قبل غزو روسيا لأوكرانيا خرجتْ عشراتُ المبرراتِ التي حضّرتْ مسرحَ العمليات للحرب، بدءاً من مخطط الانضمام إلى الناتو، مروراً باضطهاد أقلياتٍ على الحدود، وانتهاءً بنشْرٍ مزعومٍ للصواريخ.
وقبل يومين، ومع اقتراب الحرب من عامها الثاني، وفّر نائبُ رئيس مجلس الأمن الروسي ديمتري ميدفيديف على الجميع عناءَ تكذيبِ المبررات وقال صراحةً إن أوكرانيا هي «أرض سانيكوف المزعومة غير الموجودة على أرض الواقع مهما حاولتْ سلطاتُ كييف والغرب إثباتَ العكس…أوكرانيا المزعومة هي أرض تابعة للإمبراطورية الروسية».
الحربُ، إذاً، هي لإعادة الفرع إلى الأصل، أو بالتعبير الحقيقي للكلمة الضمّ القسري لدولةٍ مستقلّة مُجاوِرة وقتْل سيادتها.
ملاحظة: أرض سانيكوف هي جزيرة وهمية في المحيط المتجمّد شمال جزر سيبيريا الجديدة.
يقال إن بحارةً رأوها في القرن التاسع عشر، ومنذ ذلك الوقت لم يُثْبِتْ أيُّ بحثٍ وجودَها.
ذَكَّرَنا الكلامُ الصريحُ لميدفيديف بالمبررات التي ساقَها صدام حسين لغزو الكويت، بدءاً من الكلام عن المساعدات التي تحوّلت إلى ديون، مروراً بشفْط النفط، وانتهاءً بتنفيذِ مؤامرةٍ أميركيةٍ دوليةٍ لخفْض أسعار الطاقة وبالتالي إفلاس العراق.
وخلال تفاصيل محاكماته المُتَلْفَزَة زاد صدام أسباباً أخرى لتحريض الناس وصلتْ حدَّ إقحام النساء في الموضوع… ولو قُيّض له الكلام أكثر لربما قال إن استخباراته سمعتْ شخصيْن كويتييْن في ديوانيةٍ يعترفان بأنهما دمّرا المفاعل النووي العراقي.
ومناسبةُ التذكّر، ما امتلأت به وسائل التواصل الاجتماعي من آلاف العبارات التي تتحدّث عن ذكرى إعدام صدام حسين في عيد الأضحى وما صاحَبَها من تمجيدٍ له من قوميين ويساريين وعروبيين وبعثيين اعتبروا أن الأمةَ العربيةَ خسرتْ مَن كان السدَّ في وجه إيران وبالتالي اختلّ التوازنُ الإقليمي.
كثيرٌ من العرب يعيشون عقدةَ عَجْزٍ تَسَبَّبَتْ بها أنظمتُهم الشبيهة بأنظمة صدام من جهة والعدالة الدولية الغائبة في قضايا مُحِقَّة مثل فلسطين من جهة أخرى. والعاجزُ، أسيرُ الخيبة، يتطلع دائماً إلى بطلٍ حتى ولو قضى هذا «البطل» على كل مقدّرات الدولة وحوّل نصفَها سجناً كبيراً والنصفَ الآخَر مقبرة.
لدى مُراجَعَةِ محضر اجتماعِ صدام حسين مع الشاذلي النفاتي مبعوث الرئيس التونسي آنذاك زين العابدين بن علي في 1 سبتمبر 1990، أي بعد نحو شهرٍ على غزو الكويت، يتّضح التالي حرفياً بالنسبة إلى «مبدئية» القائد الذي دمّر بلادَه في حربٍ مع إيران ممزِّقاً اتفاقية الجزائر لاستعادة شطّ العرب وأراضٍ يقول إنها عراقية. يقول صدام للمبعوث التونسي (المَحْضَر عراقي): «أوشك أن ينتهي كل شيء إلى حلٍّ بيننا وبين إيران، ومع ذلك اذا اضطُررنا لأن نُعْطي نصفَ شط العرب (لها) فسنعطيه».
ويضيف: «إننا استراتيجيون، ويجب ألا نقسم قوّتنا على جبهتين، فهذه المعركة تحتاج كل الجيش». ويضيف بكل بساطة: «قلنا للعراقيين إن قيمة شط العرب الآن ليست تلك القيمة الاستراتيجية التي كانت عليه بعد أن وصلنا إلى البحر».
…هكذا يُذيبُ القائدُ المهيب مليون قتيل و400 مليار دولار خسائر و8 سنوات يحملها المصابون والمعوقون والمفقودون، ويتخلّى لإيران لاحقاً عن أكثر مما أعطى في اتفاقية الجزائر. لماذا؟ لأن مَن وصل إلى البحر لا يهمّه النهر.
وفي المَحْضَرِ المذكور يعيد صدام روايةَ المبررات التي ساقها لغزو دولةٍ جارةٍ، لكنه مثل ميدفيديف وفّر على مفنّدي هذه المبررات الوقتَ، حيث يَرِدُ حرفياً: «كانت الكويت قائمقامية تابعة لمحافظة البصرة (…) حَشَدَ عبدالكريم قاسم جيشاً ليمنع تَحَوُّلها إلى دولة عام 1961 وضاعتْ على الدولة العراقية فرصةَ أن تلتئم مع جزئها الضائع (..) الكويت كلها بأيدينا، وتحوّلت إلى محافظة، هذا واقع حصل». ثم يقول بـ «تَواضُعٍ» إنه الوحيد الذي تَعامَلَ طبيعياً مع الكويت منذ 1974 «ورفاقي لم يكونوا مرتاحين في حقيقتهم لكل مساراتِ تلك السياسة المتسامحة».
ويختم صدام بالقول: «إن السعوديين وضعوا أنفسهم في وضْعٍ يرثى له».
انتهى المَحْضَرُ، وانتهتْ الحربُ إلى ما انتهتْ عليه، وتَحَرَّرَتْ الكويت، وتَدَمَّرَ العراق، واختبأ «البطلُ» في حفرةٍ والمُغْرَمون يُهَنْدِسون نظريةَ أن هروبَه فَبْرَكَةٌ أميركيةٌ، وأعانت السعودية التي رأى أنها في وضعٍ يُرثى له والكويت ودولُ الخليج أطلالَ دولةٍ كانت مهدَ حضارةٍ فخّخها شخصٌ من الداخل بشكلٍ عنقودي.
ومثلما أن أرضَ سانيكوف وهمية، فبطولةُ صدام وهميةٌ، وبطولةُ أشباهه وهميةٌ، لكن الفارق بين أرضٍ غير موجودة على الخريطة وبين مَن كاد يزيل بلادَه عن الخريطة هو حجمُ الكوارث التي يراها المُغْرَمون… بطولةً ومَرْجَلَة.