في حالة انسداد الحوار السياسي المثمر بين واشنطن وموسكو، لن تؤدي اندفاعة بوتين إلا إلى المزيد من التعقيد للوضع السوري.
في نهاية سبتمبر 2015، دخل الصراع في سوريا وعليها منعطفا جديدا مع بدء سلاح الجو الروسي عملياته، وتعزيز الوجود الروسي في الساحل السوري. وقد أتى ذلك بعد انعقاد قمة الرئيسين باراك أوباما – فلاديمير بوتين، وخطاب الرئيس الروسي أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة.
تحت عنوان الحرب ضد الدولة الإسلامية (داعش) كسر القيصر الجديد عزلته، بسبب أوكرانيا، من البوابة السورية وفرض نفسه لاعبا لا يمكن الالتفاف عليه في المسألة السورية، فهل ينجح بوتين في ما يسمى “الحرب ضد الإرهاب” حيث فشل أوباما، وهل ستؤدي اندفاعة بوتين إلى تفاهم أو اختبار قوة مع واشنطن؟
الأرجح أن مثال بوتين في التاريخ الروسي هو الإمبراطورة كاترين التي نجحت قبل غروب شمس آل رومانوف في تمديد حدود الإمبراطورية الروسية إلى ضفاف البحر الأسود، أي إلى مشارف آسيا الصغرى التي كانت تضم الإمبراطورية العثمانية – التركية، مع تحقيق اقتراب نسبي من حلم القياصرة عبر العصور، وهو الوصول يوما إلى حيث المياه الدافئة قرب مضايق البوسفور والدردنيل ومنها إلى البحر الأبيض المتوسط.
وربما في محاكاته لتاريخ بلاده تذكر سيد الكرملين أن روسيا القيصرية كانت شريكا في “اتفاقية سايكس – بيكو”، لكن الثورة البلشفية التي كشفت اللثام عنها ونست حصة موسكو من تقاسم المشرق والإمبراطورية العثمانية. وفق وثائق تلك الحقبة، تبلورت الاتفاقية الآنفة الذكر إثر مفاوضات دارت في القاهرة بين فرنسا وبريطانيا وروسيا، وانتقلت بعدها إلى مدينة سان بطرسبورغ الروسية. وكان الاسم الأصلي للاتفاقية “سايكس – بيكو – سازانوف” (نسبة إلى اسم سيرغي سازانوف وزير الخارجية الروسية آنذاك). وزيادة على تقاسم المشرق وجواره إلى مناطق نفوذ فرنسية وإنكليزية، انبثق عنها، لاحقا، كيانات عربية ودولة إسرائيل، كان من المفترض أن تنال روسيا الولايات التركية الشمالية والشرقية وما تعنيه من سيطرة على مضايق الدردنيل والبوسفور، أي التحكم بحركة الملاحة الدولية.
في جلسة خاصة مع مؤرخ روسي اعتبر أن “الروس خرجوا خاسرين من اتفاقية سايكس بيكو، ليس بسبب الآخرين بل بسبب الثورة الشيوعية التي ركزت في بداياتها على الداخل وليس على النفوذ الخارجي”. والآن بعد قرابة المئة عام على اتفاق سايكس- بيكو- سازانوف، يضع بوتين هذا التاريخ نصب عينيه، كي يؤكد على دور بلاده في التوازنات العالمية وعلى الوجود في المياه الدافئة وفي شرق البحر الأبيض المتوسط بالذات في منطقة بالغة الأهمية من الناحية الجيو إستراتيجية، وليس بعيدا عن منابع الطاقة وطرق مرورها ووسط العالم الإسلامي وصراعاته.
تدل مجريات الاشتباك الإقليمي والدولي الدائر على الأرض السورية على تحول الصراع فيها وحولها إلى ما يشبه “اللعبة الكبرى” في القرن التاسع عشر. في مطلع ذاك القرن كانت السيطرة على آسيا الوسطى محور الصراع بين الإمبراطوريتين البريطانية والقيصرية الروسية، وتحديدا حول الهند “جوهرة تاج” الامبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس بوجه التهديدات الروسية آنذاك. لكن الصراع المتمركز في أفغانستان والذي انخرط فيه العديد من الدول الأوروبية، لم يتحول إلى حرب مباشرة، لكنه أسفر عن تراجع الإنكليز.
في بدايات القرن الحادي والعشرين نشهد “اللعبة الجديدة الكبرى” في سوريا المعقل الوحيد للنفوذ الروسي المتجدد بعد سبات لمدة عقدين، والتي تشكل أيضا مستقرا وممرا لنفوذ إيران الحالمة بعودة عصر الإمبراطوريات. في مواجهة المحور الدولي – الإقليمي المدافع عن النظام السوري خاضت الولايات المتحدة الأميركية اللعبة بشكل حذر ليس مراعاة لمصالح إسرائيل، وبانتظار انتهاء التفاوض مع إيران فحسب، بل تطبيقا لنهج جديد أرساه باراك أوباما وقوامه استبعاد التدخل المباشر في استخلاص لدروس حربيْ افغانستان والعراق. وفي هذا الإطار، وجدت فرنسا وبريطانيا اللتان تقاسمتا المشرق، حسب”اتفاقية سايكس – بيكو” منذ قرن مضى، في موقع الشاهد على أفول نفوذ يشبه مرحلة ما بعد حرب السويس في 1956 وانعكاسها على الحضور الأوروبي. والأدهى من ذلك أن القوى الإقليمية المنخرطة إلى جانب المجموعات المناهضة للنظام السوري، وتحديدا تركيا والمملكة العربية السعودية وقطر، كانت مضطرة للتقيد برزنامة العمل الأميركية في الإجمال.
كما في صراع القرن التاسع عشر، منذ أواخر 2011 إلى نهاية صيف 2015، لم يكن هناك احتمال لأي صدام مباشر بين اللاعبين الكبيريْن الأميركي والروسي، بل كان هناك صراع داخلي وحروب بالوكالة تذكر بمقولة غسان تويني عن “حروب الآخرين” في لبنان. بقي المشهد السوري ملتبسا بسبب تقاطعات غير علنية في المصالح ما بين موسكو وواشنطن وإسرائيل وإيران تقضي بعدم إسقاط النظام ولو ليس لنفس الأسباب.
مع تورط المحور الإيراني بقوة منذ خريف 2012، ومع دخول متزايد لقوى “الجهاد العالمي” من منظمة القاعدة وأخواتها وبروز تنظيم “داعش”، سادت المراوحة في المكان وترجيح مسار طويل من عدة سنوات للجلجلة السورية، كما حصل في دايتون بالنسبة للبوسنة بعد حوالي خمس سنوات من المجازر، أو بما يشبه “الطائف” بعد خمس عشرة سنة من الحروب في لبنان.
تلاحقت الأحداث في الأشهر الأخيرة بعد سقوط مدينة “جسر الشغور” وتوقيع الاتفاق النووي الإيراني، وصدرت إشارات واضحة عن متاعب النظام السوري واحتمال تهاويه من الداخل. إزاء ذلك قرر فلاديمير بوتين انتهاز الفرصة وتصرف بشكل تكتيكي بارع انطلاقا من قراءته لتطور الحدث مع التفكير في بعده الجيوسياسي، مستفيدا من مركزية القرار في موسكو وأحاديته بعيدا عن القيود المفروضة على صناع القرار في الدول الديمقراطية. في مواجهة تردد أوباما وعدم وجود إستراتيجية غربية متناسقة، يجد بوتين المسرح السوري جاهزا أمام اندفاعته.
يعتمد الرئيس الروسي على تفهم الصين وإسنادها ليس فقط في مجلس الأمن، بل عبر زيارة حاملة طائراتها منطقة النفوذ الروسي على الساحل السوري. وبالطبع هناك العلاقة الروسية – الإيرانية المميزة في العمل والتنسيق، لأن طهران لن تنتظر اللاعب الأميركي في لعبة إعادة صياغة المنطقة وربما تكتفي بالعلاقة مع موسكو لترتيب دورها. من المبكر الكلام عن “حلف بغداد جديد” على ضوء وجود مركز معلوماتي استخباري لمجموعة 4 زائد 1 (روسيا وإيران والنظاميْن في العراق وسوريا، بالإضافة إلى حزب الله) في الحرب ضد داعش. لكن روسيا تركز أقدامها، كما أن علاقتها عادت قوية مع مصر، وربما تراهن على ترتيب علاقة أفضل مع المملكة العربية السعودية إذا نجحت في إخراج حل سياسي من دون وجود بشار الأسد على المدى المتوسط. في هذا السياق، تبدو تركيا معزولة على ضوء التنسيق الروسي – الإسرائيلي المحدود.
يكمن التحدي الأكبر أمام واشنطن وباريس ولندن وبرلين في التعاطي مع الهجمة البوتينية وآفاقها. يمكن أن تبدأ المقايضة حول الأزمة الأوكرانية عبر تخفيف أو إلغاء العقوبات ضد القيصر، مقابل إخراج حل سياسي واقعي في سوريا يضمن مصالح روسيا، ويمكن أن نشهد اختبار قوة إذا قرر أوباما تغيير نهجه.
في الحرب الجوية لا يتوقع الأخصائيون أن يسجل بوتين انتصارات فارقة، إلا إذا خاض معه المحور الإيراني معارك برية على الأراضي السورية وهذا ليس بالأكيد. ولذا في حالة انسداد الحوار السياسي المثمر بين واشنطن وموسكو، لن تؤدي اندفاعة بوتين إلا إلى المزيد من التعقيد للوضع السوري. لكن القيصر الجديد يتصور أن بإمكانه حجز “أبخازيا جديدة” على الساحل السوري، ولكن من الصعب التمركز في هذه البلاد واحتلالها طويلا كما علّمنا التاريخ.
khattarwahid@yahoo.fr
أستاذ العلوم السياسية، المركز الدولي للجيوبوليتيك – باريس