في الديموقراطية الدستورية، الشعب يدين بالولاء للدستور وليس للحكومة
جيمس بوكانن
إني أتّهم السلطة اللبنانية التنفيذية والتشريعية ، وكل مؤسساتها الرقابية، بالتخلي عن مسؤولياتها الدستورية الأساسية و البديهية تجاه مئات الآلاف من الأجراء اللبنانيين الذين استُبدلوا، ولا يزالوا يُستبدلون، بشكل غير قانوني في المؤسسات الخاصة في كل لبنان بأجراء أجانب غالبيتهم من اللاجئين السوريين. وبذلك تظهر السلطة اللبنانية لامبالاة تشكّل جرماً فريداً تجاه مواطنيها. حتى وزير العمل “اشتكى” مؤخّراً من أن عدد العاطلين عن العمل في لبنان ازداد 350000 (أي 25% على الأقل من مجمل العمالة اللبنانية) منذ ابتداء موجة اللجوء السوري في عام 2011، وأن غالبية هؤلاء هم من الشباب[1]. إن عملية استبدال عمالة لبنانية بعمالة أجنبية، على هذا النطاق الواسع والمستمر، لا مثيل لها في التاريخ أو في أي بلد في العالم.
إني أتّهم المؤسسات الخاصة اللبنانية، الصغيرة والكبيرة، التجارية والصناعية والزراعية والخدماتية، في كل القطاعات وفي كل المناطق، بصرف آلاف الأجراء اللبنانيين أو بعدم استخدامهم مقابل أجراء أجانب غالبيتهم من السوريين اللاجئين، وذلك بشكل منافٍ للقانون وباستغلال الوضع الإنساني المأساوي للاجئ الذي يقبل بأدنى الأجور وبدون أي ضمانات اجتماعية، مع خطر صرف تعسّفي مسلّط على رأسه. فأصبح الأجير اللبناني في مواجهة الأجير السوري، والفقير اللبناني في مواجهة الفقير السوري.
إني أتّهم الغرف التجارية والصناعية اللبنانية، والتي تمثّل أصحاب العمل في لبنان، بالصمت والتغاضي الكلّي عن فقدان عشرات الآلاف من العمال والأجراء وأصحاب المحلات التجارية والمهن الصغيرة اللبنانيين لمصدر عيشهم مقابل توفير فرصة جديدة لزيادة أرباح المؤسسات التي يمثّلون، غير آبهين بالوقع المدمّر على القاعدة الإنتاجية والقدرة الشرائية، لا بل على كل التركيبة الاجتماعية والسياسية في لبنان.
إني أتّهم الأحزاب والتجمّعات السياسية اللبنانية، اليمينية والوسطية والمسمّاة يسارية، من كل الطوائف والمذاهب ومن كل التبعيات، التي تتصرف تجاه الأجير اللبناني كأنه غير موجود، أو كأنه يعيش في كوكب آخر. وموقف هذه الأحزاب والتجمّعات السياسية اللبنانية تجاه الأجير والعامل اللبناني عامة هو تماماً كموقف السلطة أو الحكومات المتعاقبة تجاه الوضع المالي والنقدي، أي متجاهل للوضع الاقتصادي الذي يهدد عيش ومصير المواطن اللبناني. وكأن هذا الأمر لا يعني السلطات الرسمية بل المؤسسات الدولية فقط، التي تصدر تقارير دورية تُنشر خلاصات غامضة عنها في غياهب الصفحات والنشرات الاقتصادية.
إني أتّهم النقابات العمّالية بالاسم بالتخلي عن دورها بالدفاع عن مصالح العمّال اللبنانيين، دور هو أولاً وأخيراً سبب وجودها. وهي منذ سنوات عديدة تشيح بنظرها، ككل الذين ذكرنا أعلاه، عن المجزرة المعيشية التي لا تزال قائمة بحق العامل والأجير اللبناني.
إن هذه المجزرة المعيشية لا تطال العامل والأجير اللبناني فقط بل آلاف المؤسسات التجارية والمهنية الصغيرة التي وجد أصحابها أنفسهم فجأة أمام منافسة مؤسسات أُنشِئت بشكل غير قانوني من قِبل أجانب غالبيتهم أيضاً من اللاجئين السوريين. إن منافسة العمال والأجراء اللبنانيين والمؤسسات اللبنانية الصغيرة تجري في كل القطاعات الاقتصادية في لبنان: في الزراعة والصناعة والبناء، في المطاعم والمقاهي والمستشفيات، في كل المحلات التجارية للبيع بالجملة والمفرّق، في مكاتب الدراسات الهندسية والمعمارية والمحاسبية والتقنية والترجمة، في محلات تصليح السيارات ومختلف الآلات، وفي مجالات عديدة من الخدمات المتفرقة التي يلاحظها المواطن يومياً.
من الضروري والمهم جداً أن نوضح هنا أن لا لوم يقع بتاتاً على اللاجئ السوري الذي لا خيار متاحاً له سوى أن يجد عملاً يقتات منه بكل طريقة ممكنة. لا خيار آخر أمامه. اللوم يقع كلياً على الحكومة اللبنانية وعلى المؤسسات الخاصة، كما على كل الأحزاب والتجمعات السياسية والنقابات العمالية. إلا أن الثمن يدفعه الأجير اللبناني الذي أصبح وحيداً، بدون أي دفاع قانوني أو سياسي أو نقابي في بلده. لذلك ليس من المستغرب أن نجد العديد من اللبنانيين يلتحقون بمنظمات إرهابية في لبنان أو في المنطقة. وفي هذا السياق، لا بد من أن نتساءل: هل عدم الاكتراث الشامل والمريب وغير المسبوق هذا بالنسبة لاستبدال آلاف العمال والأجراء اللبنانيين بعمال وأجراء أجانب هو نتيجة سياسة مقصودة ولأهداف لا تزال مجهولة؟
كنا نأمل أن تتحرك الأجهزة الرقابية، لأن هذا دورها، إلا أنها صامتة ككل الفرقاء الآخرين. كما نأمل أن تتحرك السلطات القضائية، لأنها مستقلة وهذا واجبها. لذلك نقول بألم واستغراب أين السلطات القضائية؟ أليس من قضاة في لبنان؟
وفي هذه الأثناء، نرى مشاهد ونسمع أقوالاً مستفِزّة تشدّ بالوطن إلى الأسفل. فهذا يدافع عن حقوق المسيحيين، وذاك يرفع راية الشيعة، وآخر قلق على أحوال السنة، وأخير خائف على مصير الدروز. ولا أحد يدافع عن، أو حتى يذكر، الحقوق الأساسية للمواطن اللبناني العادي الذي، خلافاً لهؤلاء، لا يملك جنسية أجنبية أو حسابات مصرفية في الخارج يهرع إليها عند الحاجة. المواطن اللبناني، وهو في غالبيته أجير أو عامل أو صاحب مصلحة صغيرة، أصبح متروكاً لأمره إذ لم يعد من يمثّله أو ينظر إلى أوضاعه المعيشية في وطن ينحدر، تدريجاً إنما بثبات، إلى حالة اللاوطن.
ماذا بعد؟ هناك شيء واحد مؤكّد. نستطيع أن نسوق الاتهامات لسنوات وسنوات ولن يكون من مجيب، وذلك لأن لا أحد في السلطة في لبنان، تحديداً في الحكومة وفي مجلس النواب وفي السلطات الرقابية، لا أحد من هؤلاء يكترث بتاتاً لما يُقال، كما لا أحد منهم يخضع لأية محاسبة قانونية أو سياسية أو شعبية. ليس هناك من رادع. حتى الانهيار المالي والنقدي لن يردعهم لأنهم محصّنون مالياً. وما يجري بالنسبة للأجراء اللبنانيين يعود للأسباب نفسها التي تؤدي إلى ما نعانيه من أزمات النفايات والكهرباء والمياه والتردي المالي والنقدي والاقتصادي كلّه. فدروع السياسيين اللبنانيين الواقية صلبة، تتمثّل بطوائفهم ومذاهبهم. وهذه لا تخضع للمساءلة أو النقاش. وما عليكم إلا أن تتحمّلوا العواقب، وإذا لم يعجبكم هذا الوضع فالخيار سهل: اتركوا البلد أو “بلّطوا البحر”.
gaspall5@cyberia.net.lb
كاتب وخبير اقتصادي
[1] مقابلة على تلفزيون LBCI، برنامج “نهاركم سعيد”، في 3 أيار 2015. وأضاف الوزير، على سبيل المثال، أن مصنعاً واحداً في الشوف يضمّ 600 عامل سوري.