هذه الأحداث والمظاهرات التي عمت شوارع المدن الإيرانية، هي الفرصة الذهبية والوقت المناسب، لكي تجابه القيادة الإيرانية نفسها، وتفهم حقائق الوضع بعد أن شارفت تجربتها على الأربعين عاماً… والأربعون أوان النضج.
تستطيع إيران بالطبع أن تتجاهل كل هذه المسيرات والاحتجاجات، وأن تسلط على المتظاهرين الحرس الثوري ورجال الاستخبارات والباسيج وكل الأجهزة الأمنية، وأن تقمع وتعتقل، وأن تسجن وتُسكت المحتجين والمتظاهرين، وتستطيع كذلك أن تشجع مؤيديها وكل من يناصرها على التظاهر، والتدفق في الشوارع والأزقة، يحملون الشعارات المعروفة المألوفة، وأن تواصل الصراخ والهتاف، والدعوة بالموت الزؤام على أميركا وإسرائيل.
ولكن هل مثل هذا الكبت والقمع يحل مشاكل إيران وأزماتها؟ وهل يجري هذا “الترحيل” لمطالب الإصلاح الملحة منذ سنوات؟ وهل تنقذها مهارتها وإمكاناتها في التهرب من كل المسؤوليات بالقفز عليها، بدلاً من أن تصلح الأحوال في الداخل، وتدرس سياساتها في الخارج؟
لا أحد يزعم أن المحتجين والمتظاهرين يمتلكون كل الحلول لمشاكل إيران، أو أنهم بالضرورة إن هيمنوا سيتجنبون ما يماثل صراعات “الربيع العربي”، أو أنهم سيتفقون على قيادة ناضجة وسياسات معتدلة، ولكن هل قدمت الجمهورية الإسلامية خلال الأربعين عاماً الماضية من عمر الثورة، بديلاً أفضل يمكن التعايش داخلياً وخارجياً معه؟ وهل استطاعت أن تجعل دولة بحجم إيران وإمكاناتها دولة متقدمة اقتصادياً ينعم شعبها بالرخاء، مثل كوريا الجنوبية أو تركيا على الأقل كما قلنا مراراً؟
فمثلا، ميزانية تركيا التي لا بترول فيها، كما تقول إحصاءات 2017، تزيد على 187 ألف مليون دولار، وميزانية إيران أقل من 87 ألف مليون، وسكان البلدين متقاربان، ونرى، كما أشرنا مراراً، أن دخل تركيا من السياحة أكثر من 27 ألف مليون دولار، ودخل إيران من السياحة لا يصل إلى 4 آلاف مليون، رغم أن لدى إيران إمكانات واسعة في مجال “السياحة الدينية” إلى جانب ما يماثل إمكانات تركيا الطبيعية والبحرية والغابات وغيرها، ولكن السياسات المتبعة وغيرها تعوق أي ازدهار حقيقي للسياحة وسط هذا التوتر الذي يحيط بإيران ومشاكلها وتسلط رجال الدين على مختلف مجالات الحياة.
وكانت إيران أثرى من كوريا ذات يوم، في حين كوريا الجنوبية اليوم، وهي مثل تركيا لا تعتمد على تصدير البترول ولا تقوم ميزانيتها عليه، تبلغ ميزانيتها 294 ألف مليون دولار، أي نحو ثلاثة أو أربعة أضعاف ميزانية إيران، كما أن صادرات كوريا الجنوبية في الأغلب منتوجات صناعية من سيارات وإلكترونيات وسفن ومصنوعات من كل لون، تُدخل على ميزانية كوريا الجنوبية أكثر من 535 ألف مليون دولار، وكان متوسط دخل الفرد الكوري سنة 1987 أقل من ثلاثة آلاف دولار، وهو اليوم أكثر من 36 ألفاً، أي أنه تضاعف 12 مرة! ولا تصل صادرات الجمهورية الإسلامية، نفطاً وفاكهة ومصنوعات ومحاصيل وغيرها، إلى 71 ألف مليون، وهو بالمناسبة أقل من نصف قيمة الصادرات التركية التي تبلغ 154 ألف مليون دولار.
ولكن رجال الدين يخشون من أن تفلت إيران من أيديهم إن دخلت دائرة الدول الصناعية والاستثمارية الحديثة، لأن مثل هذه التطورات الاقتصادية ستغير طبيعة المجتمع الإيراني، وتسلب سلطان رجال الدين، لمصلحة المهندسين والمستثمرين والفنيين والشباب، وتفتح إيران لثقافة العولمة والارتباط بالتقنية الغربية المتقدمة، وبذلك يتحتم تغيير المناهج التعليمية وإعطاء المزيد من الحريات، وباختصار ستهمّش هذه الثقافة العصرية ومؤسساتها، كما يخشى ولاة أمور إيران، الثقافة الدينية العتيقة المهيمنة اليوم على سائر مجالات الثقافة والمجتمع والإعلام في إيران.
إن هؤلاء الشباب الذين يضغطون من أجل تغيير الأوضاع وتحسين الأحوال المعيشية يثيرون في كل الأذهان أسئلة عميقة عن تجارب الشعب الإيراني، فهل استطاعت الجمهورية الإسلامية عبر كل سياساتها أن تجلب الحرية السياسية؟ وهل خلصت البلاد من الفساد؟ وهل قضت على البطالة؟ وهل أعطت الشعب مشاعر الاستقرار والانتماء إلى البشرية المتقدمة؟ وهل منحت المواطن الإيراني الإحساس بالاحترام والاعتزاز داخل وطنه وعندما يسافر إلى الخارج؟ وهل وجد الشعب بمختلف قومياته ومذاهبه ما كان يبحث عنه خلال القرن العشرين ومنذ ثورة 1905، وينتقل إلى اليوم من زوبعة إلى زوبعة، ومن مخاض إلى مخاض، ومن دستور إلى دستور، دون أن يصل إلى مطالبه التي وُعد بها؟
وكيف يكون راضياً سعيداً والكل يعرف أن أي مواطن إيراني يعترض علناً يتعرض فوراً أو بعد أيام لأهوال التحقيق والتعذيب، وما يرافق ذلك كله داخل السجون؟
وهل نجحت السياسات الاقتصادية والمالية في أن يكون في جيب المواطن الإيراني وحسابه ما في جيوب وحسابات بعض جيرانه أو التمتع ببعض رفاهيتهم؟
إن الرد على الانتفاضة الشعبية حتى لو تم إسكاتها، لا يكون بالقمع، بل بالاستفادة من طاقة الشباب، وتغيير السياسات، وبالواقعية السياسية وإجراء إصلاحات دستورية وإطلاق الحريات الصحافية والانتخابية، والسماح للمعارضة في مجلس الشعب الإيراني، وتغيير السياسات الحالية التي لا تسمح إلا للموالين للحكومة والسلطة والولي الفقيه بالوصول إلى البرلمان، وبالابتعاد عن إثارة مخاوف الجيران وهدر الأموال على المغامرات الخارجية، وعلى عسكرة المجتمع الإيراني لأربعين سنة قادمة… أو ربما لقرن آخر!
المنطقة الخليجية والعربية والعالم كله بحاجة إلى دولة إيرانية مستقرة عصرية ناضجة تُجمع كل دول العالم على احترامها وتقديرها، وتحرص على صداقتها.
يقول أحد الكتاب في صحيفة “الحياة” عن أحداث إيران: “تشبه تظاهرات إيران هذه الأيام تلك التي اندلعت ابتداء من سيدي بوزيد في تونس في أواخر 2010 فأشعلت ما عرف بـ”ربيع” العرب في تشابه الحدثين، ذاك الجانب المفاجئ الذي لم تستشرفه أقلام وحناجز أعتى خبراء الشأن الإيراني، وفي التشابه أيضاً عفوية التحركات التي لا قيادة لها ولا بيانات حزبية ترفدها، وفي التشابه أيضاً تفشي العدوى وانتقالها من مدينة إلى أخرى، واحتمال شيوعها لتصبح ربما، في تمرين التشابه، شبيهة بالثورة التي نفخ في رياحها روح الله الخميني قبل أقل من أربعة عقود”.
ويضيف: “لا يختلف النظام الإيراني في تفسيره لحراك الناس عن تفسير أنظمة المنطقة لحراك الناس في مدنها، وما يحصل في عرف الحاكم في طهران هو أعمال عبث وفوضى يرتكبها خارجون عن القانون (جرذان بالنسبة إلى القذافي ومندسون بالنسبة إلى الأسد وحرامية سابقاً بالنسبة إلى السادات)، ومن يقف خلف تلك “الهبّة” في مدن البلاد، وفق بيان الحرس الثوري، هي الولايات المتحدة وإسرائيل وبريطانيا، وبالتالي فإن من يهدد النظام الثوري هم الجواسيس عملاء الاستكبار”.
(الحياة، 3/ 1/ 2018).
معركة الجمهورية الإسلامية، كما يفهم كل عقلاء إيران والعالم، ليست مع أميركا أو السعودية أو الغرب، بل مع دعاة التدخل في شؤون الدول الأخرى، ومع المتحمسين للتوسع والعسكرة والمغامرات السياسية.
معركة إيران القادمة ينبغي أن تخاض داخل البلاد سياسيا، وداخل النظام وفكره وثقافته وإعلامه، لإيقاظ من لا يحسب أي حساب لمصالح الشعب الإيراني وشعوب المنطقة.
تقول إعلامية في الصحيفة نفسها:
“اعترف مرة مسؤول إيراني حالي لـ”الحياة” بأن هناك جدلا في بلده حول تدخل إيران في سورية، وتابع أنه من الصعب إيجاد شخصين متفقين في إيران حول جدوى التدخل الإيراني في سورية، والبعض يتساءل: ما الداعي إلى هذه الحرب المكلفة ودفع الأموال الباهظة لحماية دكتاتور يقمع شعبه ويقتله؟
وكان الرئيس الإيراني حسن روحاني وعد شعبه أن ظروفه المعيشية ستتحسن تحسناً ملموساً بعد توقيع الاتفاق حول الملف النووي الإيراني مع الدول الست منها الدائمة العضوية الخمسة في مجلس الأمن زائد ألمانيا، ولكنها كانت وعوداً كلامية، فالرئيس الإيراني الذي يعتبره الغرب محاوراً مقبولا للدول التي تتمنى عقد صفقات مع إيران، ما هو إلا واجهة غير فاعلة لنظام الحرس الثوري الذي يمسك بزمام الأمور المالية في البلد”.
(3/ 1/ 2018).
هذه فرصة إيران للخروج من عزلتها والعودة لاستعادة مكانتها بين أهم الدول لتحقيق آمال شعبها الذي عانى الكثير ولا يزال، بانتظار النظام الذي يحقق له هذه المرة حلمه المراوغ في حياة سعيدة… منذ سنين طويلة!