على الرغم من الاحتياطي الرسمي الصيني الذي يعتبر الأكبر في العالم فإنه لن يستطيع سوى تغطية 14% من حجم ديونها الاجمالية
تجتاح العالم اليوم مخاوف كثيرة حول الصين، نجد تجلياتها في الكم الكبير من التحليلات والتنبؤات التي تكتب عن اوضاعها الإقتصادية وأيضا عن أوضاعها السياسية على اعتبار أن الأولى تؤثر على الثانية لا محالة.
مما لاشك فيه أن الصين حققت نموا اقتصاديا بمعلات عالية منذ انفتاحها على العالم وتخليها عن السياسات الاشتراكية الجامدة في عام 1978. فبفضل نجاحها في جذب الاستثمارات الاجنبية الباحثة عن الايدي العاملة الرخيصة، واعتمادها على التقليد والتصنيع لأغراض التصدير، والتزام المواطن الصيني بقيم الإدخار، حقق ناتجها المحلي الاجمالي نموا سنويا بمتوسط تجاوز نسبة 10%. وارتفع دخل الفرد الشهري (مقدرا بقوته الشرائية) من 150 يورو في عام 1978 إلى ألف يورو في عام 2015، وزادت أعداد المواطنين الأثرياء تدريجيا.
غير أن كل هذا بدأ يتغير منذ بعض الوقت مع التراجع الاقتصادي في العالم والشعور بمخاطر الاعتماد المفرط على الصادرات والاستثمارات الاجنبية، وغياب اقتصاد الخدمات والابتكار والمعرفة، وانفتاح شهية المواطن الصيني على الانفاق بدلا من الادخار. دعك مما تسببت فيه الطفرة الاقتصادية على مدى 30 سنة من مشكلات مثل الافراط في استخدام الطاقة المستوردة، وتفاقم التلوث البيئي، وانتشار الفساد في الدوائر الرسمية ومجتمع المال والاعمال، واتساع الهوة التنموية والخدمية ما بين المدن والأرياف، والتفاوت الكبير بين مستويات المعيشة، وتقلص حصة الدولة في رأس المال الوطني تدريجيا منذ عام 1978.
دوائر النظام الحاكم في بكين لئن اعترفت ببعض الحقائق السابقة فإنها لا تدق ناقوس الخطر، بل إنها تبدو متفائلة وتروج لمقولة أن الأمور تحت السيطرة وأن الحزب الشيوعي الحاكم قد أعد خطة اقتصادية محكمة للسنوات من 2016 ــ 2020، وأن هذه الخطة تبشر بفرص عالمية، وأن وضع ميزان المدفوعات جيد والعجز المالي قليل ونسب الإدخار مرتفعة (يتناقض هذا مع تقرير صندوق النقد الدولي في يونيو 2016 حول وصول حجم الديون الاجمالية الصينية إلى 28 تريليون دولار أي 282% من الناتج المحلي الإجمالي، وفشل مساعي السلطات في معالجتها واحتمال أن يؤدي هذا إلى أنهيار مالي سريع او تباطؤ اقتصادي كبير في البلاد).
دعونا نقرأ (بتصرف) ماكتبه الباحث الصيني “لي قانغ” في صحيفة “تشاينا توداي” الرسمية: “تتبنى الصين في خطة التنمية الاقتصادية والاجتماعية الوطنية الجديدة فكرة أن الاستهلاك هو القوة الدافعة الأساسية للنمو الاقتصادي. وتشمل نقاطه الرئيسية تحسين نظام الضمان الاجتماعي وإنشاء شبكة للضمان الاجتماعي، الأمر الذي سيزيد دخل المواطنين القابل للإنفاق وتحرير قوتهم الشرائية، وبالتالي تعزيز الاستهلاك. تسير التحركات في هذه الأثناء على قدم وساق لتعزيز اقتصاد السوق في سوق المال والقضاء على القيود المالية لتوفير بيئة تمويل جيدة، وأيضا لزيادة الاستثمار العقلاني في ظل تزايد الاستهلاك وتحسين بيئة التمويل، وبالتالي دفع نمو الاقتصاد وزيادة فرص العمل. إن تحول نمط نمو الاقتصاد الصيني يساعد في تحقيق تنمية مستدامة وسليمة للاقتصاد الصيني والعالمي على حد سواء. وبعبارة أخرى، فإن النمو الاقتصادي الصيني المستدام والمستقر، وترقية هيكل الاستهلاك لسكان الصين، وتحسين الهيكل الصناعي، وتحقيق التحول الحضري سوف يجلب النفع للبلاد، وأيضا سيقدم فرصا جديدة للتنمية الاقتصادية في البلدان الأخرى”.
غير أن المراقبين الأجانب، الذين يأخذون على الصينيين عدم مصداقية احصائياتهم الرسمية، لهم رأي آخر. فـ “ديفيد شامباو” وهو أستاذ مرموق في جامعة جورج تاون الأمريكية كتب في “وول ستريت جورنال” متحدثا عن جملة من العوامل الداخلية المؤثرة سلبا على الأوضاع الإقتصادية في الصين، وبالتالي المؤدية تبعا إلى تآكل النظام السياسي. من أبرز هذه العوامل تراجع الرئيس الحالي “شي جينبينغ” عن خطط أسلافه في تعزيز الانفتاح الاقتصادي والإصلاح السياسي وضم أعداد أكبر من رجال الأعمال والمثقفين إلى لجان الحزب الحاكم المحلية، وقيامه بحملات متتالية ضد المعارضين ومواقع التواصل الاجتماعي وشبكات الانترنت وطلبة الجامعات، واستخدامه فزاعة الفساد لضرب النخب الاقتصادية ورجال البيروقراطية الحكومية الذين يشك في ولائهم له. وخلص الكاتب إلى القول أن أجواء كهذه دفع الكثيرين من النخب الاقتصادية الصينية إلى التفكير بالهجرة، خصوصا أصحاب الثروات البليونية أو المليونية ( طبقا لمركز شنغهاي هورون للأبحاث فإن 64% من أثرياء الصين أو نحو390 مليونير وبليونير هاجروا او يعدون للهجرة لاسيما وأن أولادهم يدرسون في الخارج). هذا ناهيك عن أن الكثيرين من هؤلاء، وبينهم أعضاء في الحزب الحاكم، يبعثون بزوجاتهم إلى كاليفورنيا وقت الولادة كي يحصل أبناؤهم على الجنسية الامريكية. ففي مارس من عام 2015 داهمت شرطة الامريكية في جنوب كاليفورنيا مراكز عديدة متهمة بالضلوع في ما أطلق عليه “سياحة الولادة”.
وحول ديون الصين التريليونية كتب الاقتصادي العراقي د. صباح نعوش موضحا أنه على الرغم من الاحتياطي الرسمي الصيني الذي يعتبر الأكبر في العالم فإنه لن يستطيع سوى تغطية 14% من حجم هذه الديون، ومشيرا إلى أن بكين فشلت في معالجة المشكلة لأن جل ما قدمته من قروض للمؤسسات العاجزة لم يستخدم في تصحيح الخلل وإنما استخدم في مشاريع عقارية وخدمية. فمثلا “تم بناء عقارات لا تزال غير مستغلة ولا يمكن بيعها، وتم تعبيد آلاف الكيلومترات من الطرق السريعة دون جدوى اقتصادية وحاجة فعلية. وشيدت فنادق ومراكز تجارية خالية من الرواد. وهنالك أمثلة أخرى عديدة لأنشطة عديمة الجدوى”.
*أستاذ العلاقات الدولية المتخصص في الشأن الآسيوي من البحرين
Elmadani@batelco.com.bh