حين يكتب المدعوّ مارون ناصيف مقالةً بعنوان: «عطلة الميلاد قد تُلغى يوماً من الروزنامة الرسميّة للأعياد: محطّات «سنيوريّة» سوداء بحقّ المسيحيّين»، فهذا ما يمرّ من غير أن يستوقف أحداً. لكنْ أن يُنشر مقال بالعنوان ذاك على موقع «التيّار الوطنيّ الحرّ»، أي العونيّين، فهذا ما يُكسبه معنى جدّيّاً، بل خطيراً.
في المقال المذكور نقرأ: «المسيحيون إحتفلوا بالأمس بعيد الميلاد وهم متخوفون من مصير هذه المناسبة على روزنامة الأعياد الرسمية لأنهم يعتبرون أن ممثليهم في السلطة التنفيذية لا يمتّون الى المسيحية بصلة لا من قريب ولا من بعيد، ولا يمكن وصفهم إلا بالأتباع لآل الحريري (…) جعلت الحكومة لبنان وكأنه بلد اسلامي ثيوقراطي، اي فيه دين الدولة الاسلام ومصدر التشريع الشريعة الاسلامية وسلطة الامر والنهي في يد المسلمين (…) من المآثر الأخيرة لهذه الحكومة تمديدها لعطلة عيد الأضحى المبارك من يومين الى ثلاثة الأمر الذي يفرض طرح أسئلة عدة هي: هل تكون عطلة الميلاد هذا العام هي الأخيرة على روزنامة الأعياد الرسمية لأن حكومة السنيورة قد تقدم يوماً على خطوة إلغائها؟».
يتساءل المرء أمام عبارات كتلك عمّا إذا كان من السهل التعرّف، من خلالها، الى لبنان؟ هل فعلاً أن سمير جعجع «لا يمتّ بصلة الى المسيحيّة» وأن أمين الجميّل، رئيس حزب الكتائب ونجل مؤسّسه، هو ممن «لا يمكن وصفهم إلا بالأتباع لآل الحريري»؟، وهل فعلاً جُعل لبنان، على يد حكومته الحاليّة، «كأنه بلد إسلاميّ ثيوقراطيّ، اي فيه دين الدولة الاسلام ومصدر التشريع الشريعة الاسلاميّة»، وهل من المتَخيَّل أن تقدم حكومة فؤاد السنيورة على «خطوة إلغاء» عطلة عيد الميلاد؟
هذه «الأفكار» الهذيانيّة التي تشيعها البيئة العونيّة وتعمّمها تستنطق القاع الغريزيّ إذ تصوّر مسيحيّي 14 آذار بوصفهم «عملاء لآل الحريري»، عامدة الى تلخيص الحياة السياسيّة في اصطفاف طائفيّ بحت وقاتل. أما دوران «الأفكار» تلك حول «سرقة المسلمين» (أي السنّة حصراً) رئاسةَ الجمهوريّة «المارونيّة»، فإمعان في تجهيل المتسبّبين بالفراغ الرئاسيّ أو العاملين على اختيار رئيس تسبقه حكومته فلا يتبقّى من دوره الرئاسيّ شيء يُذكر.
لكنّ ذلك كلّه يبقى أبسط وأحلى على القلب من الروح الخبيثة والخطيرة التي تقيم تحت الكلام، وتستعين بالمسيحيّين وقوداً لطموحات خرقاء وطفليّة لا تتجاوز صاحبها الأوحد. تكفي نظرة واحدة سريعة الى حال العالم الإسلاميّ اليوم، وآخر تجليّاتها اغتيال بينظير بوتو في موازاة الجنون العراقيّ، للانتباه الى أن إضعاف الحريريّة في لبنان، كائنةً ما كانت الانتقادات التي قد تستحقّها، يضع المسيحيّين في مواجهة مباشرة مع غابات السكاكين والسواطير والموت الأعمى. وطبعاً، وفي المقابل، لن يكون زجّ البلد في أتون المقاومة، وإحكام ربطه بسياسات إقليميّة محتقنة ومأزومة، مقدّمة لازدهار المسيحيّة والمسيحيّين! ولبنان، وهو ما يرقى الى بديهة، أكثر الأوطان التي يتساوى السلام فيها مع البقاء على قيد الحياة.
والحال أن رغبة متنامية تخترق النُخب المسلمة اللبنانيّة اليوم مفادها البحث عن تعزيز أدوار المسيحيّين بعد التحوّلات الديموغرافيّة وغير الديموغرافيّة التي أضعفتهم. ووراء رغبة كتلك إدراك النُخب المذكورة أن الحضور المسيحيّ هو، حصراً، ما يمنح بلدها خصوصيّته في منطقته. إلاّ أن ما يصدّ الرغبة هذه ويُجفلها كلام وسلوك من النوع الذي تنضح العونيّة والعونيّون بمثله، لا يصحّ في وصفهما إلاّ «التحريض الطائفيّ» في أحطّ أشكاله.
وثمّة في التعبير العاميّ بطلٌ مفترض لا يهمّه أن «يحرق بلداً كي يُشعل سيجارة». فهل عرفه المسيحيّون وهلاّ انتبهوا؟
(الحياة)