أنظرْ قليلا الى ما يحصل الآن من حولك عربياً: بقعة حضارية واحدة. عالم ثقافي، لغوي، ديني، واحد، مصاب بهاجس ثوري جديد واحد. تجري العملية الثورية فيه بسرعات وأوجه متفاوتة، وأحياناً متناقضة.
ضعْ جانباً أقطاراً من هذا العالم لم يبلغ فيها الهاجس الثوري من القوة بما يسمح بإطلاقه، وانس ايضاً تلك الأقطار التي التبست علينا ثوراتها المظلومة. الكلام هنا عن الأقطار التي أشعل شبابها المعولم، تكونولوجيا خصوصا، العملية الثورية فيها ونجحوا بتغيير وجهها ووجهتها: تونس، مصر، اليمن، ليبيا، سوريا. هذه الأقطار يمكن أيضا فرزها، بمقياس الإيقاع، الى إثنين، وربما ثلاث: مصر وتونس من جهة، ثم ليبيا، واليمن وسوريا.
الخطَب في ثورات هذه البلدان هو وتيرتها: لدينا أولاً القسم الأول منها، تونس ومصر. انتصرت فيهما الثورة بأقل من ثلاثة أسابيع، وقسم ثان احتاج الى الدعم العسكري من الناتو، فيما القسم الأخير منغمس بدماء شهدائه، الغزير في سوريا، والأقل غزارة في اليمن. والاثنان يتلكأ عنهما الحسم.
تونس ومصر عاشتا ما لم تعشه الثلاث الأخريات: غبطة ثورية وبراءة ثورية خاطفتين. لحظة نادرة من الأمل العارم والأخوة الغامرة والإبداع المتصل. كانت وثبة جماعية نحو الهدف، إسقاط الطاغية، وحدت التناقضات كلها في بوتقة سحرية يحسد عليها من شاركوا بها؛ اذ يكونون بذلك عرفوا أقصى درجات الوصال، جعلتهم يحلمون أنهم يُبعثون من جديد.
ثم بعد تحقيق الهدف بقليل، زالت الغبطة والبهجة والأخوّة والإبداع، وعادت تونس ومصر فهبطتا الى العالم الأسفل، العالم الواقعي، بانقساماته وحسابات رجالاته، الذين تبدلوا على كل حال. فعاد الشباب، مشعلو الثورة، الى هامشيتهم وعادياتهم، وصعد الذين يعرفون بالسياسة وبالقيادة.ثم انفجرت التناقضات والمصالح والكراهيات التي نعرفها كلنا، خصوصا في مصر، فحل المزيد من الخيبة بالثورة، والتي كانت على نفس قدر الحماسة لها.
هنا، انفصل الايقاع التونسي، إثر الإنتخابات، وصعد إسلاميو تونس الى السلطة الجديدة. وكانت من أولى الاشارات الى اختلال الإيقاع بين تونس ومصر، هو انتقال مصر من حالة ما بعد الخيبة الى حالة صراع حامٍ بين عسكريين متخوفين من موجة إسلامية منتخبة عاتية، وبين اسلاميين كانوا «يطمئنوننا» (دائما نغمة التطمين عند الإسلاميين) الى أنهم لن يرشّحوا الى البرلمان الديموقراطي أكثر من 30 في المئة من الدوائر. كانوا يطمئنون، نقول… واذا بهم، بعيد صعود نظرائهم من «النهضة« التونسية، يترشحون في غالبية الدوائر؛ هكذا، يتفرع ايقاع مصري جديد، هو التهيؤ لانتخابات طاحنة، أين التونسية منها، مرشح للفوز بها اسلامية سياسية، «الاخوان المسلمين»، اين علمانية النهضة ووسطيتها الاضطرارين، من تشددها وتشدد حلفائها، الاسلاميين الآخرين، من «جهاديين» و»جماعة اسلامية» وسلفيين؟
عذوبة الأسابيع الثلاثة، التونسية والمصرية، فُقدت تماماً مع الثورة الليبية. كانت ثورة مضطرة للاستعانة بالسلاح، الخفيف منه بيد «الثوار»، والثقيل بيد «الناتو». الوثبة الثورية الفرحة والبريئة لم تدم إلا لأيام، عندما نزل أهل بنغازي الى الشارع منتفضين. بعد ذلك، كانت حماية المدنيين والمعارك الطاحنة والطويلة على امتداد الساحل الليبي ضد قوات معمر القذافي. كانت حرباً اذن. وغير نظامية فوق ذلك؛ اي ان انتهاكات لحقوق الانسان حصلت لدى الطرفين، وخصوصا الاغتصاب.
مصرع القذافي وحده، طريقة قتله، ادخلنا في تفرع آخر للوتيرة الثورية. فبعد بن علي المتنعّم بترف الإكتئاب في ضيافة عربية، بعد حسني مبارك، الذي سجلت صور محاكمته وتيرة خاصة فرعية، ها هي نهاية القذافي الدموية تدخل الثورات العربية الاخرى في سرعة جديدة. فكلنا شاهد التظاهرات السورية الرافعة لشعارات مشحونة بهذه النهاية ضد نظيره بشار الاسد.
لكن الذي خطا خطوات جديدة نحو وتيرة أخرى هو اعلان رئيس المجلس الوطني الانتقالي، مصطفى عبد الجليل، هديته الى الثوار بوعدهم بالزوجات الأربع يوم الاحتفال بتحرير ليبيا. لا نعلم الكثير عن تركيبة الثوار الليبيين؛ ولكن ما رشح عنه، أو ربما ما أريد أن يرشح عنهم، بلعبة إعلامية أدخلتنا هي الأخرى بوتيرتها الجهنمية، أن القادة العسكريين، «الكاريزماتيين»، هم إما أعضاء سابقين، تائبين، في تنظيم «القاعدة» (عبد الحكيم بلحاج)، أو سلفيين، يبثون من قناة «الجزيرة» خطبهم ومواقفهم ومقابلاتهم (علي الصلابي). حجم التدخل الغربي للـ»ناتو» ومستقبله، أصبحا الآن الخلفية غير المرئية للنقاش الحاصل حول الثورة السورية، وبعبارات واضحة تماما: هل نحذو حذو ليبيا، ونطالب بمنطقة حظر جوي، وبضربات جوية للـ»ناتو«… الخ؟ وهذه تفريعة أخرى للسرعات.
إحتجاج شخصيات ليبية، مثل عبد الرحمن شلقم ومحمد الهوني، ضد السطوة القطرية على بلادهم في مرحلتها الجديدة، تدخلنا بدورها في سرعة أخرى، قد تكون مرشحة للتوسع.
في هذه الاثناء، ثورتان ما زالتا في طور عدم التحقّق، اليمنية والسورية. والواحدة تختلف عن الأخرى بدرجة الدموية: الاولى أدنى من الثانية. وتختلف أيضا بوجود أفق لدى الاولى، اليمنية، مسعى سياسي، تسوية سياسية. وهذه تغيب بفداحة عن الثانية، السورية. بل أحيانا يحضر «الحل اليمني» على طاولة نقاش الثورة السورية واحتمالاتها.
هذا يعني بأن الثورة السورية هي الآن تتداخل في متنها جميع الوتائر التي سرعت الثورات العربية الى الحاقها بالتاريخ: بهجة اللحظات الأولى وآمالها، حرقة دمويتها، احتمالات عسكرتها، أو تدخل الغرب بوتيرتها، تصورها لنهاية رئيسها، استدعاء النموذج العراقي لتطييفها، شبابها متظاهريها، ناشطيها ومعارضيها، الخارجيين والداخليين، الاسلام السياسي في مستقبلها القريب وراهنها. كلها تعالج بناء على ما بلغته الوتائر السابقة عليها والموازية لخطها، آخذة بالاعتبار الفرادة السورية (من كان غير فريد من بيننا…..). من ابواب هذه الفرادة، الوتيرة الاسرائيلية: ثورة مصر كانت من السرعة ما بغت اسرائيل وجعلها تقر بالواقع الجديد بالوتيرة نفسها التي أتى بها. وما الهجوم على السفارة الاسرائيلية في القاهرة غير إرهاص طفيف مما تشهده الثورة السورية.
اما ثورة سوريا، فقد أدخل النظام اسرائيل على خطها عندما نظم التظاهرتين البائستين على حدودها في ذكرى هزيمة حزيران ووعد بلفور. ثم عادت ودخلت مؤخراً بعد ترددات عديدة، عندما هدد بشار الاسد بزلزال في المنطقة في حال أخفق حله الأمني. اذن نحن، مع الوتيرة السورية بصدد حربين محتملتين: حرب إقليمية وحرب أهلية، تمتد شرارتهما الى لبنان والعراق والاراضي الفلسطينية.
نحن اذن فقدنا احلام الثورة والتغيير المبهجتين قبل ان يكتمل الشرط الضروري لتحقيقها. بين الاسابيع الثلاثة التي أحيت آمالنا في مصر، وجعلت بكاء السعادة من علاماتها، ها نحن الآن مندفعين في ثورة، نعلم سلفا، بعدما شاهدنا الحاصل ونحدس ما سيحصل، انها لن تكون خواتمها الاولى سعيدة. هل يعني ذلك بأن علينا بعد ذلك الكف عن الاهتمام او التأييد او التعاطف، او حتى الحماسة للثورات العربية، وللثورة السورية خصوصا؟
بالعكس : فالذهاب الى الثورة ببصيرة من لا يتوقع من خاتمتها بأقل من جنة الله على الارض، ليس كمن يذهب اليها بتشاؤم المتفائل (بالاذن من اميل حبيبي). وهذه البصيرة هي العقل المدبر للثورة، وهي قادرة، دون غيرها، على الحدّ من خسائرها. فالثورات ليست كلها أرباح صافية. ولا هي تظفر بقيادة القلب وحده.
dalal.elbizri@gmail.com
* كاتبة لبنانية
نوافذ المستقبل