أعلن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، في السابع من يونيو الحالي، عن التمديد المفتوح للقوات الروسية الموجودة في سوريا منذ عام 2015، “ما دامت موسكو ترى مصلحة في ذلك”، ويعتمد “القيصر الجديد” في قراره على نجاح موسكو في التحكم النسبي بإدارة الصراع. ويتم ذلك عبر إدارة تقاطعات من خلال تحالف إستراتيجي مع إيران التي لعبت مع ميليشياتها دور القوة البرية للقوة الجوية الروسية، وكذلك من خلال عمل مشترك مع تركيا بعد تجاوز إسقاط مقاتلة روسية واحتواء حركة أنقرة، والتنسيق الإستراتيجي الثالث كان مع إسرائيل تحت عنوان حماية مصالحها الأمنية. كانت هذه التقاطعات تسري تحت عين واشنطن التي لم تكن مصالحها تتعارض مع الدور الروسي.
أخذت التحديات تتعاظم أمام المهمة الروسية في مرحلة تصفية الحروب السورية، وتجد روسيا نفسها في الوسط بين إيران وإسرائيل، ولذا تبذل جهدا مضاعفا لتجنب حصول مواجهة مباشرة بين الجانبين على الساحة السورية وما تحملها من تهديد للمكاسب الروسية. وبالرغم من رهان على ترتيب يؤدي إلى سحب الوجود العسكري لإيران وحلفائها من الجنوب السوري، تبدو المسألة أكثر تعقيدا وتتصل بالنفوذ الإيراني في كل سوريا، ومستقبل الوضع فيها وبمجمل التوازن الإقليمي.
بعد سبع سنوات، يتضح أن نتائج الصراع في سوريا ستكون تقريرية لجهة تحديد الأحجام والمصالح بين الأطراف الإقليمية والدولية المنخرطة فيه، وهنا تبدو مصالح إيران وإسرائيل متناقضة حيث يرتبط نفوذ طهران في الشرق الأوسط بصورة وثيقة بتعزيز موقعها في سوريا ولبنان، وهذا الهدف يضرب الرؤية الأمنية الإسرائيلية التي تركز على منع تحول سوريا إلى قاعدة إيرانية على حدودها. وحيال ذلك منذ التدخل الكثيف في سبتمبر 2015، حرصت روسيا على مراعاة الهواجس الأمنية لإسرائيل، مع أخذها بعين الاعتبار أن كلا البلدين، إسرائيل وإيران، مهمَان بالنسبة إليها.
على الصعيد العملي وإزاء التوتر المتصاعد بسبب تعزيز التغلغل الإيراني في مفاصل المنظومة الحاكمة في دمشق، والتمركز المنتشر على المساحة السورية بما في ذلك الجولان والجنوب السوري، وعشرات الغارات الإسرائيلية على مواقع وقوافل تابعة لإيران وحزب الله، لعبت موسكو ورقة التهدئة من دون أن تملك خيارات جيدة في تعاملاتها مع الإسرائيليين والإيرانيين. إذ أنه من دون التعاون مع إيران لم تتحقق النجاحات الروسية ولا يمكن لها أن تصمد، وفي نفس الوقت يزداد الإحراج لأن موسكو لا تريد أن تُفسد علاقاتها بإسرائيل التي تعدّ أيضاً شريكا مهما لها في مجالات عدّة.
بناء على الإحصاءات المتوافرة، تُعدّ إسرائيل رابع أكبر شريك تجاري لروسيا في الشرق الأوسط ووصل حجم التبادل بين الجانبين إلى 2.5 مليار دولار أميركي في العام 2017 (مقابل 1.7 مليار دولار في نفس السنة مع إيران) علما أن التعاون الأمني والاستخباراتي الثنائي تعزز بناء على تفاهمات الرئيس فلاديمير بوتين ورئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ووزير الدفاع أفيغدور ليبرمان المقرب من روسيا.
يعود اهتمام موسكو بالساحة السورية وموقعها الإستراتيجي في شرق البحر المتوسط وفي قلب العالم العربي إلى الحقبة السوفياتية، وبقي الوجود العسكري هناك من آثار مرحلة الحرب الباردة. وفي هذا السياق التاريخي تعاملت موسكو مع الحدث السوري منذ ربيع العام 2011، ويربط الكثير من المراقبين العارفين بالتدخل الروسي الواسع أواخر صيف 2015 مع طلب إيراني تقدم به الجنرال قاسم سليماني بعد تعذر إنقاذ النظام السوري من دون القوة الجوية الروسية، لكن المطلعين في موسكو يميلون إلى أن القرار الروسي سهلته إسرائيل وباركته، ومن الأدلة نجاح قناة التنسيق الروسية مع إسرائيل في تجنب أي حوادث خلال عشرات الغارات الجوية والصاروخية الإسرائيلية. وأخيرا لا بد من الإشارة إلى عامل مؤثر في هذا المضمار، وهو قيام إسرائيل بتأمين اتصالات بين الولايات المتحدة وروسيا من خلال صهر الرئيس جاريد كوشنير.
وتندرج في إطار العلاقات الثلاثية الأميركية- الروسية- الإسرائيلية وضمن مسار أستانة، الذي أرادته موسكو بديلا لمسار جنيف الأممي، مسألة تنظيم منطقة خفض التصعيد الرابعة جنوبي غرب سوريا في محاذاة الحدود الأردنية والإسرائيلية. وبالرغم من اتفاقات أشرف عليها شخصيا الرئيسان دونالد ترامب وفلاديمير بوتين في يوليو وديسمبر 2017، لم تنجح موسكو في فرض انسحاب إيران ومحورها من المنطقة المعنية، وأدى ذلك إلى زرع الشكوك خاصة أن إدارة ترامب منذ تمركزها كانت ترغب أن يكون أحد مفاتيح العلاقة مع إدارة بوتين فك الارتباط الإستراتيجي بين روسيا وإيران وخاصة على الساحة السورية. وازداد الإحراج أو الالتباس عندما اعتقدت طهران لوهلة من الزمن بعد إسقاط مقاتلة أف-16 إسرائيلية في فبراير الماضي بتدعيم وجودها في سوريا تحت مظلة الدفاع الجوي الروسي. ومن البديهي أن يعتمد الوجود الإيراني، العلني أو الخفي، على الحدود السورية مع إسرائيل إلى حد كبير على روسيا وقدراتها الردعية، ولذا ستجد الجمهورية الإسلامية ومحورها صعوبة جمة في البقاء هناك من دون غطاء روسي.
وبالفعل منذ ضربة إسرائيل لقاعدة الحرس الثوري الإيراني في مطار تيفور في أبريل الماضي، بالإضافة لسلسلة هجمات مركزة على مواقع سورية وإيرانية، لاحظنا تعامي موسكو عنها. ويمثل ذلك حسب مصدر روسي مطلع “إشارة قوية إلى الرئيس بشار الأسد بأن روسيا لا تستطيع أو لا تريد أن تحمي جيشه إذا ما استمر الإيرانيون في توسيع وجودهم العسكري في سوريا”. وتعزز التفاهم الروسي- الإسرائيلي من جديد إثر وجود رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو إلى جانب الرئيس فلاديمير بوتين في الساحة الحمراء في موسكو بمناسبة عيد النصر يوم التاسع من مايو الماضي، اتبعه حياد روسي أو تغاضي عن الضربات الإسرائيلية للوجود الإيراني ولحزب الله في سوريا. وبرز ذلك ليلة 9 – 10 مايو إثر إطلاق صواريخ من الأراضي السورية ضد المواقع الإسرائيلية في الجولان المحتل، وتبعتها ضربات إسرائيلية ضد المواقع الإيرانية المفترضة في سوريا حيث زعم ليبرمان إن “كل البنية التحتية الإيرانية جرى تدميرها في سوريا”.
ولم يقتصر أمر التفهم الروسي للتحركات الإسرائيلية على الميدان العسكري فحسب، بل تعداه إلى الفعل السياسي، إذ أنه في أعقاب زيارة الرئيس السوري بشار الأسد إلى سوتشي في 17 مايو، بادرت موسكو بالدعوة لانسحاب القوات الأجنبية من سوريا أي الأميركية والتركية وكذلك الإيرانية وقوات حزب الله. وإثر الرفض الإيراني لنقلة الشطرنج الروسية في اللعبة السورية المعقدة، رمت موسكو الكرة في ملعب الحكم السوري، وقالت إنه يتوجب عليه اتخاذ القرار بذلك وكأنها دعوة مباشرة للاختيار بين روسيا وإيران.
لا تتفق روسيا وإيران على الرأي حيال عدد من المسائل الأساسية، بما في ذلك مصير الرئيس بشار الأسد على مدى متوسط، وتركيبة سوريا ما بعد الحرب، ودور الأكراد وغير ذلك. وانطلاقا من ممانعة إيران الانسحاب من الجنوب، وخلافا لما يعتقد كثيرون، تجد روسيا نفسها في وضع لا يمكنها بموجبه السيطرة على تصرفات إيران في سوريا. وكل رهان على فصل المنظومة الأسدية عن إيران يبدو وهما لا طائل تحته.
تعلمنا التجارب التاريخية صعوبة التعايش بين قوتين خارجيتين محتلتين أو متحكمتين في مكان واحد. وهذا ينطبق على روسيا وإيران في سوريا. والملاحظ أن الاستدارة الروسية تمت بالتزامن مع القرار الأميركي بإلغاء الاتفاق النووي مع إيران، والعمل على الحد من تدخلات طهران في المنطقة العربية، ووضع مجموعة شروط قاسية عليها ومنها الانسحاب من سوريا. هكذا من دون مواربة قرر القيصر الروسي أن يبقى ملك اللعبة على رقعة الشطرنج السورية. لكن لن يكون من السهل إبعاد إيران عن الغنيمة السورية بعد كل هذا الاستثمار، وستكون موسكو محرجة أكثر فأكثر في تحريك أحجار الشطرنج بين إسرائيل وإيران وواشنطن وأنقرة.