العقبة الكأداء أمام مشروع ماكرون تتمثل في قدرته على حرف ألمانيا، القائد الاقتصادي لأوروبا، عن تمسكها بالأرثوذكسية النقدية وعن تغليبها مصلحتها المباشرة على بلورة أوروبا أكثر عدالة وقربا من هموم مواطنيها.
يتجرأ الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون ويطرح مشروعاً أوروبياً يداعب الحلم وفق البعض، ويمكن أن يصلح تبعاً لآخرين لإعادة تأسيس اتحاد أوروبي مترنح، ولم يكن من باب الصدفة أن ينتظر ساكن قصر الإليزيه إتمام الانتخابات الألمانية قبل طرح أفكاره لأنه يدرك أهمية المحرك الفرنسي الألماني في مسيرة البناء الأوروبي.
لكن توازنات المشهد السياسي الألماني الجديد ستجعل المستشارة القديرة أنجيلا ميركل متريثة، وإذا أضفنا تطور الوقائع عند أكثر من لاعب أساسي في القارة القديمة نستنتج صعوبة تحقيق الرهان الماكروني على إنجاز طموحه في التجديد الأوروبي.
منذ تبوئه سدة الحكم في الرابع عشر من مايو الماضي، وجه إيمانويل ماكرون إشارة واضحة بقوله “يحتاج العالم وأوروبا الآن أكثر من أي وقت مضى، فرنسا قوية وفعالة”. وغداة ذاك اليوم بدأ معموديته الدبلوماسية بلقاء المستشارة ميركل وما يعنيه ذلك من أولوية للبعد الأوروبي في سياسات فرنسا الداخلية والخارجية، وكان قد كرس ذلك بتغيير اسم وزارة الشؤون الخارجية ليصبح وزارة أوروبا والشؤون الخارجية التي تولاها وزير الدفاع السابق المخضرم جان إيف لودريان.
وطوال الشهور الخمسة الأولى من حكمه اندفع ماكرون وفيه الكثير من شباب بونابرت الإصلاحي ومن نزعة ديغولية وميترانية للحفاظ على موقع فرنسا كقوة كبيرة في أوروبا والعالم.
يبدو واضحا حرص ماكرون على التأكيد على التزامه الأوروبي كجزء من البرنامج الذي أنتخب على أساسه في مواجهة الرافضين والمشككين من أقصى اليمين وأقصى اليسار.
وبدأ ماكرون الإعلان عن مشروعه الأوروبي من اليونان في السابع من سبتمبر، إذ أراد انطلاقاً من موئل العصر الذهبي للديمقراطية في أثينا القديمة، إعطاء دفع جديد للاتحاد الأوروبي ومعالجة تراجع تأييد الأوروبيين من خلال إصلاحات هيكلية ومؤتمرات ديمقراطية وتمثيل شعبي موسع داخل منطقة اليورو.
وبالفعل منذ حقبة فرنسوا ميتران، لم نسمع رئيساً فرنسياً يتحدث عن أوروبا بحماس وتفاؤل ونفحة شاعرية، وفي خطاب ألقاه في جامعة السوربون يوم 26 سبتمبر قام ماكرون بتفصيل مشروعه للوصول إلى أوروبا أكثر اندماجاً وأكثر وحدة وأكثر ديمقراطية. وفي موازاة إشادة فريق من المراقبين بتصميمه وأطروحاته الجديدة، أخذ عليه فريق آخر مثاليته وتراكم اقتراحاته في كل الاتجاهات.
في سعيه منح زخم للفكرة الأوروبية من تلة بنيكس التي احتضنت “مجلس المواطنين” الذين كانوا يصوتون برفع الأيدي على القوانين في أثينا، إلى جامعة السوربون التي استضافت في 1991 سجالاً شهيراً حول معاهدة ماستريخت، أراد الرئيس الفرنسي الشاب التغريد خارج سربه في هذا الحيز من بدايات القرن الحادي والعشرين الذي يشهد صعود الخطاب المعادي والمشكك بأوروبا والبريكست والشعبوية الملازمة للشوفينية الوطنية.
ويتميز الرئيس الفرنسي عن نظرائه السبعة والعشرين بالتنبه لموقع أوروبا في توازنات نظام عالمي متخبط، إذ أن انكماش الموقع المهيمن للولايات المتحدة الأميركية على المسرح الدولي، والوزن المتزايد للصين والاقتصاديات الصاعدة، يهددان أوروبا بالتهميش ويربطان بقاءها كلاعب عالمي بوحدتها.
ولا يتردد ماكرون الأوروبي في اعتبار الاندماج الأوروبي شرطا لديمومة السيادة والاستقرار والرفاه في البلدان الأوروبية، ويركز على وجوب أن يشمل هذا الاندماج ميادين الأمن وحماية حدود الاتحاد والسيطرة على مد الهجرة وحماية البيئة والاستثناء الثقافي وإدارة التعامل مع عمالقة الثورة الرقمية.
يذهب ماكرون بعيدا في “تذويب السيادة الفرنسية” حسب مناهضي مشروعه الأوروبي لأنه يقترح الفيدرالية أو الكنفيدرالية من دون لفظ الاسم. يتمثل ذلك في تعزيز الدفاع الأوروبي المشترك وتشكيل قوة تدخل سريع أوروبية في أفق 2020، إلى جانب جملة إجراءات للتناغم الاجتماعي والنقدي. ومن الواضح أن ماكرون اعتمد على الخبرة الأوروبية الكبيرة لمستشاره الدبلوماسي فيليب إتيان (السفير السابق لدى الاتحاد الأوروبي وألمانيا) من حيث التركيز على إصلاح بنية الاتحاد الأوروبي من أجل تفادي الدخول في نزاع مع ألمانيا بخصوص إصلاح معمق لمنطقة اليورو.
هكذا تبرز العقبة الكأداء أمام مشروع ماكرون وتتمثل في قدرته على حرف ألمانيا القائد الاقتصادي لأوروبا عن تمسكها بالأرثوذكسية النقدية وعن تغليبها مصلحتها المباشرة على بلورة أوروبا أكثر عدالة وقربا من هموم مواطنيها. من هنا اكتفت ميركل، الألمانية أولا والمطمئنة لموقع مركبة بلدها في قطار العولمة الحالي، بالترحيب بشغف نظيرها الفرنسي الشاب، من دون الخوض في التفاصيل التي يمكن أن تخفي شيطان التباعد بالنسبة لرؤية أوروبا الغد.
بالرغم من نقاط التناقض هناك حاجة ماسة للتفاهم بين باريس وبرلين. بالطبع أتى توجه ألمانيا أكثر إلى اليمين بعد الانتخابات الأخيرة التي شهدت تمركز اليمين الوطني المتطرف في البوندستاغ، ليمثل جرس إنذار لكل أوروبا. لكنه لن يفتر من حماسة ماكرون الذي يعتبر أن البناء الأوروبي هو الضمانة من أجل التماسك الوطني والسـلام وحفظ موقع أوروبا العالمي.
بيد أن الكلمة الأخيرة في إمكانية تبني الرؤية الأوروبية لماكرون لا تتعلق فقط برضا ميركل أو بقبول مشروع أوروبي ذي سرعات متفاوتة، بل أيضا بالقدرة على إقناع الأوروبيين أنفسهم بالاستمرار في هذه المغامرة إذا لم تتحسن أحوالهم الاجتماعية وإذا لم تتغير آليات البيروقراطية السائدة في بروكسل.
khattarwahid@yahoo.fr
أستاذ العلوم السياسية، المركز الدولي للجيوبوليتيك – باريس