل