حفلات «الانتصار» ما زالت عامرة في ديارنا. الآن دور غزة. تحدث
خالد مشعل من دمشق عن «إنتصار الاسلام» فيها… بالسحل والسحق والذبح وبرمي البني آدميين من مرتفعات الابنية وبالاعتداء على المسيحيين المتبقين وعلى كنيستهم. تحقّقت هواجس «الانتصارات» السابقة من ان الانتخابات التشريعية والبلدية في بلاد العرب ليست سوى طريق اللاديموقراطيين المتسلّطين… الى السلطة بصفتهم «المعارضة» الأقوى الآن. وهذا مثل المانيا الصناعية القوية ذات التقاليد المؤسساتية، التي أوصلت الى السلطة وبالانتخابات هتلر والنازية. فما بالك بعالم عربي منفلت أمنيا، فاشل ومنهار و…، وقد هبطت عليه «الاجندة» الاميركية بالغزو والعدوان وبديموقراطية أشبه بوجباتها السريعة: جاهزة، معلّبة، مضِرّة، سطحية، محدودة بفعل الاقتراع وحده دون غيره من أنشطة الدمقْرطة ومجالاتها. انها «أجندة» الفوضى والتخبّط والحسابات الخاطئة… وهكذا وجدت الميليشيات الاصولية المسحلة ضالتها: انتخابات؟ فلتكن انتخابات طالما ان «الجماهير» صارت، بفعل الجهد وطبيعة الحقبة… معنا. نلعبها دستورية ونستولي على ما تبقى من سلطة. نجسّد سلطتنا الشعبية. فـ»الجماهير» ايضا وجدت ضالتها في هذا النوع من الاسلام؛ مشحونة بطاقة الموت الانتحاري المحتّم؛ تسبقه لذة الوعد بجنّات تجري من تحتها الانهار…
مسؤولية المجتمع جسيمة؛ الظلم والقهر وانعدام السُبُل؟ هذه جميعا لم تعد مبررا كافيا لارتكاب الحماقات والوقوع في الأفخاخ القاتلة… ثم بعد وقوع الواقعة، الصراخ العالي بالمؤامرة. المجتمع مشبع بالكراهية كيفما ولّى. الاصولية المسلحة، تسليحا واقعيا ام محتملا، ليست هي وحدها التي افرغت عقله وروحه وجعلت احد زعمائه يعلن ان «الاسلام انتصر» في واقعة الذبح العلني (وقد صورها «تلفزيون القدس»، التابع لـ»حماس»، إمعانا في الغلبة). بل «الدولة» ايضا، او بالاحرى السلطة التي تناصبها العداء، مسؤولة عن تنامي هذه الاصولية. سلطةٌ استعاضت عن شرعيتها المفقودة منذ عقود بتمثيلية «اسلامية» ايضا تديرها بتخبط الذين لا يريدونها دينية ولا يريدونها مدنية، بحيث اصبح المجتمع نفسه يتفوّق على نفسه بفوضاه الاصولية. ما عليك سوى تمرير نظر سريع اليه: التسليم التام لخطباء الكراهية ولفتاوى الركاكة الدينية وحتى للمفارقات السياسية الفاقعة. خذ عزة مثلا: بأي منطق يوصل الشعب الفلسطيني نفسه والذي أيدت غالبيته حلا للصراع يقوم على دولتين متسالمتين متجاورتين، الى البرلمان اوائل 2006 غالبية من «حماس» التي ترفض وجود اسرائيل، بل تدعو الى تحرير فلسطين «من البحر الى النهر»؟ سوف يقال طبعا ان الاعتداءات الاسرائيلية الدائمة وتخاذل «فتح» وفسادها وتسلّطها مسؤولة… وهذه عوامل بالتأكيد كانت حاسمة. لكن ما الذي ساهم بذيوعها ونموها؟ أليس المئة قتيل اسرائيلي بعمليات انتحارية تزيد البطش بطشاً؟ عمليات نهلل ونكبر على أساس انها «مقاومة»؟
«حماس» التي تتذرع باسرائيل والسلطة هي نفسها من رسم ملامحهما. «معارضة» لن تفضي الا الى ما افضت اليه… ثم بعد ذلك تلعب «حماس» لعبة التعجب (؟) من مقاطعة اوروبا واميركا، ومن قطع المعونات… كأنها لا تعلم بأن الشر الاسرائيلي سوف يتعاظم، ليصبح مطلقاً في حال شُهر في وجه اسرائيل شعار محوها عن الخريطة! هل كانت «حماس» مثلا تتصور بميثاقها الداعي الى هذا المحو ان اسرائيل سوف ترد عليها بالورود؟
ماذا تريد «حماس» حقا؟ خالد مشعل رئيس مكتبها السياسي يقول من دمشق ان «الاسلام انتصر» في واقعة غزة الانقلابية الدموية. اما زعيمها الآخر، المقيم في غزة، اسماعيل هنية، فيؤكد ان «ما حصل في غزة اخطاء فردية متفرقة لأن احدا لم يكن قادرا على السيطرة على المشاعر… ونحن نرفض الاعتداء على القانون والمؤسسات». لاحظ عبارة «الاخطاء الفردية المتفرقة»، وكان اسمها ايام عزّ ياسر عرفات في بيروت المتحاربة بين ميليشياتها المختلفة، «العناصر غير المنضبطة». العدّة اياها: توزيع الادوار، تمرير من تحت الطاولة، ابداء الاستعداد للتعامل مع المؤسسات الديموقراطية والتلاعب بها وبالصفات الدستورية… بل الاستعداد للتعامل مع العدو «فقط لتسيير الأمور الحياتية التي تخدم المواطن الغزاوي» من كهرباء وماء. ثم استمرار القتال. الى ان تبلغ الوحشية ذروة اخرى… فمفاوضات فممانعة فقتال… تسهيلا لحياة تروستات السلاح الدولية. كل هذا جربته المنطقة مع تسميات مختلفة، وكان مآله ما هو أمام اعيننا الآن من اضمحلال للدولة والقانون والأمن والمؤسسات. وهذه ليست تهمة، بل قالها محمود الزهار، القيادي في «حماس» لمجلة «دير شبيغل» الالمانية. فهو يؤكد في مقابلة معه ان «حماس» تريد «طبعا تأسيس دولة اسلامية»، ولكن «بدعم كامل من الشعب». اي بعد التغلب عليه عقلا وروحاً. وهو يعترف بأن «حماس» لن تستطيع تأسيس دولة اسلامية حاليا لأننا ما دمنا، نحن الفلسطينيين، لا نملك دولة، فسنحاول بناء مجتمع اسلامي». اي لا دولة، بل سلطة أمر واقع على الارض، مؤسساتها «منها وفيها»، تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر وتحول المسيحيين الثلاثة آلاف المتبقّين الى مكسر عصا او رهينة… وتتعرض بالطبع للإعتداءات والمقاطعة، فيموت مليونها والنصف مليونا قهرا واحباطا وجوعا… وتصاب عقولهم بالمزيد من الجفاف. لكن الاهم من كل ذلك ان «إنتصار الاسلام» في غزة الشقية أوقعها في شِرك «الساحة»؛ وقد سبقها اليه لبنان في «إنتصار تاريخي واستراتيجي» لـ»حزب الله» الصيف الماضي. جبهة جديدة إشتعلت وجه اميركا واسرائيل، تقودها ايران وتعينها سورية… وكل واحدة من هذه الساحات صارت قادرة على ردّ شيء من الهجوم الاميركي على ايران… كما يتبارى المسؤولون الايرانيون بالتلويح به في وجه اميركا واسرائيل.
كل الذين غطّوا «إنتصار الاسلام» في غزة مؤخراً لاحظوا صلابة واندفاع مقاتلي «حماس» مقابل رخاوة مسلحي «فتح» وتلاشي ارادتهم. واستنتج بعضهم ان هذه الهوة كانت القاضية على «فتح»، وسبباً من اسباب «إنتصار حماس». لِمَ؟ لأن خصومها يفتقرون الى المعاني: سلطة اصبحت قديمة، تعييناتها ابدية، تمريناتها مكرّرة… والآن ما من شيء يقنع أنفارها بجدوى حمايتها «حتى الموت» سوى راتب شهري لا يسدّ رمقاً…
الانقلاب الميليشيوي الاصولي في غزة اشعل الخلاف بين نواب الحزب الحاكم المصري ومعارضته الاخوانية المؤيدة لـ»حماس». صورة ميليشيات الازهر في العام الماضي اعادها نواب الحكومة الى الاذهان. وسجال حاد وصراخ لنواب «الاخوان المسلمين» الذين وجدوا في تأييد الحكومة لـ»فتح» ثغرة اخرى في حجج النظام المتهالكة.
والسؤال الذي بات لا يحيد اليوم: انت مع «حماس» او مع «فتح»؟ اي انت مع الحكومة او المعارضة؟ هل هذا «خيار» بالاصل، ذاك الذي يخيّرنا بين استمرار الامور على ما هي عليه من تدهور وبين تسليم السلطة الى الذين يزيدونها تدهوراً؟ هل نحن مضطرون فعلا الى الاختيار بين السيء والأسوأ؟
dalal_el_bizri@hotmail.com
الحياة