من أبرز الأسباب التي من شأنها أن تؤثر سلبا في استمرار نظام ولاية الفقيه في إيران، أنه نظام ديني مستند إلى رؤية الفقه والفقيه، التي هي رؤية دينية تاريخية لا تستطيع أن تتعايش مع مستجدات المرحلة الراهنة، لكن النظام الإسلامي كان ولا يزال يراهن على أسلوب الأمر الواقع القائم في جانب كبير منه على الاستبداد الديني.
والتظاهرات الاحتجاجية على نتائج انتخابات الرئاسة الإيرانية هي في جزء واسع منها احتجاج على النظرية الفقهية في الحكم، أي النظرية التي تعتقد أن مشروعية الحاكم أو الولي الفقيه مستمدة من الله لا من الشعب، وأن الولي له الحق في التدخل في جميع شؤون البلاد ويمتلك القدرة على تغيير ما يعتقد بأنه يؤثر سلبا على المصالح العليا للجمهورية الإسلامية، التي هي في نظره مصالح دينية أساسية، حتى لو تعارض ذلك مع رغبات الشعب وتطلعاته التي يجب أن تنعكس من خلال آلية الديموقراطية وصناديق الاقتراع.
وبما أن الفقه يرتبط بظاهر الأعمال فإنه يعتبر علما دنيويا، لكنه تاريخي وقديم، وبالتالي لا يصلح لتنظيم شؤون الحياة الحديثة. كذلك لايتعلق الفقه بالحياة الآخرة ولا يتدخل في قلب الإنسان، وبالتالي لا يمكن له أن يكون عنصرا مؤثرا في آخرة الإنسان، وهو ما يسعى أنصار ولاية الفقيه إلى تفعيله بقوة القانون لكنهم فشلوا في ذلك. ومن يراقب ردود الفعل السلبية للشارع الإيراني تجاه فرض النظام الإسلامي للحجاب بالقوة سوف يصل إلى نتيجة مفادها أن تغيير القلوب لا يمكن فرضه بالقانون.
فالمسلم الذي يتوضأ بشكل خاص ويقف للصلاة أمام القبلة ثم يقرأ ذكراً خاصاً ويقوم بأداء حركات خاصة، لكن جلّ ذهنه من أول الصلاة حتى نهايتها مرتبط بحياته الخاصة، سوف توصف صلاته هذه بالفقهية والظاهرية لكنها ليست صلاة أخروية. بمعنى أن كل ما يستطيع أن يفعله الفقه ونظام ولاية الفقيه هو إجبار الناس بالقوة والإكراه والتهديد الدنيوي والأخروي على الإلتزام بالقوانين الفقهية وتنفيذ الشعائر الدينية التي تحث على ممارسة السلوك الإيماني، لكن ماذا ستكون النتيجة؟!
إن الفقه بوصفه علم دنيوي يتكفل ببيان صحة أو فساد ظاهر الأعمال وليس أكثر من ذلك. وعلى هذا الأساس ليس بالضرورة وصف الكفر الفقهي بالكفر الحقيقي، كما أن غير المسلم، أو الكافر من وجهة النظر الفقهية، ليس بالضرورة شخصا معانداً للحقيقة أو منكراً لله مما يستوجب معه عذاب الآخرة. وبالتالي على الإنسان أن يميز بين الأعمال الفقهية والأعمال الإيمانية، أو بين الأداء الظاهري الفقهي والأداء القلبي. والنظام الفقهي أو حكومة ولاية الفقيه لايمكن إلا أن تمارس ضغوطها لتحقيق ظاهر الأعمال الدينية فحسب، لكن النتيجة ظهرت في الساحة الانتخابية حينما قمع أنصار ولاية الفقيه، أو “المؤمنون”، المحتجين على نتائج الانتخابات ومارسوا العنف والتنكيل والتعذيب ضدهم بصورة لا تمت بصلة إلى الإيمان القلبي.
لقد لعبت تفسيرات فقهية عدة دورا كبيرا في ظهور المفاهيم العنيفة في حياتنا، وقد أثر ذلك في التعاطي مع القضايا السياسية وغير السياسية بما جعل الآخر المختلف عرضة للنفي بالعنف والإرهاب لمجرد الاختلاف. وسعت التفسيرات للقول بأن تلك المفاهيم هي من صلب الدين بحيث لا يمكن الفكاك منها، بل وذهبت إلى التأكيد على أن من يسعى للفكاك قد يعتبر خارجاً عن الدين. على سبيل المثال يتم استخدام تهم الشرك والكفر والفسق والنفاق والانحراف والخيانة والعمالة لجهات أجنبية، بل يمارس القتل والنفي، ضد كل من يسعى لتبني فهم ديني جديد معارض للفهم الفقهي التقليدي، وهذا ما نراه في إيران الآن.
إن التفسير الفقهي ينبذ النقد إلا في إطار ضيق، ويقدس التفاسير التي يتبناها حيث يعتبرها تفاسير جازمة، ويرفض مناقشة نتائجها في هذه الدنيا ويطالب بانتظار ذلك في الدنيا الآخرة. إن التفسير الجازم الرافض للنقد وكذلك المفاهيم المناهضة للحرية والتعددية المستقاة من التفسير الفقهي، ساهمت في تأسيس الفكر العنيف وفي صناعة الإرهاب وفي قمع ونفي الآخر. فالعديد من الفقهاء، حتى من يسمون بالمفكّرين، ينظرون الى كلمة “ترهبون” الواردة في القرآن على أنها دعوة لإرهاب المخالف حتى يستقيم، وهي دعوة لا تتوافق مع التسامح ولا تتماشى مع الفكر الإنساني الراهن.
وما ردود فعل الفقهاء الشيعة تجاه الأحداث الراهنة في إيران، إلا دليل على أنهم لا يستطيعون أن ينددوا بالعنف ضد العزل من المحتجين، وهذا ناتج عن مواقفهم المتناقضة أو المتخبطة تجاه مسألة العنف بشكل عام. فهم تارة يوصفون العنف بالإرهاب، خاصة إذا ما استخدم من قبل طرف غير مسلم ضد طرف مسلم، لكنهم يؤيدون العنف أو يسكتون عنه (لا فرق) داخل المجتمعات المسلمة بوصفه ضرورة لدرء “خطر الفتنة”. ومبرر التأييد أو الرفض يكمن في ظروف القضية وليس في المبدأ. وإذا دلّل ذلك على شيء فإنه يبرز التناقض الصارخ في تفسير معنى العنف والإرهاب. ولقد احتضن الإسلام السياسي الفقهي على مستوى العالم العربي والمسلم العنف قبل أن يصدره إلى العالم الخارجي، لأنه تبنى الفكر العنيف بهدف تحقيق مصالحه. وهناك أمثلة كثيرة نستطيع من خلالها أن ندلّل على أن العنف الداخلي يتواجد في مشروع الاسلام السياسي الفقهي، وبالتالي لا غرابة إذا انتقل هذا العنف خارج الحدود العربية والمسلمة. وعمليات قمع المخالفين وذبحهم والزج بهم في السجون وتعذيبهم والتضيق على أسرهم تحت مسمى مخالفة الله والدين والنظام الإسلامي المقدس تنتشر بقوة في إيران من دون أن يحرك الفقهاء الشيعة ساكنا، وإلا ماذا تعني الرسالة التي وجهها زعماء التيار الإصلاحي مير حسين موسوي ومهدي كروبي ومحمد خاتمي إلى هؤلاء الفقهاء للتحرك لوقف القمع ضد المحتجين على نتائج الانتخابات، في وقت وصف رجل الدين الشيعي المتشدد محمد تقي مصباح يزدي من يخالف نظام ولاية الفقيه بأنه كمن يشرك بالله؟
إن إحدى المعضلات الرئيسية التي تقف حجر عثرة في طريق ظهور حل للوضع الراهن في إيران هي التباين بين نظام الحكم الفردي المقدس (ولاية الفقيه المطلقة) وبين أحد الشعارات الرئيسية لثورة عام 1979 (الاستقلال ،الحرية، الجمهورية) ونقصد بذلك شعار “الجمهورية”، الذي يقف في مقابل شعار “الفردية”، إذ كيف يمكن للإيرانيين أن يمارسوا دورهم الجمهوري المستند إلى الديموقراطية في الترشيح والاقتراع والاختلاف والتنوع، ثم ينسف هذا الدور بكل سهولة استنادا إلى الرأي الفقهي المقدس للولي الفقيه الذي يعتقد بأن مشروعيته لا تأتي من الشعب بل من الله؟ وما الذي يستفيده الشعب من شعار الجمهورية إذا ما كانت هناك ثقافة فردية قادرة على وأده؟ إن رجل الدين الفقيه الحاكم، أو الولي الفقيه وممثل الله على الأرض، هو المقدس الذي يحكم الناس، هو الوصي عليهم الذي لا كلام بعد كلامه، فما يقوله مقدس، ومن لم يطعه يخالف المقدس والسماء والرب والدين. هل بالإمكان تفعيل مفهوم الجمهورية في مقابل ثقافة المقدس؟
ssultann@hotmail.com
كاتب كويتي